الحرم الإبراهيمي الشريف.. من المجزرة إلى السطو التراثي
الإثنين، 15 آب، 2011
اعتبرت المجزرة التي اقترفت في قلب الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة خليل الرحمن قبل سبعة عشر عاماً، في الذاكرة الوطنية الفلسطينية، أخطر الانتهاكات والاعتداءات والجرائم التي اقترفتها قوات جيش الاحتلال وعصابات المستوطنين اليهود ضد الخليل وأهلها، إذ تسلل المستوطن الإرهابي باروخ غولد شتاين إلى داخل الحرم، صباح الجمعة الخامس عشر من شهر رمضان 1414 هجري، أثناء صلاة فجر ذلك اليوم، مرتدياً الزي العسكري حاملاً سلاحه، متخطياً جميع المشاعر والقيم والمبادئ، وباشر بإطلاق الرصاص على المصلين الركع السجود فسقط العشرات منهم، وبلغ عدد الشهداء في تلك المجزرة تسعة وعشرين شهيداّ داخل المسجد، وواحد وثلاثين خارجه، ووقع أكثر من مائة وخمسين جريحاً.
تضرجت رحاب الحرم الإبراهيمي الشريف بدماء المصلين الطهر الأبرياء.
وفي أعقاب المجزرة، فرضت سلطات الاحتلال منع التجول على المدينة، وأخذ اليهود يرتبون الأمور داخل الحرم وفق أهوائهم ليحيلوه إلى كنيس يهودي بحجة الفرز بين المسلمين واليهود، وأدخلوا الكثير من التغييرات على وضع الحرم، بغية تهويده وتكريس هذا التهويد كأمر واقع ودائم.
وكان من أخطر تداعيات المجزرة على أوضاع أهلنا في مدينة خليل الرحمن، وعلى أوضاع الحرم الإبراهيمي الشريف أن كرست سلطات الاحتلال حالة التقسيم والهيمنة والتهويد التي قامت وتراكمت على مر السنين جراء مخططات وإجراءات التهويد في المدينة.
وما بين تلك المجزرة المروعة وما يجري اليوم، فقد انتقلت دولة الاحتلال إلى مرحلة متقدمة جداً في اختطاف الخليل أرضاً ومقدسات، ووصلت إلى مرحلة السطو الصريح على تراث المدينة، فمنذ أن أعلن نتنياهو عن خطته المشهورة لإحياء وصيانة ما أطلق عليه «المواقع التراثية اليهودية» في شباط الماضي، توجّه اللوبي «من أجل أرض إسرائيل» في الكنيست برئاسة أعضاء الكنيست «زئيف الكين» من حزب الليكود، و«أرييه إلداد» من حزب الاتحاد الوطني، برسالة إليه- أي إلى نتنياهو- يطلبون منه فيها «ن يضم ضمن خطته تأهيل المواقع التراثية ضم مواقع أثرية في أنحاء الضفة الغربية»، وبارك رؤساء اللوبي لنتنياهو خطته الوطنية لتأهيل وتقوية المواقع التراثية، والتي عرضها أمام مؤتمر هرتسيليا.
وجاء في فحوى الرسالة: «عدد كبير من المواقع التراثية المهمة لشعبنا تتواجد في أراضي الضفة الغربية، ومن اللائق ضم هذه المواقع التراثية إلى خطتك هذه»، وتضمنت الرسالة أيضاً مطالبة اللوبي، نتنياهو بـ«ضم مواقع تراثية في خطته، منها حسب العقيدة اليهودية، الحرم الإبراهيمي في الخليل، وقبر راحيل في مدينة بيت لحم، وقبر يوسف في نابلس، وأيضاً قبر النبي شموئيل»، كما طالب أعضاء الكنيست بـ«ضم عدد من المواقع الأثرية في جبل الخليل بالمدينة القديمة ومغارات «كومران» في البحر الميت، وجبل عيبال في شمال مدينة نابلس، وجبل جرزيم «النار» جنوب مدينة نابلس، وموقع القطار في قرية سبَستيا، ومنطقة سوسيا في الخليل».
وقال أعضاء الكنيست في رسالتهم: «هذه المواقع ليس لها بديل، وهي أساس بقائنا كشعب»، مؤكدين على «أهمية وضرورة تأهيل وتقوية الصلة بها، لأنها –وبحسبهم- تضمن مستقبل شعب عاد لأرضه بعد ألفي سنة من الاغتراب».
احتفالات توراتية في قلب الحرم
ويدعي المستوطنون أن لهم حقاً توراتياً في الخليل، ويعتبر مستوطنو الخليل أنفسهم رواداً يعيدون إنشاء مجتمع هجره أفراده بسبب مذبحة مات فيها 67 يهودياً على يد العرب عام 1929. ومنعت السلطات البريطانية التي كانت تحكم فلسطين آنذاك اليهود من العودة.
