القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

أخطر من أي مؤامرة: نكبة فلسطينيي لبنان بمدارس «الأونروا»


أحمد الحاج علي

مدارس لا يحضر سوى ربع طلابها، إلغاء مئات الوظائف، مدارس بلا مديرين، وصفوف بلا معلمين، ومراكز لـحوالى 75 معلماً شاغرة، واتفاق إطار بين الأونروا والولايات المتحدة يجرّم العمل الوطني في مؤسسات الوكالة الدولية بذريعة مكافحة الإرهاب. كل ذلك قاد إلى إضرابات واحتجاجات فلسطينية لم تستطع أن تُغير شيئاً من الواقع التعليمي في الأونروا، وليس مبالغة وصف ما يجري بأنه "النكبة الثانية" التي يعيشها الفلسطينيون في لبنان.

مستويات فاضحة

عندما حطّ الفلسطينيون في مخيماتهم نصبوا خيم التعليم-المدرسة قبل استكمال نصب خيامهم من قماش "الجمالون" و"الجرس"، كانت خيمة التعليم هي الخيمة الأكبر والأجمل. أدركوا أن للهزيمة وجهاً علمياً إضافة إلى وجهيها العسكري والسياسي، وأن من سبقهم إلى بناء جامعته، وهي الجامعة العبرية، عليهم أن يواجهوه بالتعليم، الذي هو شرط أيضاً لتطوير حياتهم البائسة، وإثبات جدارتهم في المجتمع الجديد. فعلوا ذلك فطالت لائحة التربويين الفلسطينيين في لبنان.

لكن التعليم الذي أرادوا أن يمحوا من خلاله نكبتهم الأولى صار في السنوات الأخيرة نكبة ثانية. وكأنه لم يكن منهم قيصر حداد وجورج شهلا والصادق عمر وغيرهم الكثير من التربويين. التسرب من مدرسة عين الحلوة بمستويات فاضحة، والرسوب قد يكون الأكثر كارثية بين مدارس الأونروا في لبنان. عودة إلى التاريخ التعليمي لإظهار بشاعة الحاضر، فأحمد اليماني "أبو ماهر" في مذكراته السخية بالحديث عن التربية، ذكر أنه تسلّم إدارة مدرسة مخيم عين الحلوة في العام الدراسي (1952-1953)، وكانت نتيجة الامتحانات الرسمية للشهادة الابتدائية لافتة، إذ اجتاز 29 طالباً من أصل 31 تلك الامتحانات.

المواصلات ودخل الأسرة

اليوم يكافح الطلاب الفلسطينيون للوصول إلى مدارسهم. فمعظم المدارس خارج المخيم، ونسبة الفقر بين الفلسطينيين لا تسمح بدفع ثمن بدل المواصلات. لذلك فإن مدرسة "عين جالا" في سبلين، تبدو في إجازة مفتوحة. ومدرسة الحولة القريبة من مدينة صور، لم يحضر من طلابها سوى نسبة 25 بالمائة. يطالب الفلسطينيون بدفع الأونروا بدل نقل للطالب بما لا يقل عن 15 دولاراً في الشهر. وإذا اعتُبر أن 20 ألف طالب (من أصل 37 ألفاً العدد الكلي) يأتون من أماكن بعيدة عن مدارسهم فإن المبلغ الشهري المطلوب هو 300 ألف دولار، أي ما يوازي رواتب وعلاوات بعض كبار الموظفين في الوكالة من غير الفلسطينيين.

الإضرابات والاعتصامات التي شملت كل المخيمات والتجمعات الفلسطينية لم تغير شيئاً "وكأن الأونروا تعيش في كوكب آخر"، على حدّ وصف رئيس اتحاد الشباب الديمقراطي الفلسطيني يوسف الأحمد، في حديثه لـ"المدن". ويضيف "الطالب الواحد يستهلك كل دخل الأسرة. والكثير من العائلات لم ترسل أبناءها للمدارس لعدم القدرة على دفع ثمن المواصلات والقرطاسية. لذلك لا يمكن الحديث عن بدء العام الدراسي، فالحق بالتعليم لا يقتصر على توفير المقعد. وأستطيع القول إنه لم يكن هناك تخطيط من قبل الأونروا، ولا معالجة جادة رغم عقد عدة لقاءات مع الأونروا قبل بداية العام الدراسي، في محاولة لتلافي الثغرات، وتكوين استراتيجة واضحة، وتأمين المستلزمات. لكن تفاجأنا بنقص كبير بعدد المعلمين والإداريين".

