"النهار" تعاين بؤر التوتر في لبنان (1) مخيم عين الحلوة حيث النار تجاور برميل البارود المتأهب للانفجار
الإثنين، 30 كانون الثاني، 2012
لا يكاد يمر اسبوع او شهر على ابعد تقدير من كل سنة، من دون ان نسمع عن حادثة اغتيال او اطلاق نار او اشتباكات مسلحة واستنفارات وانتشار للمسلحين وسقوط قتلى وجرحى واضرار في الممتلكات، وفي أفضل الاحوال ان نسمع عن حادثة القاء قنبلة يدوية او صوتية او انفجار عبوة داخل مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينين في صيدا.
هو فعلا واقع حال مخيم عين الحلوة، الذي يعتبر بمثابة العاصمة للاجئين الفلسطينين في لبنان وفي الشتات، اذ بات يحتضن داخل احيائه وازقته الضيقة والمتلاصقة اكثر من 70 الف لاجئ، كان معظمهم في الاصل من نازحي العام 1948 يوم النكبة في فلسطين، قبل ان ينضم اليهم نازحون من الضفة والقطاع (1967) ومهجرون من مخيمات لبنانية دمرتها اسرائيل، كمخيم تول في النبطية (1970) او من مخيمات في بيروت "الشرقية والغربية" نتيجة صراعات مسلحة مع اطراف وقوى لبنانية، خصوصاً حزب الكتائب (مخيما تل الزعتر وضبيه) وحركة امل (مخيما برج البراجنة وشاتيلا). ومع مرور الزمن تزايد عدد سكان المخيم جيلا بعد جيل واصبحت مقبرته في درب السيم لا تتسع لقبر واحد.
ما هو سر هذا المخيم وما هي حكايته وكيف تحوّل بؤرة توتر وتفجير، بعدما كان منذ العام 1965 منبعا لتخريج الثوار والفدائيين ضد العدو الاسرائيلي بعد ولادة الثورة الفلسطينية وانطلاقة حركة "فتح"، ومن ثم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" و"الجبهة الديموقراطية" و"جبهة التحرير العربية" وجبهات وتنظيمات اخرى، ليصبح مع اواسط الثمانيات مصدراً للتقاتل والاقتتال مع نفسه اولا ومع مضيفه اللبناني ثانياً، يحتمي فيه القاتل والهارب ويلجا اليه المتشددون من كل حدب وصوب... حتى بات من السهل على البعض توصيفه بؤرة تفجير ومصدر للارهاب والقتل. ويذكر ان غالبية سكانه من الواعين والبسطاء ومن المناضلين والمكافحين الشرفاء من اجل قضيتهم ولقمة عيشهم على الرغم من الفقر المدقع والظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة الناجمة عن البطالة، وتدني الخدمات التي تقدمها وكالة الانروا على كل الصعد الصحية والمعيشية والتربوية، وتراجع التقديمات التي كانت توفرها منظمة التحرير الفلسطينية في شكل خاص.
وعندما اجتاحت اسرائيل لبنان في العام 1982 واستطاعت احتلال مدينة صيدا، لم تغامر باقتحام عين الحلوة رغم ضيق مساحته الا بعد نحو اسبوعين، وبعدما دمر الطيران الحربي كل شيئ في المخيم، البشر والحجر والشجر، بسبب مقاومة مجموعة من الفدائيين اثروا عدم الهروب او الاستسلام، كما فعل معظم اسيادهم وبعضا منهم كان متآمراً او انقلب على تنظيمه وشعبه ووقف الى جانب الاسرائيلي وعمل معه... وعندما واجه الاسرائيليون مشكلة الذين هجروهم من المخيم الى ابنية وتجمعات مدرسية او اماكن عامة في مدينة صيدا سارعوا الى مساعدتهم في العودة الى داخل المخيم، ووفروا لهم بعض الخيم وسهلوا لهم اعادة اعمار بيوتهم، ربما كي لا يتحملوا مسؤولية تهجيرهم مرتين ولا يتركوا لهم اي مجال للفكير في العودة الى ارضهم في فلسطين، علما ان القوات الاسرائيلية ظلت تمارس على الفلسطينين في شكل متواصل كل اشكال وصنوف التخويف والارهاب والقتل والاعتقال.
