الواقع الصحي للفلسطينيين في مخيم برج البراجنة
الثلاثاء، 26 شباط، 2013
سلوى أبو ستة، في بداية الأربعينيات من عمرها، من سكان مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، لها بنتان وابن، أكبرهم عمراً لا يتجاوز عشر سنوات. آلام في الرئتين دفعتها لزيارة الطبيب، المفاجأة كانت بإبلاغها أنها مصابة بداء السرطان. لم تستطع تأمين تكاليف الدواء بسبب الفقر المدقع الذي تعانيه، فزوجها لا يتجاوز مدخوله الشهري ثلاثمائة دولار، بينما تكاليف مرض السرطان في لبنان تتجاوز عشرات آلاف الدولارات، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأنروا” لا تدفع أكثر من ثلاثة آلاف دولار سنوياً، بعدما كان علاج السرطان بكامله على حساب "الأنروا”. نتيجة العجز عن تحمّل تكاليف العلاج، انقطعت الأم عن تناول الدواء، انتشر المرض في مناطق متفرّقة من جسدها، فكان القبر أقرب إليها من أي مستشفى.
لم تمض أشهر معدودة على وفاة الوالدة حتى أُصيب زوجها أحمد بأزمة قلبية، "الأنروا” رفضت تقديم المساعدة المادية له، لأنه من سكان مدينة غزة، ولا يحمل البطاقة الخاصة باللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وتكلفة عملية القلب المفتوح تبلغ حوالى سبعة آلاف دولار. حاول الأصدقاء على مدى أيام تأمين المبلغ المطلوب لكن المنيّة سبقتهم، ولاقى الزوج مصير زوجته. وبقي الأولاد دون معيل، سوى بعض الجمعيات الخيرية. ولا يملكون حتى الأوراق الثبوتية اللازمة لإثبات هويتهم، لأن الأب، ليس من لاجئي لبنان، وهو دخل خلسة أثناء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 لقتال الاحتلال.
خدمات تتراجع
معاناة عائلة أبو ستة ليست استثاءً بين لاجئي لبنان، فالعجز عن دفع تكاليف العلاج أصبح شائعاً، بسبب ارتفاعه من جهة، وانخفاض المستوى المعيشي للاجئين من جهة ثانية، وتخلّي "الأنروا” عن مسؤولياتها وواجباتها تجاههم من جهة ثالثة. فالوكالة أخذت تخفف من خدماتها بشكل متسارع منذ عام 1984. وكان التحوّل الكبير الذي طرأ على مسار "الأنروا” فيما يخص اللاجئين الفلسطينيين في لبنان عام 1993، عند توقيع "اتفاقية أوسلو” بين قيادة منظمة التحرير والكيان الصهيوني، فحينها قرّرت الأنروا الانتقال بمعظم خدماتها إلى داخل الضفة الغربية وقطاع غزة لدعم هذه الاتفاقية. وهناك من يذهب إلى أن تخفيض الخدمات للفلسطينيين في لبنان، كان مقدمة لدفعهم نحو الهجرة والقبول بالمشاريع التي بدأت تظهر في ذلك الوقت، ومنها التعويض على اللاجئين مقابل منع عودتهم إلى ديارهم.
ففي عام 1993 أوقفت "الأنروا” المساعدات العلاجية لمرضى الفشل الكلوي، وامتنعت عن دفع أية مساعدات مالية لمرضى القلب المفتوح فوق الستين عاماً. واقتصرت مساهماتها لمرضى القلب المفتوح دون الستين عاماً على مبلغ 1500 دولار لعملية تتراوح تكلفتها بين ستة وسبعة آلاف دولار. ولم يتطوّر الجهاز التمريضي والصحي للأنروا بما يناسب تطوّر أعداد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. فمثلاً طبيب الصحة يعاين حوالى 85 مريضاً يومياً، أي خلال ست ساعات، وهو رقم كبير للغاية، فلا ينال المريض الاهتمام اللازم من أجل العلاج، ولا يستطيع الطبيب أن يعطيه الوقت الكافي، مهما سلمت نواياه، لأن ذلك يعني حرماناً لمرضى آخرين.
