فلسطينيو لبنان يدفعون ثمن «التنافس السياسي» و«تجاهل» مضامين الوثيقة الموحّدة

الإثنين، 05 آب، 2019
الأزمات تولِّد الأزمات، وتتسارع وتيرتها
في الدول الضعيفة، التي تعصف بها الانقسامات السياسية والطائفية والمذهبية. هذه هي
حال لبنان راهناً الذي أضحى على شفير الانهيار سياسياً واقتصادياً ومالياً واجتماعياً،
وتحوطه مخاطر أمنية وعسكرية حقيقية في ظل عدم قدرة لبنان الرسمي على تحييده عن الصراع
الدائر في الإقليم، وعن المواجهة الكبرى بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من
جهة، وإيران وحلفائها في المنطقة من جهة أخرى، في ظل تعاظم قوة "حزب الله” الذي حوَّل
لبنان إلى رهينة بالكامل لجهة قراره الاستراتيجي وقرار السلم والحرب، والذي يعمل وفق
مشروع واضح المعالم في تغيير التوازنات الداخلية ضمن الطوائف نفسها، بحيث يزداد مؤيدو
محوره قوّة ظناً منهم أن ذلك يؤول إلى تغيير في بنيان الكيان اللبناني ونظامه عبر الوسائل
الديمقراطية.
تحت سقف هذه المعادلة، تأخذ اللعبة السياسية
مجراها. فقبل أسابيع قليلة، هبَّ خطاب العنصرية "المقيت” و "التحريضي” ضد النازحين
السوريين في لبنان من قبل وزراء "تيَّار” رئيس الجمهورية، في محاولة للتهرب من مسؤولية
الإخفاقات التي يواجهها العهد المنبثق عن التسوية الرئاسية التي أتت بحليف "حزب الله”
الجنرال ميشال عون إلى سدّة الرئاسة، وأعادت زعيم "تيار المستقبل” صاحب الأغلبية البرلمانية،
إلى رئاسة الحكومة بعد "فيتو” عليه من قبل "حزب الله” وراعيه الإقليمي.
فما كاد صوت التأجيج يخفت ضد النزوح السوري
وضرورة عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم تحت عنوان "عدم قدرة لبنان على تحمّل كلفة
هذا النزوح وتداعياته وانفلاش السوريين في مختلف المناطق ومزاحمتهم غير المشروعة للبنانيين
في لقمة عيشهم” حتى طفت إلى السطح أزمة جديدة، لا تقل حدّة، تتعلق بأزمة عمالة اللاجئين
الفلسطينيين في لبنان. جاءت من باب استراتيجية وزير العمل كميل أبو سليمان لمكافحة
العمالة الأجنبية غير النظامية، وهو الوزير الذي ينتمي إلى حزب "القوات اللبنانية”
ما أعطى للخطوة أبعاداً سياسية نظراً إلى ذاكرة الحرب الأليمة، التي شكلت حادثة "بوسطة
عين الرمانة” بين الفلسطينيين وحزب الكتائب شرارتها الأولى.
في الواقع، تشكلت لجنة للحوار اللبناني-الفلسطيني
أيام حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2005 تحت مظلة رئاسة مجلس الوزراء بهدف التوصل
إلى مقاربة جديدة لكيفية التعامل مع قضية اللاجئين الفلسطينيين بعيداً عن الصورة النمطية
والأحكام المسبقة التي طبعت الوجود الفلسطيني في لبنان، والذي كان جزءاً من الحرب اللبنانية
قبل خروج "منظمة التحرير الفلسطينية” من لبنان كنتيجة سياسية للاجتياح الإسرائيلي عام
1982. وساهم في هذا التوجه الشعور بأن التحوّلات التي حصلت بعد عام 2005 في أعقاب اغتيال
الرئيس رفيق الحريري قد آلت إلى تحرّر الفلسطينيين من استخدامهم كورقة إقليمية.
لعل الإنجاز الأهم أن رئيس لجنة الحوار
اللبناني-الفلسطيني الوزير السابق حسن منيمنة، نجح في تأمين إجماع وطني للمرة الأولى
حول أهمية الوصول إلى تصوُّر مشترك وخطة عمل وطنية تجسِّد موقف لبناني بمعظم كياناته
السياسية حيال مسألة اللجوء الفلسطيني، وما تشكله من هواجس على التركيبة الديموغرافية
في لبنان تحت وطأة المخاوف من التوطين، والحاجة في الوقت نفسه إلى حل للمشاكل الإنسانية
والمعيشية والاجتماعية والخدماتية، ومنحهم حقوقهم الأساسية بما في ذلك حق العمل والتملك،
بما لا يتناقض مع سيادة لبنان وتأكيد حق العودة إلى وطنهم.
