المغيثون أكثر من النازحين
الإثنين، 27 آب، 2012
يصحو مخيم اليرموك ليجد نفسه محاصراً بخطوط النار: غربه تمتد منطقة القدم والحجر والأسود، لشرقه يمتد حي التضامن وبلدة يلدا، وفي شماله تلتهب أحياء الميدان والقاعة. أما جنوبه فبساتين وبيوت تصل ما بين خطوط التماس وتتحول وقت المواجهات إلى نار تلهب أطراف المخيم.
مخيم اليرموك | وسط اللاأمان يعلن المخيم نفسه منطقة آمنة. إليه ينزح الآلاف من السوريين القاطنين أحياء تلك المنطقة المحيطة به، ليسبب تدافعهم حالة من الارتباك، سرعان ما يتجاوزها أهل المخيم بكثير من التضامن. هنا ثلاث شهادات شخصية لثلاثة لاجئين فلسطينيين شاركوا في عمليات الإغاثة، والتقطوا نبض تلك الساعة.
شهادة أوس داوود يعقوب
أن يتحول مخيم إلى ملجأ لأهل البلاد النازحين، شيء لم يعشه أبناء فلسطين في مخيم اليرموك بدمشق. هكذا، مع تدفق آلاف النازحين إلى المخيم، وجد الفلسطينيون أنفسهم أمام حالة عاش كبارهم بعض فصولها سابقاً. تجسدت حكايات العذاب، عذاب نزوحهم عامي النكبة (1948) والنكسة (1967) أمامهم. ومع ذلك المشهد، كان ماثلاً في عقولهم كيف أسهم أبناء سوريا أيامها في تخفيف معاناتهم، ففتحوا لهم البيوت والقلوب. هكذا، خفّ المخيم بأهله شيباً وشباناً لتوفير أماكن إقامة للنازحين، وما يحتاجون إليه. تحول المخيم، بلحظات، إلى ملجأ كبير لا يدخر أهله جهداً لإغاثة النازحين. وأمام هذا التدافع الفلسطيني العفوي تقول فتاة: «لما كنت صغيرة، كنت أظن أن كلمة فلسطيني مش جنسية، وإنما هي صفة. يعني زي كريم، أو شجاع، أو طيب. يعني إذا كنت بدي أقول عن حدا إنه منيح أقول شكله هالشخص فلسطيني. سنين بتروح وسنين بتيجي، وبكتشف إنه تفكيري الطفولي كان مزبوط مية بالمية. شكراً إلكن جميعاً لإنكن أثبتوا صدق نظريتي». وأقسم إن كلماتها تلك، أبكتني أكثر مما أسعدتني.
إلا أن أكثر ما آلمني في هذه الأيام العصيبة، سؤال سيدة عجوز قالت: «يا بني هلق إذا قتلونا منموت؟». لم أجد ما أقوله، فاقتربت منها وقبّلت رأسها قائلاً: «على جثتنا يما أنتو أمانة بأعناق أحفاد عبد القادر الحسيني وإحنا اليوم عم نرد جزء من دين الشيخ القسام والبطل سعيد العاص ومحمد الأشمر وكل السوريين الشرفاء». أظنها لم تفهم بالضبط ما عنيته، لكنها ارتاحت لضمي لها وأنا أقول: «يما إحنا هون كلنا ولادك».
وعبر صفحتي في (الفايس بوك) عملت وبعض الأخوة، على أن نكون معاول بناء، فنشرنا نداءات للشباب والأهالي للعمل يداً بيد. ومما كتبت في صفحتي: «لأننا نحب مخيمنا حاضنة وجودنا المؤقت إلى أن نعود إلى حيث يجب أن نكون تعالوا يا إخواننا في المخيم للتكافل في كل المجالات. يا أهلنا في اليرموك، لقد كتبتم في الأيام الماضية أروع ملاحم التضامن والمحبة والوئام. ما أعظمك يا شعبي الواحد الفلسطيني السوري. أحبك يا شعب».
هكذا، دعت اللجنة الأهلية للمخيمات الفلسطينية إلى حملة «المخيم بيتك.. خليه نظيف». كذلك تطوع عدد من الشبان والشابات الفلسطينيات للقيام بأنشطة ترفيهية لأطفال النازحين، في محاولة لإخراجهم من آثار الأحداث التي تجري حالياً ودعمهم نفسياً.
وعبر صفحات التواصل الاجتماعي، وأهمها صفحات: «مخيم اليرموك أونلاين» و«اليرموك نيوز» و«محبي اليرموك»، عمل الشباب على تنظيم شؤون المخيم والتواصل ساعة بساعة مع الأحداث، من ذلك جمع قائمة بأسماء حاملي الزمرة الدموية من نوع (O-) و (O+) وأرقام هواتفهم، لتوزيعها على مشافي المخيم ليجري الاتصال بحاملي هذه الزمر للقدوم إلى المشافي والتبرع في حالات الطوارئ. وما زال الفلسطينيون في وطنهم الثاني يواصلون فتح بيوتهم بعد قلوبهم لكل إخوتهم المنكوبين في كل أرجاء دمشق وريفها.