صرف المعلّمين

الأونروا لم تتفاجأ بنقص بالشواغر الذي شمل 75 معلماً، الأمر الذي تسبب بشلل شبه كامل في الدورة التعليمية، لذلك سارعت إلى اللجوء لنظام التناوب فيداوم الطالب أسبوعين في الشهر. تذرعها بكورونا لم يُقنع أحداً. مدرسة القدس التي يرتادها طلاب مخيم برج البراجنة بلا مدير، وكذلك هي حال مدرسة رام الله في مخيم شاتيلا. صفوف كثيرة أيضاً داخل المدرستين بلا معلمين، كما غيرهما من المدارس. مع الحاجة المضاعفة لتكثيف التدريس بعد عامين من التعليم عن بعد، والذي كانت نتائجه كارثية حسب العديد من المعلمين الذين تحدثنا إليهم، وقد ظهر ذلك منذ اليوم الأول من التعليم الحضوري.

وبدلاً من مضاعفة عدد معلمي "الدعم الدراسي" داخل مدارس الأونروا والذين كانوا يقومون بأدوار مهمة في مساندة المعلم في الصف، اتخذت الأونروا إجراءً بصرف 43 مدرساً في برنامج "الدعم الدراسي"، بعد 13 عاماً من انطلاق البرنامج، مع العلم أنهم يتلقون نصف راتب بدوام كامل، وجوهر عملهم هو التركيز على الطلاب الذين يعانون من صعوبات تعلّمية، أو في التأخر الدراسي، في الوقت الذي قامت الأونروا بتوظيف المئات في برنامج "الدعم الدراسي" في غزة والضفة، فهل هو استهداف إضافي للاجئين كما يتساءل معلمون؟

لم يتوقف شطب "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" للعديد من الوظائف عند هذا الحد، بل شمل أيضاً وظيفة الكتبة في المدارس. فكل مدرسة لديها موظف كاتب، يهتم بالشؤون المعلوماتية والإدارية للطلاب، كذلك بقوائم وزارة التربية، وغيرها من المهمات الإدارية. ومع إلغاء هذا الموقع فإن كل هذه المهمات سوف تُلقى على كاهل مدير المدرسة، على حساب مهماته الأساسية في مراقبة ومتابعة الشؤون التعليمية.

وفي وقت يعيش الفلسطينيون في لبنان أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخهم، قررت الأونروا فصل العشرات من أذنة المدارس وبعثت برسائل فصل لهم، مع أنه كان من المتوقع أن تتوسع الوكالة بالتوظيف في هذا الظرف المعيشي. لكن التوسع كان بإلغاء الوظائف: إلغاء موقع مسؤول مشروع EMIS الخاص بمواضيع إدارية، إلغاء موقع موجّه المرحلة الأولى (أول وثاني وثالث ابتدائي)، لا مشرف لمادة العلوم في بيروت حتى اليوم.

أسئلة كثيرة

خطوات الأونروا باتت غير مفهومة، هل هو مجرد ارتباك إداري لمنظمة مضى على تأسيسها أكثر من 70 عاماً، هذا إذا تجنبنا أسئلة المشككين الكثيرة؟ فأن تلجأ الأونروا مثلاً إلى صيانة لثانوية الجليل ببيروت قبل أسبوع واحد فقط من بدء العام الدراسي، لأن أضراراً أصابت المدرسة بانفجار المرفأ قبل أكثر عام فأمر يفرض أسئلة كثيرة، واستفهامات بطول أسطر. وبعد ذلك تتخذ إجراء بإلغاء المبيت الداخلي في كلية سبلين بذريعة كورونا، مع أن هذا الإجراء لم يُتخذ عندما كان انتشار فيروس كورونا في ذروته. وهذا يفرض على أكثر من مئة طالب، بعضهم من مخيمات الشمال، القدوم يومياً إلى الكلية مع صعوبة المواصلات وارتفاع تكاليفها.