نهوض وصراعات وحركات اسلامية
بعد انسحاب القوات الاسرائيلية من منطقة صيدا في اتجاه منطقة جزين مطلع العام 1985، وانسحاب "القوات اللبنانية" من قرى شرق صيدا بعد معارك ضارية مع الاحزاب اللبنانية وفصائل فلسطينية واسلامية، شهد مخيم عين الحلوة بداية مرحلة جديدة من النهوض. فورة عمرانية لا مثيل لها وتمدد فلسطيني خارج المخيم بعد سيطرة المسلحين على بلدة المية ومية المحاذية لمخيم المية ومية، وفي اتجاه عدد من قرى شرق صيدا، عبر مشاركتهم جيش التحرير الشعبي الذي انشأه "التنظيم الشعبي الناصري" في صيدا لمواجهة "جيش لبنان الجنوبي" الذي كان يقوده اللواء المتقاعد انطوان لحد خلفا للرائد سعد حداد، والذي وضعته اسرائيل في وجه المدفع على جبهة كفرفالوس بين جزين وقرى شرق صيدا.
رافق ذلك تدفق كثيف للمال الفلسطيني، الذي كان ينقل من فرع مصرف لبنان في صيدا بصناديق السيارات واكياس الخيش الى عين الحلوة، وتدفق كل انواع الاسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، وتوافد قيادات وكوادر وعناصر من كل التنظيمات الموالية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي مقدمها حركة "فتح"، او المنشقين عنها كـ"المجلس الثوري" الذي كان يراسه صبري البنا (ابو نضال) او المعارضة لها الرافضة للحل السلمي مع اسرائيل، مثل الجبهتين الشعبية والديموقراطية والقيادة العامة الموالية لسوريا. وفي هذه المرحلة ايضا بدا يتصاعد نمو وظهور حركات اسلامية متشددة، خاصة تنظيم عصبة الانصار الاسلامية وموالين للجماعات الاسلامية ولم يمر وقت طويل حتى دخلت حركة فتح وتوحدت معها غالبية الفصائل في معارك ضارية مع مقاتلي حركة "امل"، وتاليا مع "حزب الله" على خلفية محاصرة "امل" لمخيمي البرج وشاتيلا في بيروت. وتمكن الفلسطينيون من احتلال اجزاء واسعة من بلدة مغدوشة وقرى القرية وعين الدلب وجنسنايا. وكان لافتا بعد ذلك وقوف حركة "فتح" الى جانب حركة "امل" في الاقتتال الذي وقع بين "امل" و"حزب الله" على جبهة اقليم التفاح. وتوسع التمدد الفلسطيني المسلح ليصل الى صربا في قضاء النبطية قبالة عين بوسوار وجباع معقل "حزب الله"، وبعد وقف القتال بين "امل" و"حزب الله" واجراء مصالحة تاريخية برعاية ايرانية وسورية.
انكفا الفلسطينيون من صربا ومغدوشة، واحتفظوا بوجودهم العسكري في عدد من قرى شرق صيدا، خصوصا عين الدلب والقرية والمية ومية.
ولكن لم يمر وقت طويل ايضا لكي يبدا تصادم القوى الفلسطينية بعضها مع البعض داخل عين الحلوة، ودخلت حركتا "فتح" و"فتح - المجلس الثوري" في صراع دموي واشتباكات عنيفة واغتيالات وتصفيات كانت تحصل في وضح النهار، وذلك بهدف الامساك بالوضع، او بما كان يعرف بورقة المخيم، او تنفيذا لاجندات محلية او اقليمية او دولية. وبالرغم من ان الصراع بين الفتحاويين انتهى باخراج المجلس الثوري من عين الحلوة بعد احتلال مقاره ومراكزه، لكنه ظل قائما خارج المخيم وخصوصا في صيدا وضواحيها وبيروت عبر تفجيرات واغتيالات منظمة ومتنقلة ومتبادلة سقط فيها العشرات من الضحايا، بينهم قيادات من الطرفين.