وعلى هذه الخلفية الإيديولوجية المزعومة، شارك نحو 20 ألف مستوطن في «احتفال» بضم مسجد الحرم الإبراهيمي لقائمة «الميراث الإسرائيلي»، وجرى الاحتفال في الحرم بمشاركة أعضاء في الكنيست ونواب وزراء من الأحزاب اليمينية بما فيها حزب «ليكود».
ولاحقاً وفي السياق الاحتفالي كذلك، أقام لواء «جفعاتي» التابع لجيش الاحتلال الإسرائيلي، حفل تخريج دورة تأهيلية لمجندين جدد انضموا إليه داخل الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، كخطوة استفزازية للفلسطينيين ومشاعر المسلمين في العالم، وأوضحت صحيفة يديعوت أحرونوت «أن الحفل بدا وكأنه مهرجان عسكري عادي، حيث تنقل قائد الكتيبة بين الجنود، بينما أكد المتحدثون أن هذا الاحتفال غير عادى لأنه يقام داخل باحات الحرم الإبراهيمي، أحد المواقع الأثرية الإسلامية فيما قام أهالي الجنود بالتقاط الصور التذكارية مع أبنائهم»، وقال أحد الجنود الذين تخرجوا من هذه الدورة: «إن الأجواء كانت رائعة وأن على كل جندي أن يقوم بزيارة الحرم الإبراهيمي».
كما أقام المستوطنون حفلاً صاخباً في باحات المسجد الإبراهيمي الشريف «استخدموا فيه الألعاب النارية والموسيقى الصاخبة وسط حلقات الرقص وذلك ضمن حفلاتهم السنوية التي تقام في مناسباتهم الدينية، ودعوات وزرائهم لتكثيف زيارة المستوطنين إلى الحرم ضمن سلسلة المصادرة والضم التي تمارسها حكومات الاحتلال ضد أملاك الفلسطينيين في المدينة»، و«تجمع مئات المستوطنين أمام الجيب الاستيطاني «أبراهام أبينوا» في قلب الخليل وعقدوا أيديهم وقاموا بأعمال رقص وعربدة وانطلقوا يرشقون الفلسطينيين ممن تبقى في البلدة القديمة بأقذع السباب والشتائم وسط دعوات عنصرية لقتل العرب، والمسيرات جابت شارع السهلة، وشارع الشهداء وشارع الإخوان المسلمين وقد ردد المشاركون فيها عبارات التنديد والتهديد ضد الفلسطينيين»، وقد شارك في المسيرات أقطاب التطرف، باروخ مارزيل وتلاميذ المتطرفة عنات كوهن وغيرهما ممن يجندون عناصر التطرف ويحشدون لقمع أي وجود فلسطيني داخل البلدة القديمة.
وخلال تلك المسيرات «هاجم المستوطنون عدة أحياء في البلدة القديمة منها حي تل الرميدة وباب الزاوية وشارع الشلالة القديم ومربع السوق وحي جابر ومحيط مستوطنة حجاي، حيث هاجموا المنازل بالحجارة والزجاجات الفارغة وحطموا نوافذها واعتدوا على سكانها، كما هاجموا سيارات الفلسطينيين المتواجدة في الأحياء المذكورة وحطموا زجاجها وفرضوا حالة من الرعب والخوف ضد المواطنين».
المشهد مفتوح على المزيد
يضاف إلى كل ذلك ما يقوم به جيش الاحتلال إلى جانب المستوطنين من اعتداءات على المساجد والأماكن التراثية الفلسطينية، فقد ذكرت المصادر الإعلامية على سبيل المثال «أن الجيش الإسرائيلي اقتحم عدة مساجد في مدينة الخليل وأجرى عملية تفتيش واسعة النطاق داخلها»، وقالت مصادر أمنية فلسطينية «أن قوة إسرائيلية معززة بآليات عسكرية اقتحمت مدينة الخليل وشنت عملية تفتيش استهدفت عدة مساجد في أحياء متفرقة من الخليل وعبث بمحتوياتها».
والمشهد في مدينة خليل الرحمن مفتوح على المزيد من سياسات السطو التراثي والتطهير العرقي ضد أهل الخليل، تلك السياسة راسخة محمومة متصلة تقف وراءها كافة الحكومات والقوى السياسية الإسرائيلية من أقصى يسارها إلى أقصى يمينها، وتتكامل فيها ممارسات دويلة المستوطنين الإرهابية، مع سياسة الانتهاكات والاعتداءات والعقوبات الجماعية التي تنفذها أذرع الاحتلال الأخطبوطية في كل مكان.
