القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

النازحون على باب «الأونروا».. متى سنرجع؟

النازحون على باب «الأونروا».. متى سنرجع؟


السبت، 05 كانون الثاني، 2013

مدرسة الجليل في منطقة الرحاب، كانت المكان الذي انتشروا فيه كالزهور البرية. بعضهم جلس على المقاعد الحجرية الموزعة على جنبات الساحة الصغيرة، آخرون اتكأوا على الجدران، بعضهم جلس ببساطة على الأرض بانتظار دوره في استلام ورقة الإعانة المتواضعة التي أعلنتها «الأونروا» للنازحين الفلسطينيين من سوريا، والإعانة عبارة عن 65 دولاراً للفرد ومقسمة كالتالي: 40 دولاراً نقداً و25 دولاراً على شكل قسيمة تسمح لحاملها الشراء بقيمتها ما يريد من السلع من إحدى التعاونيات المتعاقدة معها، غالبية النازحين من مخيم اليرموك، وباعتباري واحداً منهم، كانت بعض الوجوه مألوفة لدي وأعرفها منذ أيام المخيم، بعضها الآخر كانت غريبة عني، ولكن علامات الوجع والأسى التي ارتسمت على الوجوه هي القاسم المشترك بينهم جميعاً، وحدهم الأطفال من كسروا حدة المشهد، فقد استغلوا فترة الانتظار الطويلة في لعب كرة القدم، وكانت الكرة التي لعبوا بها عبوة مياه بلاستيكية، لا يبدو أنه يهمهم شكل الكرة، المهم أن يلعبوا.

في طرف الساحة جلست الحاجة أم خليل على أحد المقاعد الحجرية، وراحت تروي وجعها لي وأيضاً لجارتها في المقعد وزميلتها في النزوح من مخيم اليرموك، كانت تشكو غلاء الأسعار في هذا البلد الذي يطال كل شيء، أجرة السكن والمواصلات والسلع المختلفة وصولاً إلى الطبابة، فهي تعاني من مرض بالكلية والتحاليل الأولية تكلف مئة ألف ليرة، وهي لا تملك قرشاً واحداً منها. وتتابع الحاجة روايتها عن سوء واقعها المعيشي بعد نزوحها، والدمع يغطي عينيها: «أصبحنا ننام على البلاط ومياه الشتاء دخلت علينا من تحت الباب في شقة صغيرة تتشاركها ثلاث أسر، ومكونة من غرفتين وصالون لا تكفينا جميعنا». ثم بدأت النظر حولها كأنها تحاول الهرب من هذا الواقع المرير، ولكن منظر الطابور المتضخم امامها، الذي احتل وسط المدرسة، اعادها إليه، فتنهدت وقالت: «نحنا ولاد عز، بس الزمن اللي ذلّنا». وفي محاولة لاستعادة ذلك الماضي الجميل الذي تفتقده، انتقلت للحديث هذه المرة مزهوة عن أيام المخيم وأين كانت تسكن وماذا كانت تملك في منزلها ومن كانوا جيرانها، ولكن في ما يبدو خلال محاولتها هذه اكتشفت للتو صعوبة المقارنة بين تلك الأيام التي عاشتها في المخيم والأيام التي تعيشها بعيداً عنه، فختمت حديثها: «قلت لابنتي اريد الرجوع إلى المخيم».

الحاجة أم خليل وكثير غيرها من الأسر هربت إلى لبنان بعد تعرض مخيم اليرموك للقصف بالمدافع والطائرات، بعدما تحول إلى ساحة حرب حقيقية بين قوات المعارضة السورية المسلحة وأحد الأطراف الموالية للنظام في المخيم، فبعد أن كانت سيدة في منزلها هناك، أصبحت اليوم نازحة في لبنان، وبعدما كانت لاجئة من وطنها المحتل إلى سوريا أصبحت أيضاً نازحة إلى بلد آخر، وعادت من جديد لتصبح رقماً في طوابير الإغاثة وكأن مشهد الهجرة الأولى يستعاد واقعياً بمرارته وتفاصيله مرة أخرى، ولكن في زمن جديد.

المرارة ذاتها كانت لدى الحاجة أم علي وباختلاف بسيط، فهي لم تهرب من مخيم اليرموك بل كان إحدى محطاتها في مرحلة نزوحها الداخلي من منطقة الحجر الأسود وعبره إلى مخيم جرمانا وصولاً إلى بيروت في نزوحها الخارجي، وهي مثل الحاجة أم خليل لم تشأ الدخول في التفاصيل عندما سألتها عن سبب نزوحها، فأجابت باختصار: «بسبب ضياع الأمان». تضيف مبررة نزوحها بأن ابنها رزق منذ أيام قليلة توأماً من الذكور، عبد الله وجلال. وهربت بهم هي وأمهما إلى لبنان، أما والدهم ففضل البقاء في المخيم ليحمي شقى عمره، المنزل. أم علي كغيرها من النازحين شكت سوء المعيشة وغلاء الأسعار وصعوبة الحصول على الإغاثة، ولكنها فجأة قطعت شكواها، كأنها خجلت من المتابعة فيها، فاستغلت بكاء الصغير الذي كانت تحمله وانطلقت به إلى أمه الواقفة في الطابور وبقيت هناك.

الحاجة أم علي ذهبت ولكنها تركت وراءها كلمتين تعكسان مخاوف جميع النازحين، ففي بداية جلستنا سألتني بعيون قلقة: هل سنرجع قريباً؟ ولم أجد جواباً يمنحها الأمل الذي تريد من دون أن أكذب سوى: «إن شاء الله»، ففي ظل الفشل غير المعلن رسمياً للاتفاق الذي أبرمته منظمة التحرير الفلسطينية مع القوى المتصارعة في دمشق للنأي بالمخيم وأهله عن هذا الصراع، لا تزال الاشتباكات تحدث في داخله والقذائف تسقط عليه، والوضع يزداد سوءاً بأنباء الحصار الذي تفرضه قوات النظام على المخيم ومناشدات الأهالي لفكه بسبب النقص الشديد بالمواد الطبية والغذائية، إضافة إلى انقطاع خدمات الكهرباء والاتصالات، وغياب أي دور دولي أو أممي لحمايتهم باعتبارهم لاجئين بالعرف الدولي ومحميين بالقانون الدولي وحتى منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية غائبة عن المشهد حتى الآن، وكل هذا يرجح زيادة عدد النازحين إلى دول الجوار ممن بقوا في اليرموك والمخيمات الأخرى.

المخيم بالنسبة إلى الفلسطينيين في الخارج هو محطتهم الأولى والأخيرة في انتظار العودة إلى بلادهم واليوم خرجوا منه مرغمين على مرأى ومسمع العالم، واجتمعوا في طابور الإغاثة «اللعين» في مشهد مستعاد من مشاهد النكبة الأولى، وأصبح السؤال الذي يبحثون عن إجابته وهم واقفون على أبواب الأونروا... متى سنرجع؟

المصدر: السفير