الفلسطينيون في الدانمارك: حضور بارز في السياسة الدنماركية وارتباط شديد بالقضية وفشل في بناء المؤسسات
نضال أبو عريف
تُعتبر الجالية الفلسطينية من أقدم الجاليات في الدنمارك وأكثرها عدداً، حيث يعود الوجود الفلسطيني في هذا البلد إلى منتصف القرن الماضي، حيث كان أول المهاجرين من الفلسطينيين طالبي العلم والعمل بعد أن ضاقت بهم مخيمات الشتات بعد النكبة، إلا أن الأعداد كانت قليلة جداً واستمر توافد الفلسطينيين - وأغلبهم من الشباب - عبر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ولحق بالشباب بعض العائلات التي لم تجد لها مكاناً آمناً في دول الجوار، أو اضطرت للرحيل من مخيمات اللاجئين إلى القارة الأوروبية.
مع بداية الثمانينيات بدأ عدد الفلسطينين في الدنمارك يرتفع بوتيرة متزايدة، بلغت ذروتها بين عامي 1984 و1987، حيث وصل إلى الدنمارك حوالى 6137 حسب مركز الإحصاء الدنماركي. فقد هاجروا مباشرة من مخيمات لبنان المحاصرة التي عصفت بها الحرب أو من مراكز اللاجئين في ألمانيا التي كانوا قد مكثوا فيها لسنوات عديدة. وكانت السمة الطاغية على الفلسطينيين الوافدين إلى الدنمارك في تلك الفترة أن أغلبهم من فئة الشباب الذين تفرقت بهم السبل بعد حصار بيروت والحرب الأهلية في لبنان. وكان هناك أيضاً عدد من العائلات التي أجبرت على تبديل مخيمات اللجوء في البلدان العربية بمخيمات أكثر بعداً عن أرض الوطن.
واعتمدت الحكومة الدنماركية في تلك الفترة قانوناً خاصاً باللاجئين الفلسطينيين يمنحهم لجوءاً تلقائياً ويسهل عليهم لمّ شمل عائلاتهم. جاء القرار بعد اعتصام نظمه العشرات من طالبي اللجوء الفلسطينيين في كنيسة بلوغارد الواقعة في حي النوربرو في عام 1992، وهو حي تسكنه نسبة كبيرة من الأجانب ويقع في العاصمة كوبنهاجن.
منذ تلك الفترة الشاهدة على اللقاء الأول بين الفلسطينيين والدنمارك، بدأ الفلسطينيون بالاستقرار وتنظيم أنفسهم في جمعيات اجتماعية ودينية عديدة. كما عمل الفلسطينيون على إنشاء مدارس يومية وأسبوعية تهتم بتعليم أبنائهم اللغة العربية كمدرسة صامد والمدرسة العربية الدنماركية.
عدد الفلسطينيين وتوزيعهم السكاني
لا يوجد عدد محدد لفلسطيني الدنمارك، لكن الباحثيين الدنماركيين يقدرون عددهم بحوالي 26 ألف مواطن، وبذلك تكون الجالية الفلسطينية ثاني أكبر الجاليات العربية في الدنمارك بعد الجالية العراقية. ويتركز الوجود الفلسطيني في الدنمارك في عدة مدن رئيسية، فوجودهم كبير في أحياء العاصمة كوبنهاجن كحي النوربرو والمنطقة الشمالية الغربية من العاصمة. ويقطن بعض الفلسطينيين في عدد من ضواحي العاصمة كفالبي وبروندبي وهوندي وفي شمال جزيرة شيلاند.
أما مدينة أوغهوس وهي ثاني أكبر مدينة في الدنمارك فيتركز الوجود الفلسطيني فيها بمنطقة برابراند. وكذلك الحال في مدينة أودنسه وهي ثالث أكبر مدن الدنمارك حيث تقطن العديد من العائلات في منطقة فولسموسه. ويسكن عدد من العائلات الفلسطينية في جنوب جزيرة يولاند ومدينة كولنج، وكذلك في مدينة ألبورج الواقعة في شمال جزيرة يولاند.
ساعد قدوم الفلسطينيين إلى الدنمارك في فترة زمنية قصيرة وبأعداد كبيرة على تسهيل التواصل بينهم والتعاون في العديد من النشاطات. وساهم ذلك أيضاً في سهولة الحفاظ على هوية مشتركة علماً بأنهم عاشوا التجربة نفسها: تجربة طلب اللجوء التي اضطرتهم إلى الإقامة سوية في مراكز اللاجئين لسنوات عدة.