وفي المشهد كذلك، نوثق ابزر وأخطر أشكال الانتهاكات والاعتداءات والجرائم التي اقترفتها سلطات الاحتلال ودويلة المستوطنين الإرهابية ضد الخليل وأهلها، وهي بالتأكيد تلك التي نفذت ضد الحرم الإبراهيمي الشريف، حيث تشير المعطيات إلى أنها كانت شبه يومية وبأشكال مختلفة مثل الاقتحام أو التسلسل أو منع العرب من الدخول، أو خلع بلاط المسجد، أو تدنيس السجاد، أو التشويش على المصلين العرب وغير ذلك الكثير الكثير من الانتهاكات والاعتداءات والجرائم الواردة بالتفصيل في ملحق خاص بالانتهاكات ضد الحرم الإبراهيمي الشريف، ولم تتوقف اعتداءات وجرائم المستوطنين والجيش معاً ضد الحرم الإبراهيمي منذ ذلك التاريخ.
تقسيم الحرم الإبراهيمي
وكان من أخطر تداعيات المذبحة وتقرير لجنة التحقيق الإسرائيلية، على أوضاع أهلنا في مدينة خليل الرحمن، وعلى أوضاع الحرم الإبراهيمي الشريف أن كرست سلطات الاحتلال حالة التقسيم والهيمنة والتهويد التي قامت وتراكمت على مر السنين جراء مخططات وإجراءات التهويد في المدينة.
حول حالة تقسيم الحرم الإبراهيمي الشريف والهيمنة اليهودية عليه، نوثـق فيما يلي تقريراً نشرته مجلة البيادر السياسي المقدسية:
الترتيبات الأمنية المشددة التي اتخذتها حكومة رابين لم تستشر فيها أي رجل مسلم ولا أي رجل من أبناء خليل الرحمن الأمناء الحقيقيين والمخلصين للحرم الإبراهيمي منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، كما أنها لم تستـشر الأوقاف الإسلامية الحارس الأمين للحرم منذ قرون طويلة، وهي وضعت هذه الترتيبات ونفذتها وفقاً للمصلحة العليا لـ«إسرائيل» ووفقاً لمصلحة خدمة المستوطنين أولاً وآخراً وسعياً إلى تهويد الحرم بكامله في مرحلة لاحقة.
لقد جاءت السيطرة الإسرائيلية على الحرم الإبراهيمي الشريف تدريجية وفقاً للمخطط الأساس الذي قامت عليه دولة «إسرائيل» نفسها منذ البداية، ففي البدء كانت المطالبة بالسماح لليهود بزيارة مقامات الأنبياء الثلاثة وزوجاتهم إبراهيم ويعقوب واسحق عليهم السلام، وشيئاً فشيئاً تمكنوا من المطالبة بان يكون لهم مكان خاص بهم للصلاة، ولو في أوقات وأماكن محددة، ثم قامت السلطات الإسرائيلية وبحجة الأمن التي طالما استخدمتها لتحقيق أغراض شتى، قامت بوضع حراس من جيش الاحتلال وحرس الحدود بحجة حماية أمن المصلين المسلمين ومنع الاحتكاك بينهم وبين المصلين اليهود. وبعد ذلك تم إعطاء اليهود وبخاصة المستوطنين المتطرفين وحاخاماتهم الحق في دخول الحرم في كل وقت وظرف. وكان أن بدأت شكاوى المسلمين من تصرفات المستوطنين والجيش وحرس الحدود ولكن لا حياة لمن تنادي، كما أعلن ذلك المسلمون دائما عبر رجال الوقف الإسلامي العاملين في الحرم أو حتى ضمن بيانات رسمية كانت الهيئة الإسلامية العليا وإدارة الأوقاف الإسلامية تصدرها لفضح ممارسات المستوطنين وصمت السلطات الإسرائيلية على تلك الممارسات.
ونتيجة لذلك تمكن المستوطنون من الدخول بأسلحتهم فـكانت مجزرة الحرم الإبراهيمي، التي اتخذت ذريعة لتقسيم الحرم فعليا قسمة جائرة وظالمة لا يقرها أي عرف أو قانون وضعي أو سماوي، حيث منحت سلطات الاحتلال المستوطنين الفئة الظالمة والمعتدية القليلة العدد ما نسبته 55% من مساحة الحرم وضريحين من أضرحة الأنبياء من أصل ثلاثة، فيما منح السلمون 45% وضيق عليهم بشكل واسع.
انّ من أخطر تداعيات هذه المجزرة، أن أقدمت حكومة رابين آنذاك على تقسيم الحرم الإبراهيمي الشريف، مما شكل سابقة خطيرة في الاستيلاء على المقدسات الإسلامية وتهويدها.
المصدر: صحيفة الدستور الأردنية