القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

فلسطينيو لبنان... من الحنين للعودة إلى حلم الهجرة

فلسطينيو لبنان... من الحنين للعودة إلى حلم الهجرة


السبت، 05 كانون الأول، 2015

لا تكاد تشرق شمس نهار على لبنان بمختلف مناطقه إلا وتسمع فيه عن حكاية لجوء جديدة، تختلف تفاصيلها وأسبابها بين مهاجر وآخر، بين لبناني وسوري وفلسطيني ونازح من سورية، ولكنها تلتقي عند الشكوى من مرارة الحياة واليأس والإحباط لما وصل إليه حال هؤلاء مع الفقر والعوز نتيجة انعدام فرص العمل والبطالة والخلافات السياسية والأحداث الأمنية المتنقلة.

لكن وقع هذه «الهجرة الطوعية» على المخيمات الفلسطينية يبدو أشدّ إيلاماً وخطراً على القضية الفلسطينية إذ لطالما شكلت هذه المخيمات عنواناً للنكبة ورمزاً للتمسك بحق العودة بعد مرور 67 عاماً من اللجوء القسري قُدم خلالها آلاف الشهداء ومئات ألوف من الجرحى والمعاقين في مسيرة الثورة التي تتوالى فصولها دماء وتضحيات حتى الآن.

ولا يُخفي المسؤولون الفلسطينيون على مختلف انتماءاتهم الوطنية والإسلامية، مخاوفهم من تصاعد وتيرة «الهجرة غير الشرعية». فهذه القضية تشغل بالهم، ويساورهم القلق من «مخطط مشبوه» يهدف إلى تفريغ المخيمات من أبنائها وعائلاتها كمقدمة لشطب حق العودة تزامناً مع تقليص وكالة «الأونروا» خدماتها التربوية والاجتماعية والصحية والضغوط لإنهاء عملها كشاهد حيّ على نكبة فلسطين العام 1948.

ومكمن الخطورة الأساسي في الهجرة الجماعية لعائلات بأكملها لم تشهدها المخيمات من قبل، بخلاف الهجرة السابقة الفردية والمحدودة. وقد تضافرت أسباب كثيرة لتجعل من أبناء المخيمات «فريسة» خيار الهجرة وطلب اللجوء الإنساني في الدول الأوروبية لا سيما ألمانيا. فالحرمان من الحقوق المدنية والاجتماعية والإنسانية وحق العمل والتملك، يولد الفقر المدقع وارتفاع نسبة البطالة، وهو ما يقود إلى اليأس والإحباط اللذين بدورهما يوصلان إلى اتخاذ أي قرار للتخلص من ضيق العيش والحصار الأمني نتيجة واقع المخيمات «المنكوبة».

يقول أمين سر اللجان الشعبية الفلسطينية في لبنان أبو إياد شعلان لـ «الراي» إنه طلب من مختلف اللجان الشعبية في المخيمات إعداد إحصاء بعدد الذين هاجروا خلال الأشهر القليلة الماضية «وحتى الآن لا يمكن الحديث عن أرقام، ولكن التقديرات تشير إلى أنها تجاوزت أربعة آلاف شخص من مخيم عين الحلوة وحده، وعدد كبير من مخيم (ويفل) في البقاع. ولا شك في أن الأعداد تفوق المتوقع، إذ نسمع كل يوم عن فلسطيني ترك المخيم وهاجر من دون أن يعلم جاره حتى وقد يبيع كل ما فوقه وتحته من أجل تحقيق هدفه اعتقاداً منه أنه سيحظى بفرصة أفضل للحياة بحرية وبكرامة دون سؤال أحد».

وبحسرة يضيف شعلان: «ولكن للأسف فقد دفع بعضهم حياته ثمناً لذلك، عبر ركوب البحار وقطع الصحاري، وما بينهما من مخاطر، وبعضهم الآخر وقع ضحية المافيات والسمسرات ولم يصل إلى مبتغاه، فعاد خالي الوفاض فارغ اليدين وتحت الصفر مادياً، فكيف سيبدأ حياته من جديد وهي معدومة أصلاً؟».

