الفلسطينيون: من نكبة إلى نكبة..
نازحون من سوريا إلى عراء الأخوّة
45 في المئة من النازحين الفلسطينيين
يسكنون لدى أقارب لهم
الأربعاء، 15 أيار، 2013
هنا مخيم شاتيلا، أو أي مخيم فلسطيني آخر
في لبنان. أزقةٌ خانقة تتشابه كلها، تغطيها مئات الأسلاك الكهربائية المتشابكة. طفلٌ
يحمل أخاه الأصغر منه سناً، ويحاول التنقل به في أرجاء المخيم، منتعلاً «صندلا» تتدلى
منه أصابع قدميه الصغيرتين.
امرأة خمسينية سمينة تحمل أكياساً من الخضار
وربطات الخبز، وتتوقف من حين لآخر لالتقاط أنفاسها قبل متابعة سيرها. عاملٌ في ورشة
حدادة سيارات، لا يتعدى العاشرة من عمره، يقوم بصهر قطعة حديد.
ثلاثة شبان مجتمعيـن في ركن تعلو ضحكاتهم
لأمر يجهله الآخرون. عربة خضار تدخل الزقاق بتعثر، ترتطم بالحائط وتتساقط منها بضع
حبات من الخيار. رجلٌ متقدم في السن يجلس على كرسي أمام جامع يُلقي التحية على بعض
المارة. زحمة أشخاص يسيرون بإيقاعات متفاوتة واتجاهات مختلفة.
هنا، مشاهد ووجوه، منها الثابت والمتحرك،
أصبحت جزءاً من هوية المخيم، بغض النظر عن لهجة أصحاب الوجوه. لم تتغيّر مع نزوح آلاف
الفلسطينيين من سوريا، بل زادت وطأتها. الأزقة تضيق باللاجئين، والقمامة تتراكم أكثر
فأكثر بين بيوتهم، وحصة الفرد من الهواء تتقلص شيئاً فشيئاً، والاحتقان بين الناس بسبب
ضيق الموارد، يهدّد بانفجار اجتماعي وشيك.
خمسون ألفاً أم 55؟
فاق عدد فلسطينيي سوريا في لبنان الخمسين
ألفاً في الفترة الأخيرة، وفق «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين - الأونروا»، في حين أكّد
أمين سرّ حركة «فتح» في لبنان فتحي أبو العردات أن عددهم فاق الخمسة والخمسين.
نزح معظم هؤلاء من مخيم اليرموك في دمشق،
الذي يشهد معارك عنيفة منذ شهر كانون الأول الماضي. تشير «الأونروا» إلى أن غالبية
النازحين الفلسطينيين سكنوا في جنوب لبنان (31 في المئة منهم في صيدا و16 في المئة
في صور)، وأن 21 في المئة في منطقة البقاع و17 في المئة في منطقة بيروت و15 في المئة
في شمال لبنان.
في المقابل، تبيّن «منظمة أنيرا» (المساعدة
الأميركية للاجئي الشرق الأدنى)، التي أجرت دراسة شملت 669 عائلة، أن ثلثّي الفلسطينيين
من سوريا لجأوا إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان، وسكنوا لدى عائلات تعاني أصلا من
الحرمان وتفتقر إلى الحدّ الأدنى من حقوقها الاقتصادية والاجتماعية.
ويظهر البحث أن 45 في المئة من النازحين
الفلسطينيين يسكنون لدى أقارب لهم، بينما يعيش 52 في المئة في منازل مستأجرة، لافتا
إلى أن 28 في المئة من العائلات تقطن في مساكن لا تستوفي الحدّود الدنيا من شروط العيش.
وقد رفضت «الأونروا» الكشف عن النتائج الكاملة
لدراسة أجرتها حديثاً في شأن تقييم حاجات اللاجئين الفلسطينيين من سوريا، «خوفاً من
استخدام ما بيّنته بشكل خاطئ»، كما تؤكّد المسؤولة الإعلامية في الوكالة هدى سمرا.
ويمكن تفسير التحفظ على نشر نتائج الإحصاء
بازدياد الضغوط على الوكالة، بسبب ضعف قدرتها على الاستجابة للأزمة المفاجئة، خصوصاً
في ظل الاعتصام المفتوح أمام مقرها الأساسي في الجناح منذ نحو شهرين لمطالبتها بتأمين
الإيواء وتغطية الخدمات الصحية والاستشفائية بشكل كامل، وتوفير الحصص الغذائية الكافية
للعائلات المنكوبة.
