اتفاقية أوسلو وآثارها على قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان
محمد ابو ليلى - بيروت
في شهر أيار من عام 1948م، أقدمت العصابات الصهيونية المتوحشة على طرد ما لا يقل عن 600 ألف فلسطيني، تطبيقاً للمؤامرة الكبرى التي بدأت عام 1897م باجتماع الحركة الصهيونية برئاسة ثيودور هرتزل، وصولاً إلى وعد بلفور في عام 1917م الذي نصّ على إقامة دولة لليهود في فلسطين.
ومنذ ذلك الحين، تُعَدّ القضية الفلسطينية عموماً وقضية اللاجئين الفلسطينيين خصوصاً من أقدم الملفات الساخنة التي شهدها العصر الحديث على المستوى الأممي.
وقد شُغلت الدول العظمى، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، بإيجاد حلول لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين بسبب صعوبة هذا الملف ونتائجه المضرة في الرأي العام العالمي بـ"إسرائيل" من جهة، ومن جهة أخرى بسبب الضغط الذي مارسته الدول العربية التي استضافت اللاجئين الفلسطينيين، على الأمم المتحدة، الهادف إلى ضرورة إرجاعهم إلى أرضهم التي هُجّروا منها بسبب الاحتلال الصهيوني لها. فكان مشروع الرئيس الأميركي هنري ترومان في عام 1949م بإعادة أكثر من 100,000 لاجئ فلسطيني إلى أرضهم، ومشروع إريك جونستون في عام 1953م، ومشروع دالاس 1955م، حيث طالب بإعادة كافة اللاجئين الفلسطينيين (قُدِّر عددهم في ذلك الوقت بنحو مليون لاجئ فلسطيني) إلى ضمن الحدود التي تحددها "إسرائيل". وفي منتصف الستينيات، كانت مبادرة جوزيف جونسون في عهد الرئيس جون كنيدي، وجونسون صاحب فكرة إعطاء رب الأسرة الفلسطينية الحق في تقرير المصير. وفي السبعينيات كانت رؤية الرجل الأقوى في وزارة الخارجية الأميركية هنري كيسينجر الذي تعامل مع قضية اللاجئين على أنها قضية إنسانية وليست سياسية، لتكون مبادرة ريغان في أواخر الثمانينيات.
مشاريع لتسوية قضية اللاجئين... مؤتمر مدريد:
شهدت بدايات التسعينيات من القرن الماضي أحداثاً دولية إقليمية مهمة ومحورية، أسهمت مباشرة في تعميق السيطرة الأميركية الأحادية على العالم، وبالتالي التفرد في إحكام السيطرة وإحداث تغييرات في مسار الصراع العربي – "الإسرائيلي" في "الشرق الأوسط"، وضغطت باتجاه انعقاد مؤتمر مدريد بين العرب و"الإسرائيليين" عام 1991م، وقد قسمت المحادثات إلى مسارين:
- الأول: محادثات ثنائية تجري بين أطراف النزاع العربي (فلسطين والأردن وسوريا ولبنان) و"إسرائيل" مباشرة.
- الثاني: محادثات متعددة الأطراف تتناول المواضيع الرئيسية التي يتطلب حلها بالتعاون مع جميع الأطراف.
وقد انحصرت مناقشة قضية اللاجئين الفلسطينيين في المحادثات المتعددة الأطراف التي تشكلت معها "مجموعة عمل اللاجئين" التي ترأستها كندا والتي بدأت أعمالها قبل عام من توقيع اتفاقية أوسلو، أي في عام 1992. وقدمت في عام 1995م ورقة عمل تحت عنوان "رؤية بيرون"، وذلك بالتنسيق مع الوفد الأميركي. وبدأت الرؤية الكندية بتعريف نفسها من خلال التشديد على شرق أوسط جديد خال من اللاجئين، ومنح الهوية لمن لا هوية له، وفسح المجال أمام تنمية مكان الفقر والتشرد. وقد حددت الورقة حجم اللاجئين وأعدادهم ومشكلاتهم برعاية النرويج، وتقديم آلية جمع شمل الأسرة برعاية الدولة الفرنسية، وتنمية الموارد البشرية وتوفير فرص العمل والتأهيل المهني، وقد تكفلت بمتابعة هذه النقطة الولايات المتحدة الأميركية. وتضمنت الورقة أيضاً مستقبل نشاطات الأونروا في الأقاليم الخمسة، إضافة إلى بحث الطاقة الاستيعابية للضفة الغربية وقطاع غزة بالنسبة إلى العائدين الفلسطينيين.