ولم تكن المعالجة اعتباطية، بل اتسمت بكثير
من المنهجية العلمية والقانونية والنقاش الهادئ، قامت بها "مجموعة العمل اللبنانية
حول قضايا اللاجئين الفلسطينيين” المُشكّلة في إطار لجنة الحوار، والتي ضمّت ممثلين
عن مختلف الأحزاب والقوى السياسة وخبراء. واحتاجت إلى أكثر من 50 جلسة للخروج بـ "رؤية
لبنانية موحَّدة لقضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان” في كانون الثاني 2017 والتي يُعّول
أن تشكل "المرجع” لكل ما يتعلق بالشأن الفلسطيني على مختلف المستويات. وهي رفعت خمس
توصيات إلى رئيس الحكومة آنذاك تمام سلام. التوصيتان الأولى والثانية تناولتا ملف العمل
والضمان الاجتماعي كمرحلة أولى من مراحل معالجة الملف الفلسطيني. واقترحتا إصدار مرسوم
يحدد الآلية التطبيقية للتعديلات التي سبق أن أدخلت على قانوني العمل والضمان الاجتماعي
(رقم 128 و129)، بحيث بات اللاجئ الفلسطيني يُعامل كفئة خاصة من العمال الأجانب، وله
وضعية قانونية تختلف عن باقي الجنسيات، إذ نص القانون على أنه "يُستثنى حصراً الأُجراء
الفلسطينيون اللاجئون المسجّلون وفقاً للأصول في سجلات وزارة الداخلية والبلديات –
مديرية الشؤون السياسية واللاجئين – من شروط المعاملة بالمثل ورسم إجازة العمل الصادرة
عن وزارة العمل”. هذا فيما تضمنت التوصية من قبل "مجموعة العمل” في بند تحديد المستندات
الواجب تقديمها من أجل حصول اللاجئين الفلسطينيين على إجازة عمل، "الاكتفاء باستدعاء
مُوقَّع من صاحب العلاقة دون إفادة أو مستند صادر عن صاحب العمل”. واستدركت التوصية
أنه في حال تعذّر إصدار المرسوم في الوقت الحالي، يجري اعتماد قرار وزاري في هذا الشأن.
فما الذي حصل حتى تنشب مثل هذه الأزمة التي
أدت إلى عودة الانقسامات السياسية، وأخذت تستحضر مفردات الحرب وتستثير النعرات الطائفية
والسياسية؟ ما الذي حصل خصوصاً أن السلطة الفلسطينية تجهد على الدوام لتأكيد تناغمها
مع السلطة اللبنانية حول الموضوع الفلسطيني، وترفض أن يكون الفلسطينيون جزءاً من الصراع
الداخلي أو أن يُجرّوا إلى ذلك، وتعتبر أن الحوار وحده هو السبيل الوحيد لحل كل الإشكالات؟
الذي حصل أن وزير العمل بدأ بتنفيذ الاستراتيجية
بدون التوقف عند تعديل قانوني العمل والضمان الاجتماعي لجهة الخصوصية التي يتمتع بها
العامل الفلسطيني وعدم معاملته بالمثل، بل قام بشمولهم بوصفهم عمالاً أجانب، ما أدى
إلى إقفال العديد من المحال والمؤسسات وختمها بالشمع الأحمر، ووقف عمل أعداد كبيرة
من العمال اللاجئين الفلسطينيين عن العمل.
لقد بدا أن الاستراتيجية تُركّز على اللاجئين
الفلسطينيين والنازحين السوريين دون سواهم من العمالة الأجنبية، الأمر الذي زاد من
المخاوف في أن تكون هذه الخطوات المعتمدة جزءاً من التنافس السياسي بين القوى المسيحية
لجهة من لديه القدرة على اجتذاب الشارع المسيحي، تحت مقولة "محاولة الحد من المخاطر
الناشئة عن الوجود الفلسطيني والسوري”.
الذي يثير المخاوف لدى المراقبين هو أن
تُستغل الاحتجاجات التي يُعبّر عنها الفلسطينيون في المخيمات ضد إجراءات الوزارة –
على أحقيتها – ووضعها في إطار الحسابات الإقليمية وتجميع الأوراق، لا سيما وأن السيطرة
الأمنية والعسكرية التي كانت تتمتع بها من قبل حركة "فتح” وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية
تراجعت مع الوجود القوي للتنظيمات الإسلامية، وخاصة حركتي "حماس” وِ "الجهاد” اللتين
أعادتا نسج علاقاتها مع المحور الإيراني، فضلاً عن أن مخيمات الجنوب وبيروت واقعة تحت
نفوذ وتأثير "حزب الله” و "حركة أمل”.
