القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

عرس أخضر في مخيم البرج الشمالي

عرس أخضر في مخيم البرج الشمالي


سامي حمود – لاجئ نت

26، كانون أول 2012

شهد مخيم البرج الشمالي تشييعاً لم يشهد مثله منذ ما قبل عام 1982، حيث تم تشييع الشهيدين المجاهدين باسل أحمد جمعة «أبو مالك» (29 عاماً) من قرية الكساير وحسن سعيد حداد «أبو علي» (22 عاماً) من قرية ديشوم، وشارك أكثر من عشرة آلاف من أبناء شعبنا الفلسطيني في عرس التشييع في مسقط رأسيهما في مخيم البرج الشمالي، وهما أول شهيدين لحركة حماس في لبنان.

وقفات في عرس التشييع

البداية كانت مع عرس التشييع الكبير للشهيدين، والمثل السائد يقول «الحكي مش زي الشوفة»، أكيد لأن التشييع كان بمثابة عرس عظيم لشهيدين كبيرين بتواضعهما وصدقهما وإخلاصهما لربهم فكانوا مثلاً يُحتذى. فعند مدخل مخيم البرج الشمالي تجمّع الآلاف من أبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان كي يستقبلوا موكب جثامين الشهيدين، يخيم على وجوههم الفرح والحزن في آن معاً.

وصل الموكب المهيب إلى مقربة من مدخل المخيم، وقد تجاوز 300 سيارة، قادمين من مختلف المناطق والمخيمات الفلسطينية في لبنان يزّفون الشهيدين والرايات الخضراء ترفرف عالياً والأصوات تعلو بالتكبير والنشيد، والعلماء مصطفين عند مدخل المخيم لاستقبال الجثمانين.

هرع الجميع إلى سيارات الإسعاف ليشاركوا في الأجر، وكانت النعوش كانت تركض على أكتاف حامليها رغم التدافع وزحمة الحشود على مدخل المخيم. إنها كرامات خصّها الله عز وجل للشهيدين أن جعل خطوات المشيعيين سريعة، فأرواح الشهداء تواقة إلى لقاء الأحبة. وعلى مقربة من بيوت آل الشهيدين تجمع أهالي الشهيدين لاستقبالهم للمرة الأخيرة وتوديعهم قبل أن يوارى جثمانيهما الطاهرين. إنها اللحظة الأخيرة لوداع الأحبة من أهلهم وجيرانهم وأصدقائهم وإخوانهم، فسبحان الذي جعل عملية وداعهم تمر بسرعة رغم وحشة الأهل والأصحاب لفراقهم.

وصل الجثمانان إلى مسجد النور ليُصلى عليهما، المسجد الذي تربى الشهيدان فيه والتزموا شرع نبيهم طوال حياتهم القصيرة وعشقوا الأحبة وأحبهم الناس لأنهم كانوا مصابيح هداية ودرب جهاد، فكان موعدهم مع الاستشهاد.

وامتلأ المسجد بطابقيه السفلي والعلوي، لم يتسع للمصلين، وهذه أول مرة تحدث في تاريخ المخيم، بل صلىّ قسم كبير من الناس في الشوارع أمام المسجد.

جاءت لحظة الوداع الأخيرة وسكن الناس وذُرفت الدموع من العيون عند وصول الجثامين إلى مقبرة المخيم حيث ووريا الثرى في روضتين متلاصقتين، فكان الشهيدان أخوين مجاهدين متجاورين في الحياة الدنيا، فالمسافة بين بيتيهما لا تزيد عن أمتار معدودة، والمسافة بين قبريهما لا تزيد عن أحجار قليلة.

محطات مشرقة

تجلت نعم الله في حياة الناس ومماتهم، فكان استشهاد الأخ المجاهد باسل (أبو مالك) كما أحب وتمنى دوماً، فقد كان دعاؤه الذي يردده دوماً «اللهم أرزقني الشهادة في سبيلك واجعل جسدي أشلاء»، فاستجاب الله عز وجل له الدعاء.

أما استشهاد الأخ المجاهد حسن (أبو علي) كان مطابقاً لما عهده إخوانه أثناء خطاباته حيث كان يرفع إصبع التشهد دوماً، وكان آخر ما نطق به الشهيد الشهادتين وبقى إصبع التشهد عالياً. إنه عهدهم مع الله عز وجل في حياتهم واستشهدوا على ما عاهدوه عليه.