اتفاقية أوسلو وقضية اللاجئين
أتى توقيع اتفاقية أوسلو نتيجةً للمحادثات السرية التي حصلت في مؤتمر مدريد والتي قادها من الجانب الفلسطيني الرئيس الراحل "أبوعمار" مع "مهندس" اتفاقية أوسلو "محمود عباس – أبو مازن" الذي تنازل عن حق العودة منذ فترة وجيزة. واتفافية أوسلو من الاتفاقيات التي تركت آثاراً سلبية جداً للأسف الشديد على القضية الفلسطينية برمتها، ونخصّ بالذكر قضية اللاجئين الفلسطينيين، حيث اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية "م.ت.ف" بحق "إسرائيل" بالوجود على المناطق التي احتلتها عام 1948م، أي بنسبة 78% من أرض فلسطين، وبالتالي أصبحت هذه الأرض خارج إطار الصراع، وهذا ما يعني أن اللاجئين الفلسطينيين الذين خرجوا من حيفا ويافا وعكا والصفد والصفورية وغيرها الكثير من المدن والقرى لم يعد بالإمكان العودة إليها. أيضاً شدد الاتفاق على "نبذ العنف" وإلغاء كافة أشكال المقاومة التي وافقت عليها م.ت.ف، ما يعني أن مقولة "أن العدو لا يفهم إلا لغة واحدة.... هي لغة الحراب" كانت فقط في زمان الشيخ عز الدين القسام والشهيد عبد القادر الحسيني والشهيد عبد الرحيم محمود، والنتيجة هي نفسها التخلي عن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم التي سُلبت من العصابات الصهيونية، باعتبار أن مبدأ الاحتلال لا يمكن أن ينتهي إلا بالمقاومة، وقد أثبت لنا التاريخ ذلك. ومن الأمور المثيرة للاستغراب في هذا الاتفاق، أن الملفات الأساسية المهمة، وعلى رأسها قضية اللاجئين، تم رميها إلى مفاوضات الحل النهائي. والمضحك المبكي في ذلك، أنه بعد كل هذه الاعترافات والتنازلات عن حقوق الشعب الفلسطيني وأملاكه، التي لا تمتلك م.ت.ف الحق في التصرف بها، تأتي فلسفة تأجيل بتّ قضية اللاجئين إلى الحل النهائي، ولذلك تركت قضيتهم في مهب الريح، وراحت تتعاظم مخاطر حلها على قاعدة التوطين والتهجير في حال نجاح تطبيق الاتفاق واستقراره. وبرزت العديد من المؤشرات الملموسة على هذا الاتجاه، وخاصة في لبنان والأردن. ومن النتائج الخطيرة التي توصل إليها المئات من الباحثين، أن اتفاق أوسلو أدى إلى تراجع خطير في المكانة الدولية للقضية الفلسطينية وفي الالتزام الدولي إزاء الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني؛ فالاتفاق لا يقوم على قرارات الشرعية الدولية ولا مرجعية دولية له، بل على التوافق بين "إسرائيل" وفريق أوسلو الفلسطيني.