من جهتها، تعتبر «الأونروا» أن قدرتها على
إغاثة النازحين الفلسطينيين من سوريا تبقى رهن تمويل الجهات المانحة.
وتشدّد سمرا على أن عدد النازحين يفوق حجم
التمويل، وكأنه في سباق معه. لذلك رفعت «الأونروا» نداء استغاثة إلى الدول المانحة
في شهر كانون الأول الماضي مطالبة بثمانية ملايين ومئتي ألف دولار لعشرة آلاف نازح،
وحين تمت الاستجابة لطلب التمويل بالكامل، كان العدد قد وصل إلى عشرين ألفاً.
وتُعد «الأونروا» حالياً تقريراً مستحدثاً
يأخذ بعين الاعتبار الأرقام الأخيرة والحاجات التي رصدتها الدراسة، لإطلاق نداء استغاثة
معدّل الشهر المقبل. واعترفت سمرا بأحقية مطالب المعتصمين، لكن المشكلة بنظرها تكمن
في ضعف التمويل.
غرفة «تنك» وورشة البناء
«لم أتخيّل يوماً أن أصبح بلا مأوى. الحرب
حوّلتني بنسبة 180 درجة»، يقول أبو إياد، الذي كان يملك فندقاً في حيّ السيدة زينب
في دمشق.
نزح أبو إياد مع زوجته من مخيم اليرموك قبل
أربعة أشهر إلى لبنان، تاركاً وراءه كل شيء. «راح الفندق والسيارة والمصاري... صرت
بخانة اليَكْ بكل معنى الكلمة»، يغصّ، ويتحفظّ عن ذكر المزيد من التفاصيل.
شارك أبو إياد في الاعتصام المفتوح أمام
«الأونروا» لأنه لم يجد حينها سوى الخيم سقفاً ينام تحتها. لم يقبل مساعدة أي من الفصائل
التي يحمّلها مسؤولية ما جرى في اليرموك. واليوم، يعمل أبو إياد كمياوم في ورشة بناء
ويقطن في غرفة من التنك على سطح إحدى «مباني» مخيم شاتيلا مقابل... 250 دولارا في الشهر.
أما خضر، ابن الثمانية عشر عاماً، فقد نزح
وعائلته من حي السيدة زينب إلى بيروت قبل بضعة أيام. يجلس بجوار أشقائه الأصغر منه
سناً في أحد مراكز «اللجان الشعبية» في شاتيلا. يجلسون بصمت، لا يتبادلون الأحاديث
أو الابتسامات. فقط يغرقون في حزن صامت. «بيتنا بالسيدة زينب صار ترابا»، يقول خضر.
اضّطروا إلى الفرار خصوصاً مع انتشار حوادث الخطف والاعتقالات العشوائية.
«ما عنّا مأوى»، يقول خضر راويا أنهم ناموا
ليلتهم الأولى في جامع في منطقة شتورا وباتوا ليلتهم التالية في إحدى ورش البناء في
حارة حريك. «واليوم ما بعرف وين راحَ ننّام، أهلي راحوا للبحث عن مكان».
يصعب على الشاب رؤية عائلته تعيش ظروفاً
قاسية كهذه، معتبراً أنه في عزّ شبابه ويستطيع الاعتماد على نفسه، مؤكدا أنه سيبحث
عن فرصة عمل لاحقاً في ورش البناء «بس ما شوف عائلتي عم تتبهدل»
حال عائلة خضر ليست استثناءً. يجمع المعنيون
في مجال إغاثة «فلسطينيي سوريا» أن تأمين الإيواء يُعدّ من التحديات الأخطر، مع ارتفاع
أســــعار الإيجــــارات في المخيمـــات التي باتت تتراوح بين 150 و300 دولار شهــريا،
وفـــق «منـــظمة أنيرا». وحتى العائلات الــــنازحة التــــي تمكنــــت مـــن تأمين
مأوى، فإنّها تعيش ظـــروفا قـــاسية.
وذكرت دراسة «أنيرا» أن 46 في المئة من المنازل
يسكنها أكثر من عشرة أشخاص، و27 في المئة أكثر من 15 شخصاً. وتعيش 59 في المئة من العائلات
في منازل يتألف كل منها من غرفة واحدة.
وقد وزّعت «الأونروا» بين 160 و220 ألف ليرة
للعائلة (بحسب حجم العائلة) كمساعدة إيواء في شهر نيسان الماضي. إلا أنّ الوقائع الميدانية
والأرقام المتوفرة تُظهر أن حجم كارثة الإيواء يفوق بكثير حجم المساعدات المقدمة، خصوصاً
في ظل عدم توافر فرص العمل، حتى الهامشية منها، داخل المخيم وخارجه.
