اضطهاد الفلسطينيين ضرورة
الجمعة، 10 شباط، 2012
في العام 1927 ولد وديع حداد في مدينة صفد في فلسطين المحتلة وعاش مرحلة طفولته ومراهقته في مدينة حيفا حيث كان والده يدرّس اللغة العربية. في العام 1948 هجّرت العصابات الصهيونية العائلة وغيرها من العائلات الفلسطينية. وقد انتقلت عائلة حداد إلى بيروت حيث التحق وديع بالجامعة الأميركية في بيروت لدراسة الطب، وهناك تعرف إلى جورج حبش الذي أسس في وقت لاحق حركة القوميين العرب، وكان وديع حداد من المؤسسين. في وقت لاحق ترأس وديع حداد فرع العمل الخارجي في الجبهة الذي اشتهر بشن عمليات في مختلف أنحاء العالم ضد المصالح الأميركية والإسرائيلية. في العام 1978 توفي وديع حداد في ألمانيا الشرقية، ويقال إنه قد سمم من قبل الموساد الإسرائيلي. المثير في الموضوع أن وديع حداد كان يحمل الجنسية اللبنانية هو وعائلته. والدليل على ذلك أن أخاه قيصر حداد، مؤسس مدرسة الروضة الذي توفي قبل سنوات قليلة كان يعرف بأنه لبناني.
حصلت عائلة حداد على الجنسية اللبنانية أيام الرئيس الراحل كميل شمعون الذي سعى إلى تجنيس الفلسطينيين المسيحيين. وفي الوقت نفسه كان عدد كبير من العائلات الفلسطينية الثرية قد نال الجنسية اللبنانية. ونذكر على سبيل المثال يوسف بيدس مؤسس بنك أنترا وكازينو لبنان وطيران الشرق الأوسط وأستديو بعلبك، وحسيب الصباغ وسعيد خوري مؤسسي شركة اتحاد المقاولين CCC ، ورفعت النمر مؤسس البنك الاتحادي العربي ثم بنك بيروت للتجارة وفيرست بنك إنترناشونال، وباسم فارس وبدر الفاهوم مؤسسي الشركة العربية للتأمين، وزهير العلمي مؤسس شركة خطيب وعلمي، وكمال الشاعر مؤسس دار الهندسة، وريمون عودة مؤسس بنك عودة، وتوفيق غرغور مالك توكيل مرسيدس وشركة ليسيكو وغيرها، وأودين أبيلا صاحب سلسلة مطاعم أبيلا الشهيرة وغيرهم كثيرون. كذلك فإن معلومات تفيد أن وجه لبنان السيدة فيروز واسمها الأصلي هو نهاد حداد من مواليد الناصرة وأمها لبنانية من عائلة البستاني، كما أن الفنانة ماجدة الرومي مولودة لأب فلسطيني هو الملحن حليم الرومي المولود في حيفا، وأم لبنانية.
والجدير ذكره أن عدداً من المسيحيين الفلسطينيين الذين جنسوا انضموا إلى القوات اللبنانية في ما بعد «دفاعاً عن لبنان في مواجهة الغريب الفلسطيني». ففي الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1987 اقتحم مسلح مزود بكاتم للصوت منزل النائب نجاح واكيم في محاولة لاغتياله، لكن واكيم أرداه بخمس رصاصات، وقد تبين في وقت لاحق أن من قام برصد منزل النائب السابق كان فلسطينياً مسيحياً يسكن في البناء المقابل واسمه جمال جهشان، وكان عضواً في القوات اللبنانية. فكيف يمكن فهم الأصوات التي تعلو ضد توطين الفلسطينيين في لبنان؟
لقد مر النظام اللبناني بعدة مراحل من التحولات التي أدت إلى إرساء صيغته الحالية. فقد تم اختراع لبنان في أواسط القرن التاسع عشر حين كان الفرنسيون بحاجة إلى مدخل لتجارتهم إلى المشرق، فكان أن ازدهر ميناء بيروت ابتداءً من العام 1830 كبديل عن مرفأي صيدا وصور الذين كانا يداران من قبل نخب تجارية موالية للدولة العثمانية. ولأن الفرنسيين كانوا بحاجة إلى مرفأ خاص بهم، فإنهم اتخذوا من بيروت مركز ترانزيت لنقل تجارتٍهم إلى الداخل السوري. وبالتالي فقد تحولت البلدة التي كانت لا تضم أكثر من ألف نسمة في العام 1820 إلى مدينة مزدهرة في العام 1860 تضم نحو ستين ألفا من السكان. وقد شقت في ذلك العام طريق الشام لتسهيل نقل البضائع من بيروت إلى دمشق، واستقطبت المدينة الصاعدة عائلات دمشقية ثرية كعائلة فتّال والصحناوي وخبّاز وبكداش وبرازي وقباني وغيرها.