تبعات اتفاقية أوسلو على اللاجئين الفلسطينيين في لبنان
في المقابلة التي أجرتها جريدة السفير مع وزير الخارجية اللبناني فارس بويز تحت عنوان "حول التعاطي مع الوجود الفلسطيني في لبنان" والتي نشرت في تاريخ 1994/4/18، أي بعد توقيع الاتفاق بأشهر قليلة، رأى وزير الخارجية أن حل قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يكون عبر ثلاثة محاور أساسية: الأول إقرار مبدأ حق العودة وتثبيت قرار الأمم المتحدة بحق العودة إلى أماكن تحت إدارة السلطة الفلسطينية؛ لأن "إسرائيل" لن تسمح بعودتهم إلى الأراضي التي خرجوا منها. ثانياً، ضرورة لمّ شمل العائلات الفلسطينية، معتبراً أن بتنفيذ هذه الخطوة "نكون قد حققنا 25% من مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان"، والمحور الثالث أن تفسح الدول الغنية والشاسعة التي تفتقر إلى الكادر البشري، المجال أمام اللاجئين الفلسطينين في لبنان للاستيطان على أراضيها، معللاً بأن لبنان دولة صغيرة المساحة ولا تتحمل الأعداد الهائلة من اللاجئين الفلسطينيين. وتشديداً على كلمة "لا تتحمل"، أشار وزير الخارجية إلى أن لبنان أصلاً، منذ بدايات الأحداث في عام 1948م، لم يكن ليتحمل هذه الأعداد من اللاجئين الفلسطينيين، وأنّ من غير الجائز حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين على حساب خلق مشكلة للبنانيين.
وقد لفت وزير الخارجية لفتة مهمة تتعلق بقانون العمل والحقوق المدنية للاجئين الفلسطينيين عند سؤاله: "إذا لم يرغب الفلسطيني في المغادرة، فهل يكره على ذلك؟"، أشار: "............. أعتقد أن عدداً كبيراً من الفلسطينيين لا يرغبون إلا في العودة إلى فلسطين، وإما إلى بلد يعتبرون أن شروط العمل أو شروط الإقامة أو حظوظ العيش فيه أفضل بالنسبة إليهم. وأعتقد أن فتح مثل هذه الخيارات لا يتناقض مع حقوق الشعب الفلسطيني، أكانت في العودة أم في تجمع العائلات أم في انتقاء البلد الذي يرغب في أن يعيش فيه".
ولا بد من الإشارة أخيراً إلى أن وزير الخارجية أشار إلى أن الدولة اللبنانية منعت إعادة إعمار المخيمات في ذلك العام، أي عام 1994م بحجة منع توطين اللاجئين في لبنان.
الخاتمة
لقد أحدث اتفاق أوسلو انعاكسات سلبية على قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، حيث أضاع هذا الاتفاق ما صبر عليه اللاجئون الفلسطينييون بأكثر من نصف قرن من الزمن، وإن تبعات هذا الاتفاق يتذوق مراراتها اللاجئون الفلسطينييون في لبنان؛ بحيث جعل الموقف اللبناني الرسمي يرسم آفاق تعامله مع قضية اللاجئين باتجاه تهجيرهم إلى الدول الإسكندينافية والغربية والعربية. وبالمناسبة، "لم يستحِ الساسة في لبنان عندما قالوا إن على اللاجئين الفلسطينيين مغادرة لبنان وإن بلاد الله واسعة"، والقيام بإصدار قوانين لا تعامل اللاجئ كما نص عليه القانون الدولي حيث حُرم الفلسطيني العمل والتأمين والضمان الاجتماعي وامتلاك العقارات والمساكن بحجة منع التوطين. والنتيجة كانت، أن نسبة الفقر تفاقمت داخل أوساط اللاجئين في لبنان إلى 60% وأن نسبة البطالة أصبحت تفوق 50% وأن نسبة الأمية زادت لتصبح 25%، وكل ذلك لم يكن ليحدث لولا هذا الاتفاق.
لذلك، نحن أمام اتفاق رسم للقيادة السياسية اللبنانية منذ 18 سنة الموقف السلبي تجاه آلية التعامل مع الملف الفلسطيني. ومن الواضح أن الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ اتفاق أوسلو إلى اليوم، تراهن على أن قضية اللاجئين لا يمكن حلها إلا بمسارين: الأول اتباع سياسة حرمان الفلسطينيين حقوقهم المدنية والاجتماعية، والمسار الآخر تراهن الدولة اللبنانية على أنه من خلال اتباع سياسة المسار الأول سيؤدي ذلك إلى إصرار اللاجئ الفلسطيني في لبنان على البحث عن البديل، وإن طرح في المحافل الدولية فهو حتماً سيكون التهجير.
المصدر: مجلة العودة - العدد الثالث والستون