وفقا للأونروا، فقد استقبلت مدارس المنظمة
في لبنان ثلاثة آلاف وخمسمئة تلميذ فلسطيني من سوريا، التحقت غالبيتهم بصفوف خاصة تعتمد
المناهج السورية، في حين التحق نحو 663 طفلاً بصفوف تتبع المنهج اللبناني. أمّا الغالبية
العظمى من الأطفال، والذين يُقدّر عددهم بثمانية آلاف وخمسمئة، فلم يلتحقوا بأي مدرسة.
من جهتها، أظهرت دراسة «أنيرا» أن 74 في المئة من العائلات النازحة لديها طفل واحد
على الأقل خارج المدرسة.
على الصعيد الصحي، توفر «الأونروا»، مجانا،
الرعاية الصحية الأولية وعددا محدودا من الأدوية، عبر ثمانية وعشرين مركزاً صحياً في
كل المناطق.
أما كلفة الاستشفاء، فهي لا تغطّي أكثر من
نصف قيمتها، باستثناء «الحالات المهددة للحياة، نظراً لضعف الموارد المتوفرة»، وفق
سمرا.
إلا أن التقديمات الصحية من «الأونروا» لا
تشمل أدوية الأمراض المزمنة التي غالباً ما تكون باهظة. علماً أن دراسة «منظمة أنيرا»
تظهر أن 53 في المئة من العائلات النازحة من سوريا لديها شخص على الأقل يعاني من مرض
مزمن، وأن 83 في المئة من الأطفال يعانون من مرض ما منذ الوصول إلى لبنان.
من أمام خيمة الاعتصام، يحتجّ محمد خطّاب
معتبرا أن «أدوية الأونروا ليست سوى نوع من أنواع المسكّنات، يعني مجرد أدوية بسيطة
ورخيصة الثمن». أمّا الأدوية الأساسية فهي مفقودة. ويشرح عجزه عن شراء أدوية الغدد
التي يجب أن يتناولها بانتظام.
بدوره، يشرح داوود سليمان حالة أخيه منذر
الذي أصيب بطلق ناري في مخيم اليرموك وصار يعاني من شلّل نصفي. «أخي بدو عملية بأقرب
وقت»، يؤكد استناداً إلى التقارير الطبية الصادرة عن «مستشفى الجامعة الأميركية في
بيروت». «الأونروا» لم تتكفّل سوى بخمسين في المئة من الكلفة، ما اضطر أخاه إلى زيارة
كل مراكز الجمعيات والفصائل الفلسطينية لتأمين المبلغ كاملاً. وبالنسبة إلى توفير الحصص
الغذائية، تشير «الأونروا» إلى أنها قدمت في شهر نيسان الماضي، وللمرة الثالثة منذ
أزمة اليرموك، مساعدة نقدية بقيمة ثلاثين ألف ليرة للفرد لتأمين الغذاء. كذلك تقوم
الجمعيات والفصائل الفلسطينية بتقديم مساعدات عينية من طعام ووسائل نظافة وفرش وحرامات.
وقد أشارت دراسة «أنيرا» إلى أن 82 في المئة
من العائلات المشمولة في البحث تلقت مساعدات عينية من الطعام من جهات مختلفة. وعلى
الرغم من ذلك، أشارت إلى أن سبعين في المئة من العائلات لا تستطيع توفير ثلاث وجبات
يوميا لأفرادها.
وتعتبر غادة، وهي نازحة من اليرموك، أن
«المساعدات التي توزعها الفصائل الفلسطينية تبقى خاضعة للمحسوبيات، ولا توزع على الجميع»،
وهو الأمر الذي ينفيه أمين السر اللجان الشعبية الفلسطينية في بيروت أحمد مصطفى مشدداً
على أن «التمييز الحاصل هو على صعيد المناطق»، لافتاً إلى أن مناطق البقاع والشمال
(التي استقبلت نحو 36 في المئة من فلسطينيي سوريا) تحصل على النسب الأكبر من المساعدات
المقدمة من الدول الخليجية». ويؤكد مصطفى أن «الأونروا» لا تقدم مساعدات دورية، خلافاً
للمفوضية العليا للاجئين. ويختم مستهجناً «كل عمرها الحروب تترافق مع سخاء في السلاح
وفي مساعدات الإغاثة، إلا في هذه الحرب. دمار من دون إغاثة. فليتحمّل المجتمع الدولي
والدول المنخرطة في الصراع المسؤولية السياسية والأخلاقية تجاه النازحين الفلسطينيين».
المصدر: (كارول
كرباج – السفير)