وكان لا بد من إعطاء عمق جغرافي لهذا المرفأ المحاط بالجبال من كل حدب وصوب، فكان اختراع لبنان الكبير على يد الجنرال غورو في العام 1920 وضم مناطق خصبة إليه في عكار والبقاع والجنوب اللبناني لتأمين حاجاته من الغذاء. وكان أن أوكل إلى الموارنة الدور الرئيسي في الجمهورية الحديثة الولادة لأنهم والوا الفرنسيين. في وقت لاحق نظم السنّة أنفسهم كطائفة تولت لعب الدور الثاني من حيث الأهمية في لبنان هذا. وفي الستينيات جاء دور الشيعة لتنظيم أنفسهم كطائفة مستقلة، وقد لعب الإمام موسى الصدر دوراً رئيسياً في تأطير الشيعة طائفياً عبر إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ومجلس الجنوب، ما أدى إلى استقلال الشيعة عن السنّة. في هذا الوقت كان دور الدروز قد تراجع إلى المركز الرابع من حيث الأهمية بعد أن كانوا هم من أنشأ إمارة جبل لبنان التي اعتمدت من قبل المؤرخين اللبنانيين كمدخل لتشريع وجود الكيان اللبناني.
"سود" لبنان
لقد كانت الهرمية التي استقرت عليها البنية الهرمية اللبنانية تقوم على هرمية من التمييز المليئة بالتناقضات التي كانت تمنع نشوء هوية وطنية لبنانية فاعلة وبالتالي كان لزاماً خلق الهوية اللبنانية بالتناقض مع هوية أخرى وهو أمر تم اعتماده في أنحاء أخرى من العالم، ففي العصور الوسطى ومن أجل خلق هوية أوروبية مسيحية تم اختراع الآخر المسلم العربي، وفي الولايات المتحدة ومن أجل خلق هوية بيضاء لأميركا تم فرض التمييز ضد السود والملونين، وفي لبنان كانت النخب السياسية بحاجة إلى هذا الآخر فتم اختراع نظرية «الغريب» الذي يحمل دائماً مسؤولية المشاكل التي تواجه لبنان. ولأن الهرمية هذه كانت سياسية كما كانت اقتصادية فقد فرض على اللاجئين وضع معيشي مأسوي. فعقب استيعاب أثرياء الفلسطينيين ومسيحييهم وتجنيسهم بات الفلسطينيون في لبنان طبقة منبوذة تحتل أسفل الهرم السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
والمثير للاهتمام في هذا الموضوع أنه على مدى الخمسين عاماً من تاريخ لبنان ما بعد الاستقلال فقد تضافر الوزراء من مختلف المشارب والتيارات السياسية على فرض قوانين تمييزية ضد الفلسطينيين خصوصاً في مجال العمل. ففي العام 1982 ومباشرة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان أصدر وزير العمل الدكتور عدنان مروة القرار رقم 189/1 الذي منع فيه الفلسطينيين من ممارسة 65 مهنة إضافة إلى المهن التي يمكن أن يمارسها اللبناني. في ما سمح له القانون بممارسة مهن «وضيعة» كالزراعة والبناء والتنظيفات والخدمة في البيوت. وفي العام 1993 وفي ظل وزير عمل بعثي هو عبد الله الأمين تم تعديل القانون السابق بقرار يزيد عدد المهن المحرمة على الفلسطينيين إلى 75 وهو ما أكده لاحقاً وزير سوري قومي اجتماعي هو أسعد حردان الذي أصدر في العام 1995 قرار رقم 1/621 الذي تبنى فيه قرار سلفه الأمين.