ومن معركة الى معركة دخلت فتح في صراع جديد مع عصبة الانصار الاسلامية التي اسسها الشيخ هشام شريدي، وهذا الصراع الذي بدا اواخر الثمانيات ومطلع التسعينات لا تزال تدعياته قائمة حتى اليوم لأن الايام والسنين الطوال من الاشتباك بين فتح والاسلاميين في المخيم اظهرت الوقائع ان الحال الاسلامية بكل فروعها وانتماءاتها محصنة جيدا واصبحت رقما صعبا.
السلاح في عين الحلوة والجيش الى صيدا
تنفيذا لاتفاق الطائف الذي وقع في السعودية العام 1989 دخل الجيش اللبناني في 1 تموز العام 1991 الى صيدا، وانتشر في المنطقة وسلم "جيش التحرير الشعبي" و"التنظيم الناصري" والاحزاب اللبنانية الاسلحة الثقيلة والمتوسطة لديها الى الجيش، فيما خاض في اماكن وجود تنظيمات فلسطينية وجماعات اسلامية مناوشات محدودة سقط فيها احد صباط الجيش برصاص قناص، واستدعى ذلك مجيئ قائد الجيش العماد اميل لحود الى المنطقة والاشراف شخصيا على الوضع. واستطاع الجيش السيطرة على كل الاسلحة الثقيلة التي تركها الفلسطينيون في قرى شرق صيدا، لكنه لم يدخل مخيم عين الحلوة ولم يتسلم اي قطعة سلاح من داخله بحجة ان تجريد الفلسطينين من سلاحهم داخل المخيمات قد يساعد على توطينهم ويفقد هم ولبنان وسوريا ورقة ضاغطة على اسرائيل والمجتمع الدولي .
كانت حركة "فتح"، التي ابدت تعاونا ملحوظا مع الجيش والسلطة الشرعية خلافا للحال الاسلامية في المخيم التي ابدت رفضا قاطعا لاي تعاطٍ مع الجيش، قد اغتالت مؤسس عصبة الانصار الاسلامية الشريدي على خلفية اتهامه باغتيال المسؤول العسكري في فتح امين كايد واظهرت جنازة تشييع الشريدي قوة العصبة، خاصة بعدما تسلم امرتها الشيخ احمد عبد الكريم السعدي (ابو محجن) واثبت بعد وقت قصير انه رقم صعب رغم مذكرات التوقيف الصادرة بحقه وحكم الاعدام بتهمة اغتياله رئيس جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية في بيروت الشيخ نزار الحلبي، لا يزال "ابو محجن" متواريا عن الانظار ولا احد يعرف مكانه، فيما خاض انصاره معارك شرسة مع الجيش داخل المخيم ومع الجيش اللبناني في محلة التعمير في صيدا. ولاحقا تواصل صراع الاسلاميين، مرة مع "فتح" ومرة ثانية مع الجيش، من خلال تنظيم جند الشام وجماعة عبدالله الشريدي نجل مؤسس العصبة التي استطاعت "فتح" اغتياله بعد معارك طويلة مع انصاره. وعلى الرغم من النهج المعتدل الذي اعتمدته "عصبة الانصار" بامرة الشيخ ابو طارق السعدي شقيق ابو محجن، الا انها ظلت حاضنة للحال الاسلامية، بما فيها ظاهرة "جند الشام" وانصار "فتح الاسلام"، وصولاً الى تنظيم "القاعدة" حيث كانت صور الشيخ اسامة بن لادن تعلق في بيوت الاسلاميين وتلصق على زجاج سياراتهم وارسلت العصبة عشرات الشبان من ابناء المخيم الى العراق، تحت شعار في سبيل الجهاد منذ الطغيان الاميركي، وسقط منهم اكثر من عشرة اشخاص، بينهم احد مساعدي الزرقاوي وهو من ال قبلاوي في عين الحلوة.
