الفلسطينيون في لبنان لم يحصلوا على حق التنقل
نقاط تفتيش على أبواب المخيمات وعقاب جماعي
أحمد الحاج- بيروت
يدعونهم للذهاب إلى كل بلدان العالم، ويمنعونهم من مغادرة مخيماتهم، هذه هي الدعوة العنصرية السائدة في لبنان تجاه الفلسطينيين، وإجراءاتها التطبيقة تتمثل في النظرة إلى المخيمات الفلسطينية باعتبارها "بؤراً أمنية" لا أكثر. وبالذرائع الأمنية يُستباح حق الفلسطيني في التنقل، وتُحاصر مخيماته، وتُنقل مخيمات بسكانها من مكان إلى مكان، وكأنه لا تواصل بين الشخص والمكان، ولا اعتبار للعلاقات الاجتماعية التي بناها ونسجها الفلسطيني خلال سنيّ حياته، وتُفرض قوانين شتى على حركته، فتضرّرت أعماله، وينطوي على ذاته في "غيتو" مهدّد بالاشتعال في أية لحظة.
استقبال وترحيل
يستقبل رئيس الجمهورية اللبنانية بشارة الخوري، وهو أحد أسياد البلاغة في لبنان، اللاجئين في عام 1948، ويخاطب اللبنانيين "لا تبخلوا ببذل المال في سبيل راحتهم والترفيه عنهم، لأن الأخ لأخيه في أيام المحنة والشدائد.. فقد حان الأوان لتسير القوة في ركاب الحق. وسيرى الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون". وكذلك فعل وزير الخارجية حميد فرنجية حين قال "سنستقبل في لبنان اللاجئين الفلسطينيين مهما كان عددهم، ومهما طالت إقامتهم، ولا يمكننا أن نحجز عنهم شيئاً، ولا نتسامح بأقل امتهان يلحقهم دوننا، وسنقتسم فيما بيننا وبينهم آخر لقمة من الخبز".
الكلام الجميل أضاعته الإجراءات الأمنية التي أخذت تقسو على الفلسطينيين، وتراقب تحركاتهم، وتُقيد تنقلهم، بل تقرّر مكان سكناهم كأنهم أشياء غير ذي بعد تواصلي. يحدّثنا الرجل الثمانيني أحمد هاشم كيف سيق هو والمئات من الفلسطينيين، ووُضعوا في قطار لنقل الماشية، وكُدّسوا إلى جانبها فوق بعضهم البعض، والمقصد مدينة حلب. لكن استطاع هاشم الفرار من ذاك القطار، ليلتحق بإخوته في خيمة في صور، أما أصحابه فنُقلوا جميعاً إلى حلب. وكان بعض رجال الأمن يُخبر الناس أنهم متوجهون إلى أقرب نقطة إلى فلسطين. مئات لم يصدّقوا ونزلوا في نهر البارد عند سكّة الحديد، وأبوا أن يغادروا، فلا يريدون أن يبتعدوا أكثر عن حدود الوطن، تشبثوا بالتربة، فكان مخيم نهر البارد.
وبقرار وتوقيع لا يتجاوز طوله سبعة سم يتم ترحيل الفلسطينيين من بلدة عنجر في البقاع إلى مخيم البرج الشمالي في الجنوب اللبناني وذلك في عام 1955. وهكذا يُنقل الفلسطينيون من ثكنة غورو في بلعبك إلى مخيم الرشيدية في الجنوب. النظرة الأمنية نفسها منذ عام اللجوء حتى اليوم.
وينقل الباحث أحمد عقيل موسى، عن تقرير للأنروا صادر عام 1952، أن لبنان الرسمي وضع قيوداً على تنقل اللاجئين، وربطها بعقوبات طالت قوتهم، تمثلت باتفاق السلطة الرسمية مع وكالة غوث اللاجئين "الأونروا"، على معاقبة اللاجئيين عند تنقلهم، من دون الحصول على إذن مسبق من "اللجنة المركزية لشؤون الفلسطينيين"، أو من قبل القائمقام أو المحافظ. واقتصرت هذه العقوبة على حرمان اللاجئ من الإعاشة الممنوحة له من الأونروا إلى أن يعود إلى مكانه الأصلي.