أما الأمر الآخر، هو رائحة المسك التي فاحت في منزل الشهيدين وخصوصاً الثياب التي كان يرتديها الشهيد حسن، والتي بدأت تفوح رائحة المسك منها منذ وصولها قرب منزل الشهيد باسل ولغاية منزل أهل الشهيد حسن، وبقيت الرائحة تفوح في أرجاء البيت صاعدة من غرفة الشهيد حسن التي كانت بمثابة دار علم وإيمان.

إنها الكرامات من الله عز وجل التي خصّ بها عباده المؤمنين الذين صدقوا مع الله فصدقهم الله وأكرمهم بالشهادة في سبيله.

خنساوات فلسطين

والدة الشهيد حسن أذهلت الناس جميعاً بثباتها وقوة إيمانها والرضى بقضاء الله وقدره، حيث استقبلت نبأ استشهاد ولدها بعزيمة قوية وهدوء وشكرت الله عز وجل، وقالت «حسن ابني كان دائماً يتمناها». وفيما كنا متوجهين إلى مدخل المخيم لاستقبال الجثامين، الحزن يلفنا جميعاً، حتى يكاد الكثيرون ينهارون حزناً على الشهداء، إذ بوالدة الشهيد حسن تركض إلى داخل المخيم بين الجموع والابتسامة على وجهها وتقول للناس على جانبي الطريق: «أرجوكم ما تبكوا عليهم، افرحوا لهم لأنهم شهداء وهنّي مبسوطين هلأ».

وفي منزلها قالت للنسوة المعزيات «ممنوع حدا ينزّل دمعة على حسن، اليوم زفّتوا، ويلي بدو يبكي يطلع لبرّا، والله العظيم يا جماعه انو ابني مبسوط والابتسامة ما فارقت وجهه، وكان طول الوقت رافع السبابة، شو بدّي أكتر من هيك، ابني بإذن الله، جمع كل مواصفات الشهاده وفرحتي ما بتوصف اليوم».

وقالت أيضاً «حسن كان بدو يتزوج بعد فترة، كم شخص راح يمشي بزفته، 100 أو 1000، وكم سيارة رح تمشي وراه خمسة أو عشرة؟؟ ها هو بيوم استشهاده بيزفوه الآلاف من كل لبنان».

والدة الشهيد باسل أم محمد، كانت مثالاً للأم المحتسبة المؤمنة الصابرة، حيث تلقت نبأ استشهاد إبنها بإيمان ورضى بقضاء الله وقدره وشكرت الله عز وجل وصلت ركعتين لله، وقالت إن ابنها الشهيد باسل كان يدعو الله دائما أن يرزقه الشهادة ويجعل جسده الطاهر أشلاء.

أما أم مالك زوجة الشهيد باسل التي استقبلت نبأ زوجها بثبات المؤمنات المحتسبات، فقد كان يطلب منها دائماً أن تدعو له بالشهادة في سبيل الله وأن يجعل جسده أشلاء. فكانت تقول له «إن شاءالله أنا وأنت وأولادي شهداء في سبيل الله في يوم واحد».

إنه الإيمان والنور الإلهي الذي سكن قلبها وثبتّ من عزيمتها، لقد كانت تعمل جاهدة أن يكون بيتها ليس مجرد مكان للتعزية أو التهنئة بل للاستفادة وأخذ الدروس والعبر وإلقاء المحاضرات الإيمانية.

وقائع التشييع

في مسيرة مهيبة انطلقت من مستشفى الرسول الأعظم في بيروت، عند الساعة الحادية عشرة صباحاً، ووصلت إلى مدينة صيدا، حيث كان بانتظارها مئات السيارات والحافلات، وحياها الآلاف من أنصار حركة حماس على جانبي الطريق، إلى أن وصل الموكب قبل صلاة العصر إلى مخيم البرج الشمالي. حيث كان بانتظار الموكب حشود من أهالي المخيم واللاجئين الذين تقاطروا من كل أنحاء لبنان.

وبعد صلاة العصر والجنازة، انطلق الموكب إلى مقبرة المخيم وسط الجموع الغفيرة، وهناك ووري الجثمانان الثرى، وألقى إمام مسجد المخيم كلمة مؤثرة عدد فيها مناقب الشهيدين اللذين يعرفهما منذ طفولتهما، ثم كانت كلمة لممثل الحركة في لبنان أسامة حمدان.

بعد ذلك عاد المشيّعون إلى خيمة العزاء، حيث أمّها الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني وممثلون عن القوى والفصائل الوطنية والإسلامية اللبنانية والفلسطينية، واستمر العزاء حتى ساعة متأخرة.