شهادة مأمون أبو ناصر
من اللحظة الأولى كانت البداية. هكذا هبّ شباب اليرموك بما يملكون من وسائط نقل للدخول إلى الأماكن المنكوبة لإخراج العائلات من مناطق الخطر، معرضين أنفسهم بدورهم لخطر الموت من أجل إجلاء العائلات. كل اليرموك، بلا استثناء، هرع لتقديم البسط والبطانيات والفرش، ومن أجمل ما شاهدت، وقتها، طفلاً لا يتجاوز الخامسة من العمر، يحمل وسادته الصغيرة ويقول لأبيه: «أريد أن أعطيها لطفل ينام في المدرسة»، يقصد حيث النازحون.
كانت مكبرات الصوت في المخيم تنادي سحابة الليل والنهار من لديه أي شيء يقدمه للاجئين، وكانت المساعدات تأتي من الجميع، ولعل من أجمل ما شاهدت في ثاني أيام النزوح، ما فعلته البيوت المحيطة بالمدارس التي استقبلت النازحين، حيث قاموا بالطبخ، وقدموه للناس في المدارس. ولعل من أطرف المواقف التي تستدعي الاحترام والتقدير، أنه رغم كل التنسيق الذي كان موجوداً داخل المدارس من حيث تقسيم العمل إلى لجان مختصة، مثل لجنة الأمن والسلامة، اللجنة الطبية والصحية والإرشاد والدعم النفسي، الإطعام، والنظافة فقد كان هناك شباب من المخيم نسميهم (الزعران) يقومون بحماية المدارس من الخارج، حتى، هؤلاء، كانوا عوناً كبيراً لنا في الأزمة. لقد أثبت المخيم أنه مترابط وأنه نسيج متجانس بكل معنى الكلمة.
الحياة بين اللاجئين كانت تسودها الألفة، ومن القصص الجميلة التي تروى، وقوع شاب من منطقة التضامن بحب فتاة من منطقة الحجر الأسود، فجاء إلينا كإدارة لنخطبها من أبيها، وبالفعل تمت الخطبة والعاشقان اليوم يعيشان قصة حبهما في أروقة المدرسة.
في المدارس أيضاً، شهدنا ولادة ثلاثة أطفال، إحدى الأمهات قالت لي ممازحة إنه يجب إعطاء هذا الولد الجنسية الفلسطينية، لأنه ولد في مخيم اليرموك.
شهادة علاء الدين العالم
بالرغم من أزيز الرصاص الذي ملأ سماء المخيم، لم نتوانَ، شباب حارتنا وأنا، عن التوجه إلى المدارس للقيام بأي شيء، أي شيء، يمكننا من خلاله مساعدة إخوتنا النازحين. وعندما وصلنا إلى شارع المدارس كان مشهد شباب المخيم وهم يتراكضون لإيواء النازحين مشهداً مؤثراً يجسد الحب العميق بأبهى صوره. عدد الشبان في الشارع يفوق عدد النازحين، أي إن عدد المغيثين كان يفوق عدد النازحين، بالإضافة إلى التنظيم المذهل في طريقة ترتيب صفوف المدارس لإيواء النازحين.
سارت الأمور سيراً حسناً في الأيام الأولى بما يخص توفير الحاجات الأساسية، لكن امتداد الاشتباكات إلى كل الأماكن المحيطة بالمخيم، دفع بعدد أكبر من النازحين. هكذا، عانى المخيم نقصاً شديداً في هذه الحاجات. ولا يمكن أن أنسى، عندما كنت في إحدى المدارس أوزّع علب الحليب على الأطفال، حيث فرغت علبة الحليب قبل أن يأخذ الجميع حصته، فركض أحد الأطفال باتجاهي وقال: «عمو ليش ما بدك تعطيني حليب؟»، فلم أتمالك نفسي عن البكاء وعجزت عن إجابة الطفل، وعندما وجد الطفل أني أبكي عاد إليّ وقال: «عمو لا تزعل ولا تبكي خلص بستنى لبكرا».
داخل المدارس كان التعامل ممزوجاً بنوع من الكوميديا الساخرة، حيث كان يصعب على لاجئ أن يستقبل نازحاً في وطنه، كنا نحاول أن نعزل الناس عن الهموم في الخارج، فكان لا بد من وجود برنامج ترفيهي يقدم للناس هناك وخصوصاً الأطفال، فهبّ جميع الفنانين والمبدعين لتقديم خدماتهم داخل المدرسة. أما حملات تنظيف المخيم فقد اشترك فيها الجميع، نظراً إلى غياب البلدية، وكنوع من ردّ الجميل للسوريين الذين قدموا لنا أرضهم وبيوتهم وقلوبهم لعشرات السنين.
المصدر: ماهر أبو ماهر - الأخبار