كل هذا الواقع المرير والصعب والمعقد في عين الحلوة زاده الطين بلة اخيراً تصاعد حدة الانقسام والخلاف بين اهل البيت الفتحاوي وبين المسؤولين الاقوى في المخيم أي قائد المقر العام لحركة "فتح" في لبنان منير المقدح كان مسؤولا عن الكفاح المسلح وهو يمتلك ميليشيا خاصة ومقراً كبيراً ومراكز مختلفة ويحظى بتاييد وتعاطف اكثر من جهة، بما فيها الاسلاميون والعصبة، وقائد "الكفاح المسلح الفلسطيني" محمود عبد الحميد عيسى الملقب بـ"اللينو"، وهو يحظى بتاييد ودعم السلطة الفلسطينية ووقيادات امنية لبنانية. وفي زيارته الاخيرة الى لبنان فشل عضو اللجنة المركزية في حركة "فتح" عزام الاحمد في اجراء واتمام مصالحة بين الرجلين، من دون ان ننسى حديث البعض عن وصول عناصر اسلامية متشددة من الخارج الى المخيم وان ظاهرة الشيخ احمد الاسير في صيدا والمواقف التي يطلقها في خطب الجمعة في عبرا ضد سوريا وايران و"حزب الله" والاعتصامات التي ينفذها وتحريض الناس لحماية اهل السنة التي بدات تلقى بعض الاذان الصاغية وسط الحال الاسلامية في عين الحلوة.
أسباب التفجير معروفة والمعالجة مجهولة!
باختصار على الرغم من شبه الاجماع عند الجهات المعنية باوضاع المخيمات الفلسطينية، وخاصة وضع عين الحلوة، على مجمل الاسباب والعناصر التي تجعل من المخيم ليس فقط بؤرة للتفجير والانفجار بل خزانا كبيرا سيحرق الاخضر واليابس في حال انفجاره، تجمع الجهات على الخطوات التي يجب على الجميع تنفيذها لمعالجة الوضع وتلافي انفجاره. وتشير مصادر في هذا المجال الى ان فوضى انتشار السلاح وعدم تنظيمه او ضبطه تبقى في سلم الاولويات، حيال واقع الانقسامات بين الفصائل وعدم توافقها واختلاف وجهات النظر فيما بينها حول العديد من القضايا الرئيسية، خاصة المتعلقة منها باسرائيل والدول العربية والاقليمية والدولية.
وتلفت المصادر الى ان الطروح المتعدددة والصيغ التوافقية لايجاد مرجعية امنية اولاً، وصولاً الى مرجعية سياسية، لم تلقَ نجاحاً فعلياً، على الرغم من التوصل لتجربة تشكيل لجنة المتابعة الفلسطينية وهي مؤلفة من مختلف القوى والفصائل في المخيم هذه الصيغة التوافقية لم يكتب لها النجاح الفعلي بل تمحور دورها في معالجة، لا بل ادارة الازمات، التي تحدث في المخيم او تاجيل انفجارها، ما لم يناط الأمر بالجهات القضائية والأمنية اللبنانية.
كذلك فشلت صيغة تشكيل لجنة امنية كرافعة للكفاح المسلح الفلسطيني ولم تنجح في ردع المخالفات والتجاوزات الامنية، وخاصة عندما يكون مفتعلوها يتمتعون بغطاء سياسي او حزبي او عشائري او ديني.
ان وجود واقع معيشي متدنٍ وبيئة من الحرمان والاجحاف القانوني والانساني لابسط الحقوق الانسانية، قد سدّت افق المستقبل لعشرات الشبان، وهذه العوامل مضافة الى غيرها ادت ببعض سكان المخيم الى الوقوع في حبائل وافكار بعض القوى المتطرفة التي حاولت ايجاد اماكن لها في عين الحلوة.
وترى المصادران مسالة تنظيم السلاح والحد من انتشاره في شكل علني، وتشكيل مرجعية سياسية فلسطينية على مستوى لبنان، وتفعيل دور الكفاح المسلح الفلسطيني ودور لجنة المتابعة الفلسطينية كإطار لمعالجة القضايا ذات الطابع الخلافي الامني، ودور اللجان الشعبية ومنظمات المجتمع المدني، ورفض اية مجموعات او افراد يحملون فكرا غريبا عن المجتمع والعادات والتقاليد الفلسطينية وتمتين اواصر الالفة والمحبة والتعاون بين المخيم والجوار... قد تسهم في منع الانفجار وتوفير الامن والاستقرار داخل المخيم وجواره. ومن دون ذلك تبقى النار تجاور البارود المتأهب للانفجار.
المصدر: أحمد منتش - النهار