ماذا جرى بمدارس الأونروا؟ لا أحد لديه أجوبة. أو لا أحد يردّ على الأسئلة. كل مكان في الأونروا معتم. لا أرقام تفصيلية أو حتى عامّة. وكأن هناك سرّاً يجب أن يبقى مدفوناً في تلك البئر. حتى أعداد الطلاب في المراحل المختلفة جرى سحبها من موقع الأونروا قبل سنوات، ربما حتى لا تُعرف نسب التسرّب المدرسي. العقل الذي يرفض الإفصاح عن معلومة، هو العقل نفسه الذي يستدعي طلاباً للمساءلة لأنهم اشتكوا من أن خرائط مدرستهم لم تسقط بعد جدار برلين، وما زال الاتحاد السوفياتي يحتل جزءا من الخريطة. تشتكي الأونروا من الضائقة المالية، وتقول إن بعض إجراءاتها في التعليم نتيجة لتلك الضائقة، لكنها ترفض توجيه نداء لطلب المعونة كما كانت تفعل دائماً. لماذا؟ لا أجوبة.

مناهج و"إرهاب"

وجدت الأونروا الطريق الأسهل بتوقيع اتفاقية إطار مع الولايات المتحدة، ينص "وقف مساعدة أونروا عن كل لاجئ ينتمي لجيش التحرير الفلسطيني أو أي منظمة من فئات العصابات ومن يشارك في عمل إرهابي"، واشترط الاتفاق أيضا مراقبة المنهاج الدراسي الفلسطيني، وحذف وشطب أي محتوى تراه واشنطن وتل أبيب معادياً. أغرى الأمر الاتحاد الأوروبي الذي راح يشترط التمويل مقابل تعديل المناهج. لا ذكر للأسرى، شطب خريطة فلسطين، وحتى محو كلمة احتلال. إذن، على الطلاب الفلسطينيين في لبنان أن ينسوا قسمهم الصباحي الذي يرددونه منذ خطه أبو ماهر اليماني قبل 70 عاماً:

"فلسطيننا لن ننساك، ولن نرضى وطناً سواك، نشهد الله والتاريخ ونعاهدك، بأن نبذل دماءنا لاستردادك، عاشت فلسطين وعشنا لتحريرها". وليس سراً أن المصدر الأول للثقافة الوطنية التي يتلقاها الفلسطينيون هو مدارس الأونروا، بواسطة معلمين وطنيين، حتى بعد إلغاء مادة تاريخ وجغرافية فلسطين. فهل سيتحدى هؤلاء المعلمون قرارات الأونروا بما يتهدد استمرارهم في عملهم؟

الإجراءات التي اتخذتها الأونروا طيلة الأعوام السابقة تركت آثاراً تدميرية على العملية التعليمية تظهر بارتفاع نسبة الأمية وسط مجتمع كان يفاخر بنسبة التعليم العالية (نسبة الأمية 20 بالمائة بين فلسطينيي لبنان بينما هو 2.5 بالمائة في الضفة الغربية وقطاع غزة). وهناك 6 بالمئة فقط من الفلسطينيين في لبنان أكملوا المرحلة الجامعية بينما تتجاوز النسبة في الضفة الغربية وقطاع غزة العشرين بالمائة.

النكبة الثانية

وليس أدل على الكارثة من أن غالبية الطلاب الفلسطينيين في لبنان تتلقى دروساً إضافية خارج مدرستها، الأمر الذي يلغي تماماً فكرة "مجانية التعليم" في مدارس الأونروا، فتكلفة تدريس الطالب الواحد في الشهر حوالى 300 ألف ليرة (15 دولاراً تقريباً)، ويزيد المبلغ عن ذلك في المرحلة الثانوية. فعلى الطالب أن يداوم دوامين، واحداً في المدرسة النظامية وآخر في المعاهد الكثيرة المنتشرة في المخيمات. في الوقت الذي تقول فيه الأونروا إن تكلفة الطالب الواحد في مدارسها سنوياً هو 841 دولاراً.

خلاصة القول إن الفلسطينيين الذين رأوا قبل أكثر من مئة عام أنه لا سبيل لنهضتهم ومواجهة خصومهم سوى سلوك طريق التعليم، فكانت الأسماء الكثيرة جداً في هذا المجال، يعيشون اليوم في لبنان نكبة ثانية من خلال ما يجري في مدارس الأونروا. وإذا كانت أدوات مواجهة النكبة الأولى قليلة أو شبه معدومة، فإن أدوات مواجهة النكبة الثانية متوافرة، وانتصار الفلسطينيين ممكن جداً.

المصدر: المدن