هي أزمة كان بالإمكان تفاديها لو تمت معالجتها
بهدوء. مجمل القوى السياسية تؤكد على وجوب تنفيذ القانون. المشكلة ليست ناجمة عن رفض
تنفيذ القانون بل عن "سقطة” أو "قصور” في كيفية المواءمة بين الرغبة في التنفيذ والظروف
الراهنة، حيث تتم مراعاة القدرة على التنفيذ وعدم حصول ارتدادات سلبية نتيجة هذا التنفيذ،
في ظل ظروف الضائقة المعيشية والحصار المالي الذي يطال المؤسسات الفلسطينية فضلاً عن
المؤسسات الدولية، وفي مقدمها "الأونروا” التي تتولى تقديم المساعدات لهم.
كانت الآمال معلقة على أن يتم إقرار الوثيقة
التي صدرت كرؤية لبنانية موحدة في مجلس الوزراء والبدء في تنفيذ ما اقترحته من توصيات،
والذهاب في العلاقات اللبنانية-الفلسطينية إلى مستويات أرقى، وإنهاء حال "العقاب الجماعي”
الذي يتعرضون له لجهة أبسط حقوقهم الإنسانية تارة في إطار لعبة المزايدات على القضية
الفلسطينية، وطوراً جراء هواجس الديموغرافيا. لكن هذه الانتكاسة جاءت لتضع الموضوع
الفلسطيني في خانة التجاذبات والمزايدات والاستغلال. وباتت ثمة حاجة لإخراجه من هذه
الخانة، وعدم تصوير الأمر وكأن المعركة هي بين جهة تريد تطبيق القانون وجهة لا تريد
ذلك، لا سيما وأن الخطورة في تظهير هكذا مشهد تنبع من أن للانقسام بعد طائفي، ليظهر
أن المسيحيين يريدون تطبيق القانون لجهة تنظيم عمالة النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين،
وأن المسلمين لا يريدون، فيما المسألة تنطلق من تعامل براغماتي وواقعي مع هذا الملف.
العقدة الراهنة أن وزير العمل الذي أضحى
مُسلّماً بالخصوصية التي تمنحها تعديلات قانوني العمل والضمان الاجتماعي، لا يزال مصراً
على تضمين الإجراءات المطلوبة "عقد عمل” كما هي حال الإجراءات المتعلقة بالعمالة الأجنبية،
غير أن المعضلة تكمن في أن تلك الإجراءات بما تتضمنه من تعقيدات إدارية تجعل حيازة
إجازة العمل في خانة التعجيز، إذ أن غالبية أصحاب العمل من مؤسسات صغرى ومهن حرة لن
يُقدموا على إجراء عقد عمل لا مع العمال الفلسطينيين ولا حتى مع العمال اللبنانيين،
نظراً إلى ما يُرتب ذلك عليهم من تبعات قانونية. وهذا ما حدا بـ "مجموعة العمل” لأن
تُوصي بـ "الاكتفاء الموقّع من صاحب العلاقة الذي يرقى إلى التعريف بالشخص ليس إلا،
من دون أن يُرتّب عليه التزامات قانونية ومالية”.
وإذ تهدف الاتصالات إلى معالجة أزمة عمالة
اللاجئين الفلسطينيين بكثير من العقلانية كي يتم تفويت الفرصة على استخدام الساحة الفلسطينية
كورقة، فإن هذا الكمّ من توالد الأزمات التي شغلت البلاد الأسبوع الماضي، من عرض "مشروع
ليلى” في مهرجانات جبيل الدولية، وهو مشروع فني تحت حجة تطاوله على المقدسات المسيحية،
ومنع استخدام آلة الطبلة في أمسية شعرية في النبطية لأنها آلة شيطانية تثير الغرائز،
إنما هي مظاهر تؤشر على دخول لبنان في مرحلة ظلامية بعيداً عن أي احترام للحريات يكفلها
الدستور، ما يجعل أمر الابتعاد عن احترام لبنان والتزامه بالمواثيق والقوانين الدولية
الخاصة بحماية حقوق اللاجئين أمراً ليس مستغرباً إن حصل، رغم التحذيرات من مغبة الإقدام
على ذلك لما يحمله من انعكاسات سلبية على علاقة لبنان بالمجتمع الدولي وبالمؤسسات الدولية،
فضلاً عن التأزم الذي سيتفاقم في العلاقات اللبنانية-الفلسطينية في ظل هذه الظروف الحساسة،
والاستحقاقات الكبرى التي تشهدها المنطقة.
المصدر: القدس العربي