ويشير شعلان إلى «أن معالجة هذه القضية الطارئة هي خارج إطار اللجان الشعبية، ولم نقترب منها ما دام ليس لدينا البدائل، فالواقع الفلسطيني بأزمة حقيقية نتيجة الظروف الصعبة التي يترنح تحت وطأتها آلاف اللاجئين في لبنان منذ النكبة، والوضع الاقتصادي صعب والمستقبل غير مبشر وسط انعدام فرص العمل، وهناك فقط في منطقة صيدا 2100 خريج جامعي، ما يقارب نصفهم عاطل عن العمل، وبالتالي فإن هؤلاء يبحثون عن فرص لحياة أفضل من دون النظر إلى النتائج المترتبة عن الهجرة على صعيد مستوى القضية الفلسطينية وخصوصاً أن ليس هناك مؤشرات تلوح في الأفق عن حلول قريبة لمنح الشعب الفلسطيني حقوقه المدنية والاجتماعية والإنسانية أو تأمين فرص العمل في المخيمات التي ستبقى برمزيتها عنواناً للقضية وحق العودة».

في أروقة المخيمات، ثمة حديث يتواتر عن تَريُّث الكثير من العائلات في الإقدام على الهجرة الآن بعد أحداث باريس الدموية وتشديد الإجراءات الأمنية على كل الحدود البرية أو البحرية التي يمكن العبور منها إلى دول اللجوء، ناهيك عن فقدان عائلات غادرت ولم تصل بعد وما زالت مجهولة المصير. وقد تغير مسار الرحلات، وهو بدأ جواً وأصبح شبه مستحيل نتيجة تدفق اللاجئين سابقاً والإجراءات الجديدة المتبعة في السفارات بعد أحداث باريس حالياً وعدم منح تأشيرات الدخول كما كانت الحال سابقاً. ثم تحوّل بحراً ولكن مع تشديد القوى الأمنية اللبنانية إجراءاتها وتوقيف العشرات من المهاجرين بطريقة غير شرعيّة عبر المرافئ البحرية وتحديداً في طرابلس شمالاً والصرفند جنوباً توقّف هذا الخيار، وباتت العائلات تقصد سورية إما من خلال الدخول إليها قانونياً أو عبر الحدود خلسة ثم التوجه إلى تركيا تهريباً بعد دفع مبالغ مالية لسماسرة ومنها إلى ايطاليا أو اليونان أو صربيا ومنها إلى النسما أو ألمانيا وسواهما.

وتؤكد نوال سعدى أن «شقيقتها أمال غادرت إلى سورية مع زوجها وأولادهما منذ أسابيع ولم نعرف عنهم شيئاً، هل قُتلوا أو اعتُقلوا؟، ولكنهم بالتأكيد لم يصلوا إلى أي دولة تمنحهم اللجوء وإلا لكانوا اتصلوا وطمأنوننا»، موضحة أنها وأفراد عائلتها يعيشون قلقاً وتوتراً خشية على حياتهم «يكفي أنهم باعوا منزلهم ومتاعهم وغادروا فهل يقدمون أرواحهم قرابين على مذبح اللجوء سعياً وراء حياة أفضل»، موجهة نصيحة للذين يفكرون بالهجرة بعدم الإقدام عليها «لأن الموت دون دفن الجثة أو تحويلها إلى طعام للأسماك وسط البحار أصعب وأشدّ أنواع الموت والعذاب».

هذه النصيحة لم تلقَ آذاناً صاغية، إذ باتت الهجرة على كل شفه ولسان، وقد وصل الأمر إلى الوقت الذي باتت الهجرة ولو عبر (زوارق الموت) أولوية لأبناء المخيمات وللفلسطينيين الذين نزحوا من سورية، فالهجرة تكاد تصبح (جماعية) لا سيما لجيل الشباب الذين يتخرجون من الجامعات بوظيفة (عاطل عن العمل) أو (ممنوع من العمل)، علماً أن تعداد النازحين الفلسطينيين من سورية كان يتجاوز 3 آلاف عائلة، لم يبقَ منهم أكثر من ألف عائلة، وأن معدل الهجرة من مخيم عين الحلوة وحده ارتفع إلى نحو 15 في المئة في الفترة الأخيرة.

ويروي الفلسطيني إياد حمودة بحرْقة كيف كاد يدفع حياته ثمناً للهجرة حين ركب البحر عبر صحراء ليبيا ولكنه نجا مع زوجته وطفلته، متحدثاً عن تفاصيل مرعبة عن الهجرة والسماسرة وكيف يلقون بهم في عباب مياه البحر دون أن يكون لهم حق اتخاذ قرار العودة، ويقولون لهم (دبروا حالكم)، ليخلصوا إلى أن المحظوظ هو مَن يبقى حياً إذا وصلت إليه زوارق النجاة سريعاً بعد أن يتم إغراق المركب الذي يستقلونه عمداً وتُطلب النجدة، مضيفاً: «لقد بقيت أربع ساعات في المياه قبل أن تصل قوارب النجدة لانتشالي إلى إحدى السفن، ولولا سترة النجاة لكنتُ في عداد الموتى الآن».