مع مرور الوقت طفت على السطح بعض الجوانب السلبية لهذا التلاحم الإجتماعي، الأمر الذي عكس صورة سلبية عن الفلسطينين في المجتمع الدنماركي وكأنهم مجموعة غريبة عن المجتمع لا تريد الانخراط في الحياة اليومية له، ولم تُعِر المؤسسات الدنماركية الاهتمام الكبير لتأثير خلفية الفلسطينيين على حياتهم في الدنمارك، ولم تقم المؤسسات بمساعدتهم بشكل كافٍ للخروج من الصدمة الثقافية والاجتماعية والنفسية، كما أنه لم تكن هناك خطط مدروسة لتفادي انعكاس ما عاناه الفلسطينيون في الحرب الأهلية اللبنانية على تصرفاتهم اليومية، مما ترك المجال مفتوحاً أمام عدد من الشباب الفلسطيني للإنحدار في قاع المدينة. بينما استطاع آخرون تأمين حياة كريمة لعائلاتهم وحصلوا على شهادات علمية من الجامعات الدنماركية.
«مخيم البرج» في الدنمارك
رغم النجاحات العديدة التي حققها الفلسطينيون في الدنمارك، إلا أن غياب سياسة حكومية واضحة كان له أثر سلبي على الاندماج، وأصبح الفلسطينيون الفئة المرتبطة بأشهر «غيتوهات» الدنمارك كفولسموسه وبرابراند ومجمع ميولاباركن في كوبنهاغن. فالحي السكني ميولاباركن الذي يمثل الناطقون بالعربية أكثر من 85% من سكانه، ويشكل الفلسطينيون الفئة الأكبر منهم، يطلق عليه اسم «مخيم البرج» كناية عن مخيم برج البراجنة الواقع بالقرب من العاصمة اللبنانية بيروت. فعناصر التشابه كبيرة بين المنطقتين بالرغم من ألاف الكيلو مترات التي تفصل بينهما، بهذه الكلمات وصفت صحفية دنماركية هذا الحي.
النشاط السياسي
كان للفلسطينيين في الدنمارك في سبعينيات القرن الماضي دور كبير إلى جانب الجمعيات الدنماركية وأحزاب اليسار الدنماركي في التعريف بالقضية الفلسطينية وتنظيم العديد من المعارض والنشاطات الثقافية والسياسية. كما أصدروا نشرات دورية عن القضية الفلسطينية كنشرة فلسطين الشهرية وأسسوا كذلك جمعية الصداقة الدنماركية الفلسطينية وشاركوا في تأسيس «الرابطة العربية في الدنمارك» وإصدار مجلة «الغد» الشهرية التي اهتمت بفعاليات الجالية العربية في الدنمارك، وكذلك كان لنشاط لجان حق العودة تأثير ملموس على الساحة الفلسطينية حيث قامت باستضافة وتنظيم عدة مؤتمرات وندوات على المستوى الأورربي، إلا أن اللجان لم تنجح حتى الآن في بناء هيكلية قوية تضمن استمرار العمل وتطوره. وتكتفي اللجان بإحياء بعض المناسبات الوطنية من خلال ندوات ومهرجانات خطابية وشعبية. أما في الجانب الآخر فكانت استضافة المنتدى الفلسطيني في الدنمارك - وهو جمعية أسست عام 2005 في العاصمة كوبنهاجن- لفاعاليات مؤتمر فلسطينيي أوروبا السادس في ذكرى ستينية النكبة نقلة نوعية للعمل الفلسطيني المحلي ومؤشر واضح على تواصل فلسطينيي الدنمارك مع المؤسسات الفلسطينية في أوروبا. إلا أن النشاط السياسي بدأ في التراجع على مدار العامين الماضيين ولم يوفق المنتدى ببناء جسور تواصل مع المؤسسات الدنماركية. وتشير الأرقام إلى ان أغلب المدن الدنماركية تضم عدة جمعيات يديرها مجموعات متفرقة ومتناحرة من الفلسطينيين ويغلب على معظم هذه الجمعيات النشاط الاجتماعي. أما مكتب منظمة التحرير فقد لعب دوراً كان في أغلبه سلبياً على نشاطات الجالية وتأثرت توجهات المكتب ونشاطاته بسياسات السلطة الوطنية الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو. ومما زاد الفجوة بين المكتب والجالية هو تصرفات بعض المسؤولين الذين حاولوا السيطرة على الجالية والتحكم بقرارها.
تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد لحتى الآن أي إطار تنسيقي أو تمثيلي لفلسطينيي الدنمارك. وتعتبر جمعية الصداقة الفلسطينية الدنماركية من أنشط الجمعيات على الساحة ولكنها شهدت في الأعوام الماضية العديد من الصدامات بين رئيسها السيد فتحي العبد و بعض أعضاء الجمعية من أصول فلسطينية، حيث شكل ترشح العبد في انتخابات البرلمان الأوروبي انقساما في صفوف أبناء الجالية بعد أن شن مروان الزعبي، والذي ترشح أيضا في نفس الانتخابات، هجوما عنيفا على فتحي العبد ولم ينجح أي منهما في الانتخابات.
ويلاحظ المراقبون أن غياب سياسة واضحة للاندماج في الحقبة الزمنية التي توافد فيها الفلسطينيون على الدنمارك أثر سلبياً على انخراطهم في الحياة الاجتماعية اليومية، مما دفعهم للانطواء على أنفسهم وتوثيق العلاقات فقط فيما بينهم. ولكن الأثر الإيجابي كان في تأسيس العديد من النوادي والجمعيات التي اهتمت بتربية الأطفال وكذلك في النشاطات الثقافية والترفيهية. وبدأ انخراط الفلسطينيين فعليا في المجتمع الدنماركي في أواسط التسعينيات حيث برز على الساحة العديد من الناشطين الذين قاموا بتنظيم العديد من الفعاليات الثقافية والسياسية والدينية، وساهم البعض منهم في التعريف بالثقافة الفلسطينية عن طريق المحاضرات والاحتفالات وتكوين عدة مؤسسات تعنى بالتعريف بفلسطين وتوضيح عدالة القضية الفلسطينية بالتعاون مع عدد من الشخصيات والمؤسسات الدانماركية. وكانت السمة الغالبة على هؤلاء الناشطين أنهم من الشباب الذين عاشوا في الدنمارك لفترة طويلة واستطاعوا فهم المجتمع وفهم احتياجات الجالية.
شخصيات سياسية
واكتسب الفلسطينيون الجزء الأكبر من شهرتهم من خلال العمل السياسي حيث يتميز أبناء الجالية الفلسطينية في الدنمارك بنشاطهم السياسي والإعلامي الملحوظ، وإن غلب عليه الطابع الشخصي في كثير من الأحيان. فيجلس في البرلمان الدنماركي عضو من أصول فلسطينية وهو ناصر خضر، لكنه لا يتمتع بشعبية كبيرة بين أبناء الجالية العربية بشكل عام، بالرغم من تحقيقه نجاحات على المستوى الشخصي حيث أصبح أول رئيس من أصول أجنبية لحزب دنماركي عندما أسس حزب التحالف الجديد في أيار (مايو) عام 2007. إلا أن مسيرته السياسية شهدت انتكاسات متعددة في الأعوام الثلاثة الماضية ووصفه بعض المراقبين بأنه سياسي لا يمتلك مؤهلات كافية للخوض في غمار السياسة الدنماركية.
وفي الجانب الآخر نجد السياسية الشابة أسماء عبد الحميد التي تنحدر من أصول فلسطينية وتنتمي لحزب قائمة الوحدة اليساري المعارض. أسماء التي لم تستطع دخول البرلمان الدنماركي في انتخابات عام 2007، فاجأت الجميع بحصولها على ما يقارب أربعة آلاف صوت في دائرة العاصمة كوبنهاجن، وعلى النقيض من البرلماني ناصر خضر تتمتع أسماء بشعبية كبيرة بين أبناء الجالية العربية والإسلامية وترجع هذه الشعبية فيما يبدو إلى تمسك أسماء بحجابها الإسلامي وكذلك لنشاطها السياسي والاجتماعي الملحوظ بين أبناء الجالية.
أما الشاب ربيع أزداحمد وهو محامي أنهى دراسته من جامعة أوغهوس فيجلس كعضو في بلدية أوغهوس ويتقلد مناصب مهمة في إدارة البلدية، ويشغل من نهاية عام 2009 منصب النائب الأول لرئيس بلدية المدينة، و يعرف أزداحمد بنشاطاته الاجتماعية والسياسية في المدينة.
