مشاغل تراثية في مخيمات شمال لبنان
أناملٌ فلسطينية تصنع تراثاً، أملاً، وعودة..
تقرير: هبة الجندواي
تجلس أم وسام كل يوم أمام ماكينة الخياطة تحيك ثوباً،
أو حقيبةً أو فستاناً تراثياً.. عندما تنظر إليها وهي تحيك بالخيط والإبرة تظنّ
للوهلةِ الأولى أنّهما كيانٌ واحد لا ينفصلان عن بعضهما، كأنهما ولدا معاً..
فنظرتها وابتسامتها تلك التي لا تفارق محيّاها رغم الجهد والتركيز الشديد الذي
يتطلّبه عملها، توحي لك أنّ هناك سراً دفيناً يكمن وراء ذلك الرضى، والحبٌّ العميق
الذي لا ينضب.. ربما نبالغ بعض الشيء، لكن كلماتها الصّادقة التي باحت بها، أثناء
لقائنا بها في مخيم نهر البارد، اختصرت القضيّة: «عمل الخيط والإبرة مش هيّن، لكن
حبّي لفلسطين مش هيّن أبداً وأكبر من تعبي..».
تراث يحملُ عَـودةً وصمود
بعد مشوارٍ طويلٍ وعناء ثلاث ساعات قطعناها من مدينة
صيدا إلى مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في مدينة طرابلس، كانت وجهتنا «مشغل
جذور للتراث الفلسطيني» للتعرّف عليه وعلى منتجاته التراثية التي نالت إعجاب
الكثير من محبّي التراث الفلسطيني. تقصد المشغل العديد من نساء المخيم وفتياته من
أجل تعلّم التطريز، والعمل على إنتاج تراثيّات فلسطينية في غاية الروعة، تنمّ عن
ذوق رفيع وإتقان في العمل، حيث تتنوّع منتوجات المشغل من أثواب وفساتين تراثية إلى
حقائب وميداليات، وكوفيات.. وكلّ ما يرمز إلى الوطن والقضية.
« لقد
كانت نكبة مخيم نهر البارد عام 2007 دافعاً أساسيّاً لإنشاء مشغل جذور، تقول ندى
شهابي، مسؤولة المشغل. إذ بعد أن بدأت عودة بعض الأهالي إلى المخيم عام 2008، كان
لا بدّ من طريقةٍ لإيصال فكرة أنّ الوجود الفلسطينيّ في مخيّم نهر البارد وغيره من
المخيّمات الفلسطينية في لبنان، ما هو إلّا محطة انتظار مؤقتة لعودةٍ أبديةٍ إلى
فلسطين. وتضيف ندى «إلى جانب ما خلّفته حرب نهر البارد من بطالة وفقر كبيرين، كان
هذا المشروع يشكّل دعماً قويّاً لنساء المخيّم على الصّعيد المادي، وإبرازاً
لدورهم في الحفاظ على حق العودة، من خلال الحفاظ على التراث والعمل على نشره. وقد
كان لنا العديد من المشاركات في عدّة معارض في مناطق لبنانيةٍ مختلفة.»
التراث أسلوب حياة
هو عملٌ يستمدّ كل تفاصيله من التراث الفلسطيني، سواء
في شكل الدرزة أو لونها، حيث يختلف الثوب الفلسطيني من منطقة فلسطينية إلى أخرى،
فالثّوب المطرّز باللون الأحمر القاتم كانت ترتديه نساء القدس ورام الله، والثوب
المطرّز باللون البرتقالي تُعرَف به نساء النّقب، أمّا قرى الجليل وغيرها فيتميّز
الثوب بالألوان الزاهية، والورود والطبيعة. وكانت المرأة الفلسطينية من خلال
الثّوب الذي ترتديه تُعرف من أي منطقة هي، ويُعرَف وضعها الاجتماعي؛ متزوجة كانت
أو عزباء أو أرملة.. تقول ندى. كل تلك التفاصيل الدقيقة لثوب المرأة الفلسطينية،
ما هو إلّا تأكيدٌ على أهميّة التراث بالنسبة للفلسطينيّين، إذ من خلاله
تُعرَفثقافة الشعب ويُعرف تاريخه.