التعامل الأمني مع الفلسطينيين، والحدّ من حركتهم بناء على ذلك، كان مبكراً جداً، فعلى سبيل المثال، فإنه في عام 1948 صدر قرار عن قائد الجيش فؤاد شهاب يمنع الفلسطينيين من الإقامة في 45 قرية لبنانية حدودية، والتجول في المناطق الحدودية.
وفي عام 1954 صدر بلاغ من وزارة الداخلية جاء فيه "قررت وزارة الداخلية منع تجول اللاجئين في نطاق الدائرة الانتخابية المذكورة، في الموعد المبين، وقبل بيوم واحد. "فاللجنة المركزية لشؤون الفلسطينيين تطلب من أصحاب العلاقة أن يمتنعوا من التجول في الموعد المشار إليه، كي لا يقعوا تحت طائلة العقوبات".
وفي عام 1955 صدر أمر عسكري ينص على أن "قيادة الجيش أصدرت أمراً تمنع سكنى وتجول جميع الغرباء من المنطقة الواقعة على طول خطوط الحدود، في منطقة لبنان الجنوبي، وعلى مسافة عشرة كيلومترات ضمن الأراضي اللبنانية. وأقد أُنيطت مهلة ثلاثة أيام اعتباراً من تاريخ 24/9/1955، بغية نزوح كل من لم يكن في عداد القرى الواقعة في المنطقة المذكورة".
ممنوع التنقل إلاّ بتصريح
لم تستطع السلطات اللبنانية أن تغادر العقلية الأمنية، بل ضاعفت من القيود على تنقلات الفلسطينيين، وبلغت هذه السياسة أوجها في عام 1959 حين خضعت المخيمات الفلسطينية في لبنان للأحكام العرفية، وامتدّ ذلك إلى عام 1969، وتوقيع اتفاق القاهرة بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، وكان من جملة هذه الأحكام:
-
ممنوع التجول في شوارع المخيمات وأزقتها لأكثر من شخصين معاًز
-
ممنوع قراءة جريدة أو سماع أخبار في مكان عام.
-
ممنوع السهر وبقاء الأضواء مشتعلة داخل الشوادر وغرف المخيم المسقوفة بألواح الزينكو لأكثر من الساعة العاشرة ليلاً.
-
ممنوع التنقل من مخيم إلى آخر إلاّ بإذن. كذلك التنقل من منطقة إلى أخرى لأي فلسطيني يحتاج إلى إذن مسبق.
وعهد بتطبيق هذه الإجراءات إلى مكتب أمني في كل مخيم، يستدعي كل من يشك بأنه من مخيم آخر، قد يكون جاء لزيارة قريب أو صديق، وإذا لم يكن بحوزته تصريح بالزيارة يتم اعتقاله على الفور. ويتعرّض، أيضاً، من استقبله للمساءلة والتحقيق.
هذه الإجراءات، التي تم إلغاؤها بموجب اتفاق القاهرة، عادت أسوأ من ذي قبل مع خروج الثورة الفلسطينية من لبنان عام 1982. في ذلك التاريخ وقفت عناصر الجيش اللبناني على أبواب المخيمات، وطلبت تسليم الأسلحة الخفيفة، أو ما تبقّى منها، استجاب الأهالي للسلطات، خاصة أنهم تلقوا تطمينات. وبعد أيام قليلة صدر حظر التجوال في المخيمات، ليبدأ اقتحام البيوت، واعتقال من تجاوز الخمسة عشر عاماً.
الآلاف اعتُقلوا، وعشرات لم يعودوا بعد. وكان بعض الفلسطينيين يتخفى حتى يستطيع الوصول إلى مكان عمله، لكن الحواجز العسكرية المنتشرة كانت كفيلة بالقبض على من يحاول ذلك. كانت الشاحنات العسكرية تمتلئ يومياً بالشبان متجهة إلى السجون التي استُحدثت على عجل. في حادثة شهيرة، أحد الفلسطينيين سأله عنصر عند حاجز عسكري عن بطاقته الشخصية، أجاب أنه نسيها في بنطلون (سروال) آخر، فردّ "فلسطيني وعندك بنطلونين"، وأودع السجن. كان من غير المسموح أن يحيا الفلسطيني حياة آدمية. هذا الوضع دفع حوالى 70 ألف فلسطيني للهجرة عام 1983، على ما يقول شفيق الحوت في مذكراته.