في الانتخابات البلدية الاخيرة التي جرت في اواخر العام 2009 فاز عدد من الفلسطينيين بمقاعد في مجالس البلديات حيث حصلت ميسّر حوا على مقعد في مجلس بلدية باليروب كأول امرأة عربية في هذا المجال. كما يشغل كل من السيد جهاد فلنتاين والسيد يوسف ذياب مقعد عضو في بلدية بروندبي.
الوضع الإقتصادي
بدأ النشاط الاقتصادي الفلسطيني بقوة منذ وفود اللاجئين إلى الدنمارك، خصوصاً في العاصمة وضواحيها ومدينتي أوغهوس وأودنسه. حيث أن القدرات المهنية والتجارية للفلسطينين والذين جاؤا كلاجئين ساعدت العديد منهم على تحقيق نجاحات اقتصادية متفاوتة، يُعتبر عدد منها مميزاً حيث يمتلك العديد منهم شركات خدمات ومطاعم ومتاجر في العديد من المدن الدنماركية. و يعود هذا النجاح للتربة الاقتصادية الخصبة التي وجدت في الدنمارك في ذلك الحين، والتي تمثلت بعدم وجود مطاعم ومتاجر توفر منتوجات غذائية تلبي متطلبات الثقافة الإستهلاكية للأعداد المتزايدة من المهاجرين للدنمارك.
الوضع الثقافي
هناك العديد من المؤسسات الفلسطينية في الدنمارك، ولعل أشهرها هي مؤسسة الوقف الإسكندنافي التي أسسها الشيخ الراحل أحمد أبو اللبن بمساعدة مجموعة من العرب، ورغم أن الوقف يضم العديد من الجنسيات والعرقيات المختلفة، إلا أن الفلسطينيين في الدنمارك يعتبرونه مؤسسة رائدة في الاهتمام بأبناء الجالية الفلسطينية، كما أن مسجد التوبة الذي يتبع للوقف يعتبر مرجعاً للعديد من الفلسطينيين في الدنمارك.
أما في مدينة أوغهوس فتوجد مدرسة السعادة التي تهتم بتعليم أبناء الجالية الإسلامية بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص، وليس بعيداً عنها نجد مسجد الإخوة والمساواة والذي يرتاده الكثير من الفلسطينيين. إضافة إلى ذلك تتميز الجالية الفلسطينية بتأسيسها لعدد من المدارس الخاصة لأبنائها أشهرها مدرسة القدس (صامد سابقاً) في كوبنهاغن. وتقدم أغلب هذه المدارس تعليماً جيداً له صلة بالمجتمع الدنماركي، وتساهم أيضاً في الحفاظ على صلة قوية بالثقافة واللغة العربية وتهتم كذلك بالتربية الدينية والتوعية السياسية.
وكذلك كان للفلسطينيين حظ من النجاح العلمي والثقافي الذي يستطيع كل زائر لأي مستشفى دنماركي أو جامعة دنماركية أن يشاهده بوضوح، حيث تجد الأطباء والباحثين من أصول فلسطينية وفي شتى المناحي العلمية والأدبية. قراءة للمستقبل يتفق جميع الباحثيين على أن الفلسطينيين في الدنمارك يمتلكون قدرات وإمكانيات كبيرة قد تساعدهم على الخروج من تهميشهم الحالي، و لكنهم في الوقت نفسه يواجهون صعوبات كبيرة في ترتيب صفوفهم ومؤسساتهم.
ويكرر الباحثون أن الفلسطينيين لديهم اتصالات قوية مع الشرق الأوسط وفلسطينيي الشتات في أوروبا والولايات المتحدة مما يمنحهم بعداً عالمياً. إضافة إلى وجود العديد من أبناء الجالية الفلسطينية على مقاعد الدراسة الجامعية وبالتالي امتلاكهم فرصة كبيرة ليكونوا طليعة للأقلية الإثنية التي تتمتع أصلاً بشبكة واسعة من الاتصالات مما يدعم فرص هذه الأقلية في الريادة على أكثر من مستوى وفي أكثر من مجال. وتبقى المشكلة الأكبر كما قلنا سابقا هي إعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني وإتاحة الفرصة لهذا الجيل الجديد من «الفلسطينيين الدنماركيين» ليساهم بشكل فاعل في إعادة الحيوية والنشاط لهذه الشريحة من المجتمع، ويساعد على تخطي بعض العقبات التي واجهت مَن قبَْلهم كإجادة اللغة والفهم الأوسع لثقافة المجتمع الدنماركي.
المصدر: أخبار الدنمارك