لقد حصر الفلسطينيون الذين لم يتم تجنيسهم والذين شكل عددهم الذي يوازي 400 ألف موزعين على 12 مخيماً مصدراً للعمالة الرخيصة والطيعة خصوصاً أنه منع عليهم تنظيم أنفسهم في نقابات تحميهم من اضطهاد رب العمل. كذلك، فإن وضعهم في هذا المصاف الجائر جعلهم أيضاً أداة لتطويع العمال اللبنانيين. فإذا لم يرض الفلسطيني بأجره المتواضع يتم صرفه من دون الاعتراف بأي حقوق له، وإذا طالب العامل اللبناني بزيادة أجره وبحقوقه المنصوص عليها في القانون تم تهديده باستبداله بالعامل الفلسطيني المحروم أصلاً من حقوق العمل. لقد كان هذا النمط من الهيمنة السياسية يتوافق مع نموذج الهيمنة السياسية القائمة على الطائفية والعشائرية الذي وصفه بيتر غران في كتابه Beyond Euro centrism بغية تغييب الصراع الطبقي.
حدود الطوائف ترسم بدم الفلسطيني
شهدت سنوات الستينيات تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية متشعبة. فقد أدت السياسات التي اتبعتها النخبة اللبنانية في الخمسينيات والستينيات إلى التركيز على اقتصاد الخدمات على حساب الزراعة والصناعة ما أدى إلى تركز الثروة في يد نسبة قليلة من الشعب اللبناني وإفقار أكثر من خمسين في المئة من السكان الذين يعيشون بالدرجة الأولى في الريف. ما أدى إلى حركة نزوح أكثر من أربعين في المئة من سكان الريف إلى أحزمة بؤس في المدن. وصودف أن أحزمة البؤس هذه كانت تجاور مخيمات الكرنتينا والنبعة والضبية وشاتيلا. و«لأن ما بيحن على الفقير إلا الفقير» فقد حصلت حالات تزاوج كثيرة بين اللبنانيين الفقراء والفلسطينيين...
لقد شهدت الستينيات والسبعينيات حراكاً سياسياً قوياً أدى إلى كسر الحواجز بين الطوائف لحساب تضامن طبقي بين أفراد الطبقات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة. ولم يكن التعاطف مع القضية الفلسطينية من قبل شرائح واسعة من الشعب اللبناني في ذلك الوقت في شكل من أشكاله إلا تعبيراً عن التكافل الاجتماعي مع الطبقات الفقيرة إذ احتل فلسطينيو المخيمات أسفل الهرم الاجتماعي فيها. لقد كانت الحرب اللبنانية في جانب منها إعادة ترميم البناء الطائفي اللبناني الذي تصدع في الستينيات والسبعينيات نتيجة هذا الحراك الاجتماعي، ولم يكن العنف الذي شهدته هذه الحرب إلا عنفاً من قبل النخب موجهاً ضد الطبقة الوسطى والفقراء. ولم يكن غريباً أن يكون الفلسطينيون دائماً ضحايا هذا العنف لأنهم ينتمون إلى الطبقة الأكثر بؤساً في المجتمع اللبناني.
لقد شكلت المرحلة الأولى من الحرب محاولة مارونية لإعادة رسم حدود الطائفة المارونية التي تصدعت نتيجة تفاعل العديد من المسيحيين من الطبقة الوسطى والفقيرة مع فقراء الطوائف الأخرى ومنهم الفلسطينيون فتم توجيه العنف ضد «اليساريين المسيحيين وضد المسلمين الذين يعيشون في المناطق ذات الغالبية المسيحية وضد الفلسطينيين». فكانت مجازر النبعة والكرنتينا وتل الزعتر التي ذهب ضحيتها آلاف الفلسطينيين. أما المرحلة الثانية فقد شهدت رسم وليد جنبلاط لحدود الطائفة الدرزية، وفي هذه المرحلة لم يوجه الدروز عنفهم ضد الفلسطينيين لأن هؤلاء كانوا ذخيرة الحرب الدرزية في مواجهة المسيحيين. لكن مرحلة ثالثة وأخيرة كان لها أن تعيد الفلسطينيين إلى المخيم وتحصره فيها. لقد كانت هذه هي حرب المخيمات التي كان من أحد أهدافها الفصل بين الفقراء الشيعة والفلسطينيين عبر بث بذور الحقد بينهم وقد استمرت هذه الحرب التي شنتها حركة أمل ضد الفلسطينيين ثلاثة أعوام ولم يوقفها إلا صوت الانتفاضة الفلسطينية.
في مرحلة ما بعد الطائف عاد الفلسطينيون طيفاً بشرياً منبوذاً ومحاصراً في المخيمات، وكان لزاماً عليهم أن يكونوا كذلك حتى تعاد اللحمة إلى النظام اللبناني.
المصدر: تلفزيون الجديد