وتجيء حرب المخيمات مع هلال شهر رمضان عام 1985، ويُفرض الحصار لمدة عامين، أما من حاول الخروج من المخيم، فالموت، المتفلت من عقال العقل، كان في انتظاره. وفي عام 1987 ألغى المجلس النيابي اللبناني اتفاقية القاهرة. ومع توقيع اتفاق الطائف عام 1989 حاول الفلسطينيون أن يكونوا جزءا من المصالحة، فتعود إليهم حقوقهم، والتي لا تنتقص من سيادة لبنان، بل على العكس تعزز وضعه الأمني والسياسي.
وبالفعل كان الاتفاق بين الحكومة اللبنانية من جهة، الممثلة بوزيرين، والفلسطينيين الذين يمثلهم قياديان من منظمة التحرير وجبهة الإنقاذ. وكان الاتفاق على أن يسلّم الفلسطينيون الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، ويتم إخفاء السلاح الخفيف، على أن يتم إعطاء الفلسطينيين كامل حقوقهم المدنية والاجتماعية ما عدا الجنسية والوظائف العامة، وضمن الحقوق الحق في التنقل. أوفىى الفلسطينيون بما وعدوا، لكن الجانب اللبناني لم يعط الفلسطينيين أي حق، بل ضاعف العوائق بوجه الفلسطينيين وتحركاتهم، وحاصر مخيماتهم.
في عام 1995 أصدر الزعيم الليبي معمر القذافي، في لحظة من مفارقاته، قراراً بطرد الفلسطينيين من ليبيا، وكان من بينهم حوالى خمسة آلاف من لبنان. وصدر قرار لبناني يوازيه سوءً، ويقضي بحظر وصول البواخر من ليبيا، ثم توسع ليشمل جميع الفلسطينيين في الخارج، دون إعطاء مهلة لترتيب أوضاع الراغبين في العودة. تبع ذلك قرار من وزارة الداخلية يفرض الحصول على سمة خروج وعودة قبل المغادرة، أما من كان في الخارج فعليه الحصول من البعثات اللبنانية هناك على سمة عودة، لم تكن تُمنح في كثير من الحالات. ولم يُلغ هذا القرار إلاّ بعد أربع سنوات.
عقاب جماعي
في 1-1-1997 كانت مخيمات جنوب لبنان، التي ساهمت في صمود المقاومة قبل ذلك بعام من خلال دعمها خلال عدوان نيسان، كانت على موعد مع إجراءات مشددة من خلال منع إدخال مواد البناء إلى المخيم، ووضع حواجز عديدة، وكتل إسمنتية، تعيق حركة العابرين من المخيم وإليه. الأزمة الكبرى أنه حين يجري إشكال أمني في منطقة لبنانية فإن العقاب يكون فردياً، أما حين يكون الإشكال في مخيم من المخيمات فإن العقاب يكون جماعياً، فإشكال في مخيم عين الحلوة عام 2002 كان سبباً في حصار المخيم، والحواجز العسكرية مازالت تحيط به رغم أن الفاعل قد جرى تسليمه. وكذلك فإن مخيم نهر البارد ما زال الدخول إليه لا يتم دون تصريح، ونقاط التفتيش حاضرة من خلال خمس نقاط على مداخله. وكذلك هناك بعض الحواجز حول مخيمي برج البراجنة (بيروت) والبداوي (الشمال).
وغنيّ عن القول إن التضييق على حركة تنقل الفلسطينيين يعيق تطورهم الاجتماعي، ويضرب البنية الاقتصادية لديهم، ويُضعف التواصل بين الفلسطينيين واللبنانيين، ويُثبت أن هناك في لبنان من لم يقرأ التاريخ بعد.
المصدر: مجلة العودة