أربع ساعات في المخيم
الكاتب الفرنسي
جان جينيه «أربع ساعات في شاتيلا» اثر وقوع مجزرة صبرا وشاتيلا

الأربعاء، 18
أيلول، 2013
ألف الكاتب الفرنسي
جان جينيه «أربع ساعات في شاتيلا» اثر وقوع مجزرة صبرا وشاتيلا. هنا ترجمة لبعض المشاهد:
كان صوته ناشفاً،
ربما لأنني أيقظته مفزوعاً. نظر في جواز سفري، ثم قال لي بالفرنسية:
-هل جئت من هناك؟ (كانت اصبعه تشير إلى مخيم شاتيلا(
ــ نعم.
ــ وهل رأيت؟
ــ نعم
ــ وهل ستكتب ما
رأيت؟
ــ نعم
أعاد لي جواز السفر،
ثم أشار إليَّ بأن أنصرف. انخفضت البنادق الثلاث وأفسح لي الجنود طريق المرور.
لقد أمضيتُ أربع
ساعات في شاتيلا، وما يزال في ذاكرتي أربعون جثة تقريباً.
وهي كلها ـ ألح
على انها كلها ـ قد تعرضت للتعذيب غالباً، وسط نشوة المعذِّبين، وأغانيهم، وضحكاتهم،
ووسط رائحة البارود.
لا شك أنني كنت
وحيداً، أقصد أنني كنت الأوروبي الوحيد (مع بعض العجائز الفلسطينيات اللائي ما يزلن
يتشبثن بخرقة بيضاء ممزقة، ومع بعض الفدائيين الأشبال دون أسلحة)، لكن لو أن هؤلاء
الأشخاص الخمسة، أو الستة، لم يكونوا موجودين هنا، واكتشفت وحدي تلك المدينة الصريعة
المجندلة، والفلسطينيين الممددين أفقياً بجثثهم السوداء المنتفخة، لكنت قد صرت مجنوناً،
أم أنني صرت بالفعل مجنوناً؟ هل تلك المدينة المهشّمة المحطّمة التي رأيتها، أو ظننت،
انني رأيتها وتجوّلت فيها، وهي محمولة على رائحة الموت القوية، كانت، بالفعل، موجودة؟
**
من جدار إلى جدار،
داخل زقاق، الأرجل مقوّسة أو مدعمة تدفع الحائط، والرؤوس متكئة بعضها على بعض والجثث
المسودة المنتفخة، التي كان عليّ أن أتخطاها، كلها كانت جثث فلسطينيين ولبنانيين. بالنسبة
لي، كما بالنسبة لمن بقي من السكان، التجول في شاتيلا وصبرا يشبه لعبة النطّة (علينا
ان ننط فوق الجثث!). وقد يستطيع طفل ميت أحياناً، أن يسد الأزقة لأنها جد ضيقة، والموتى
كثر. ولا شك أن رائحتهم مألوفة لدى الشيوخ: فهي لا تضايقهم. لكن، ما أكثر الذباب.
أوّل جثة رأيتها
كانت لرجل في الخمسين، أو الستين من عمره. وكان مهيأ ليكون له إكليل من الشعر الأبيض،
لولا أن شرخاً (ضربة فأس فيما خيّل إليّ) قد فتح جمجمته. جزء من النخاع المسود كان
ملقى على الأرض إلى جانب الرأس.
لقد تحتم عليّ أن
أذهب إلى شاتيلا لأدرك بذاءة الحب وبذاءة الموت. فالأجساد في الحالين معاً، لم يعد
لها ما تخفيه: وضعة الأجساد، تشنجات العضل، الإشارات، العلامات، وحتى الصمت، كلها تنتمي
إلى عالمي الموت والحب.
**
كانت المرأة الفلسطينية
مسنّة. كانت ممددة على ظهرها، موضوعة أو متروكة هناك فوق حجر الدبش، فوق قضبان حديدية
معوجة. اندهشت، أول الأمر، لوجود جديلة غريبة، من قماش وحبل، ممتدة من معصم إلى معصم
آخر، رابطة بذلك الذراعين المتباعدتين، وكأنهما مصلوبان. والوجه الأسود المنتفخ مستدير
نحو السماء، كاشفاً عن فم مفتوح ملأه الذباب.
وأصابع يديها، كانت
مروحية الشكل، والأصابع العشرة مقطوعة.
كانت أطراف الأصابع
العشرة والأنامل، بأظافرها، داخل التراب.
**
إن الموتى الذين
أجدهم، عادةً، وبسرعة، مألوفون، بل ودّيون، ولم أستطع أن أميز فيهم، وأنا أنظر إلى
قتلى المخيمات، سوى كراهية وسرور أولئك الذين قتلوهم. حفلة وحشيَّة جرت هناك: سَمَر،
نشوة، رقص، غناء، نداء، عويل، تأوّهات.. على شرف متفرجين كانوا يضحكون وهم جالسون في
الطابق الأخير من مستشفى عكا.
المصدر: السفير