اليوم يتنفس إياد الصعداء في ألمانيا، ولكن لو عادت به عقارب الزمان إلى الوراء لما كرر فعلته مهما كانت حياة المخيمات قاسية وصعبة.

حبل الحكايات على الجرار، فيما «اللجنة الأمنية الفلسطينية العليا» في لبنان التي تعتبر (المرجعية الموحدة اليومية) لشؤون المخيمات كسرت حاجز الصمت وطرحت علناً خطورة استفحال ظاهرة (الهجرة غير الشرعية)، وتوقّفت عند أسبابها، ومنها غياب الأمن بالمخيمات وانتشار السلاح العشوائي، واستمرار الاغتيالات والاشتباكات المتنقلة بين الأحياء، وشعور الفلسطيني بشكل عام بعدم الاستقرار وبالظلم وبأنه (متهَم حتى تتثبت براءته)، إضافة إلى الحرمان وتَردّي خدمات (الأونروا) الاجتماعية.

ويقول عضو اللجنة الأمنية والمكتب السياسي لـ(جبهة التحرير الفلسطينية) صلاح اليوسف لـ(الراي):«نعيش في خضمّ زلزال، نشعر بارتداداته المخيفة من دون أن تكون لدينا القدرة على منعه، فهناك مشاكل كثيرة متراكمة ومتداخلة من عمر النكبة لا يمكن لأحد معالجتها بين عشية وضحاها»، قبل أن يضيف: «إنها مسؤولية مشتركة بين القوى الفلسطينية أولاً عبر وضع رؤية موحدة لتخفيف معاناة اللاجئين، ثم مع الدولة اللبنانية عبر منح الحقوق ثم مع وكالة (الأونروا) من خلال تحسين الخدمات، فإذا تضافرت الجهود لتأمين حياة أفضل وظروف أحسن من الاستقرار والأمان والحرية والمساواة، يمكن أن نحدّ من أعداد المهاجرين، ولكن إذا استمرت الحال على منواله، فالخسارة كبيرة لا سيما في جيل الشباب».

بين الواقع المرير والمعالجة المفقودة، لا يخفي ممثل حركة (حماس) في منطقة صيدا أبو أحمد فضل، أن هذه الهجرة وبهذه الطريقة «تحمل في طياتها مخططاً مشبوهاً، تحت عناوين إنسانية شتى»، موضحاً أن «أبناء المخيمات كانوا يعيشون في ضائقة مالية واقتصادية أصعب وكانوا يتأقلمون مع الواقع ويتحملون في سبيل القضية والعودة، ولكن اليوم يبدو من خلال تسهيل استقبال المهاجرين أن هناك مخططاً يصبّ في نهاية المطاف في خدمة العدو الصهيوني لجهة شطب حق العودة ولا سيما أننا شهدنا محاولات كثيرة أخيراً لإنهاء عمل (الأونروا) وتقليص خدماتها تحت حجة العجز المالي».

ودعا فضل الشباب الفلسطيني والعائلات «إلى عدم ركوب البحار مهما كانت الأسباب وإن كان لكل واحد مبرره الخاص سواء اليأس أو الإحباط أو الغيرة والتطلع إلى جمع المال وشراء السيارات، بل الاقتداء بشباب القدس وغزة وفلسطين الذين يضحون بأرواحهم من أجل قضيتهم والتمسك بأرضهم، فالمخيمات عنوان للعودة»، معتبراً أن «تدمير بعض المخيمات وتهجير أبنائها بدءاً بـ (النبطية) و(تل الزعتر) مروراً بـ (نهر البارد) وصولاً إلى اليرموك كانت (القشة التي قصمت ظهر البعير)،

وفتحت الأبواب على مصراعيها دون أي رادع»، ليخلص إلى «أن هجرة أي شخص أو عائلة في القراءة الفلسطينية هي تمرير لمشروع شطب حق العودة عبر التشجيع على كسر المألوف ونشر إغراءات المغادرة تحت وطأة الأحلام الوردية التي يوضع تحت تأثيرها الشباب الفلسطيني، في مقارنة غير منطقية بين هنا موت وهناك موت مماثل».

المصدر: وكالات