«في
سهرة كنَّتي لما اتزوّجتْ لبّسْتها ثوب فلسطيني، حتى نشجّع الصبايا يلبسو تراثهن
بأحلى المناسبات عندهم ».. بهذه الكلمات عبّرت أم محمّد عن فخرها بتراث أجدادها
وقضيّتها، فهي تشجّع بناتها على تعلّم التطريز للحفاظ على عمليّة توارثه بين
الأجيال القادمة واللاحقة.. وتقول أم محمّد «علّمت ابنتي الكبرى التطريز، وأوصيتها
أن تعلّم ابنتها هي الأخرى حتى يبقى متوارثاً في عائلتنا». وتضيف « منتوجاتنا دائماً
ما نجعلها تتناسب مع الموضة، لنجذب الصبايا والنساء إلى اقتنائها، ولكن مع الحفاظ
على شكل التطريز واستمداده للتراث».
« للحكاية بقيةٌ.. رغم الإعاقة »
في مخيم البداوي للاجئين الفلسطينيين في طرابلس، كان
لنا محطةٌ أخرى نتعرّف فيها على المؤسسات التي تهتمّ بالتراث الفلسطيني.. وهناك
كان للحكاية بقية.
ففي «مركز حنين لذوي الإعاقة»، مشهدٌ آخرٌ للإبداع في
إنتاج التراث الفلسطيني، ولكن ما يختلف هنا هو أنّ الإبداع كان بأيدي فتيات من
الصمٌّ والبكم من ذوي الاحتياجات الخاصّة. لوحة امرأة فلسطينية مناضلةٍ هنا،
مسابحٌ بلون علم فلسطين هناك، وميداليات ترمز لفلسطين في ناحيةٍ أخرى.. هي أعمالٌ
متنوّعة بأناملَ مبدعةٍ عُرضت في غرفة متواضعة في مركز حنين، فإعاقتهنّ لم تمنعهنّ
من أن تكون لهنّ لمسةٌ جميلةٌ في الإنتاج التراثي الفلسطيني.
«كتير
مبسوطة أنا لإني عم بعمل مسابح من ألوان علم بلدي فلسطين».. هي كلمات أوحتها عينا
كوثر عودة الدافئتين وروحها المرحة، هي لا تستطيع أن تتكلّم لتفصح عمّا في داخلها،
لكن تلك اللهفة البادية عليها وهي تشبك الخرز لتصنع إنجازها، كانت كافيةً وبالغة
التأثير. كوثر (18 سنة) هي إحدى الفتيات اللواتي انتسبن إلى المركز منذ تأسيسه عام
2008، أبت إلّا أن يكون لها دورٌ فعّال كفتاة فلسطينية في خدمة قضيتها، فالإعاقة
ليست بالجسد بل الإعاقة هي في القلب عندما ينسى حقه وقضيّته.
وفي صدد ذلك، يقول د.مجدي كريّم أنّ مركز حنين تأسّس
بهدف مساعدة ذوي الإعاقة وتأمين الكفالات لهم، وكان المركز يهتمّ بتنويع الأنشطة
للمعوّقين فارتأى أن يُتيح الفرصة للفتيات لتعلّم الأشغال التراثية وفعلاً كان من
بين المشاريع الناجحة والمميّزة، حيث يعود ريع تلك الأشغال التراثيّة إلى
المعوّقات من أجل مساعدتهنّ وتشجيعهنّ على المضي قدماً في هذا المجال. وأضاف د. كريّم
أنّ المعرض الذي أقيم في مخيّم البداوي في اليوم العالمي للمعوّق في الثالث من
كانون الأول (ديسمبر) العام الماضي، لاقى صدىً وتشجيعاً كبيرين من قبل روّاده، كما
أنّ العديد من الجمعيات البريطانية والدنماركيّة شجّعت الفكرة وأبدت دعمها
لهنّ.وفيما يتعلّق بتطوير العمل قال كريّم أنّ هناك فكرةً في إقامة معارض في أكثر
من منطقةٍ لبنانية لتعريف الناس على المركز وعلى إبداعات المعوّقين، وأكّد أنّ
المركز سيشارك في معرض الحملة الدولية للحفاظ على الهوية الفلسطينية «انتماء» في
ذكرى النكبة الفلسطينية في شهر أيّار(مايو) المقبل ففلسطين تستحق الكثير.
شعورٌ لا يُوصف انتابني
في طريق عودتنا إلى مدينة صيدا، شعورٌ فخر واعتزاز أزال عناء المسافات الطّويلة.
فالتراث قضيّة الجميع، هو الهويّة، والعودة، والانتماء..في ألوانه وتموّجاته
يُختصر تاريخ شعب بأكمله. والعدوّ الصهيوني حاول وما زال يحاول سرقته، لكنهنه
عبثاً يحاول طالما فينا الكبير والصّغير، الصّحيح والمعوّق يسمو بتراثه عالياً،
ليحافظ على ما تبقى له من أرضه المُغتصبة.
المصدر:شبكة
العودة الإخبارية