في تقرير للمفوض العام لوكالة "الأنروا” للعام 2004-2005 يذكر أنه "تفيد منظمة الصحة العالمية بأن الإنفاق السنوي للفرد الواحد على الصحة في البلدان المنخفضة الدخل يتراوح بين دولارين إلى 50 دولاراً. أما متوسط إنفاق الوكالة على الصحة في عام 2004 فقد قُدّر بمبلغ 14.6 دولاراً للاجئ الواحد”. أي إنه حتى قياساً للدول النامية فإن الفرد الفلسطيني يحتل المرتبة الدنيا في سلّم ما يناله من إنفاق على صحته.
فساد
نبيل البنّا، كانت فرحته كبيرة بمولد ابنه يحيى، الذي رزقه الله إياه بعد ثلاث بنات. أصيب الطفل بتمزّق في عضلات معدته، عاينه طبيب يعمل بالهلال، وأبلغه بوجوب إجراء عملية بسيطة ليحيى، وافق الوالد بعد طمأنة الطبيب. أُدخل الطفل إلى غرفة العمليات، كان من المفترض أن يخرج منها بعد ساعة، إلاّ أن ساعات مرت، وأعصاب الوالد تشتعل على باب الغرفة، قبل أن يخرج الطبيب من الغرفة ناطقاً بكلمتين فقط "العوض بسلامتك”. لم يصدّق الأب المفجوع "كيف، العملية بسيطة”. بعد أيام أخذ يلاحق إدارة المستشفى سائلاً عن السبب، مستوضحاً ما جرى، فكان الجواب أن جرعة المسكّن "البنج” كانت أكثر من اللازم فتوفي الطفل. يضيف الوالد أنه كثيراً ما كان يسأل عن نتائج التحقيقات، والعقاب والتدابير التي اتُخذت، لكن تبيّن له كما يقول بأنه لم يكن هناك تحقيق في الأصل، وولده ليس أول من مات بهذه الغرفة!
تصحّر طبي
مشكلة خطيرة بدأت تعاني منها الساحة الفلسطينية في لبنان هي أن الطلاب الفلسطينيين أخذوا في الآونة الأخيرة يبتعدون عن الالتحاق بالكليات الطبية، أولاً نظراً للأقساط العالية لتلك الكليات والتي يعجز اللاجئ الفلسطيني عن دفعها، وثانياً لأن السلطات اللبنانية ترفض إعطاء التراخيص للأطباء الفلسطينيين لمزاولة مهنة الطبّ، ما يدفع الطبيب الفلسطيني إلى العمل فقط في نطاق المخيمات، مع علمه أن سكانها عاجزون عن دفع تكاليف زيارة الطبيب، رغم نجاح أغلبية الأطباء الفلسطينيين في الحصول على شهادة الكولوكيوم ضمن المسابقة التي تجريها وزارة الصحة لمعادلة الشهادات الجامعية.
في حال استطاع الطبيب العمل في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني فإنه لن يحصل على أكثر من 300 دولار إذا كان طبيب صحة عامة، و 400 دولار إذا كان طبيباً اختصاصياً، وأكثر من ذلك، فإن الطبيب المعالِج في الهلال لا يتلقى تأميناً صحياً. هذه الظروف الصعبة التي يعانيها الأطباء الفلسطينيون دفعت العديد منهم إلى الهجرة خارج لبنان، سعياً وراء رفع مستوى معيشتهم. وهكذا فإن المجتمع الفلسطيني في لبنان أصبح يفتقد بشكل كبير إلى الجسم الطبي الذي يناسب تطوّر أعداده. فنجد مثلاً في المركز الصحي التابع للأنروا في مخيم برج البراجنة ببيروت ومحيطه طبيبي صحة عامة أي إن هناك طبيباً لكل 13000 فلسطيني.
الاكتظاظ السكاني في المخيمات الفلسطينية وسوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية أدّى إلى تدهور في الحالة الصحية لأكثر الفلسطينيين في لبنان، فبرزت بشكل خاص أمراض القلب والجهاز التنفسي، ومرض ضعف النظر، بسبب ضيق المساحات، وكذلك أمراض السكري وضغط الدم، وفقر الدم نتيجة سوء التغذية. وفي الأعوام الأخيرة أصبحت الأمراض النفسية، والجسدية الناتجة عنها ظاهرة بشكل ملحوظ في المجتمع الفلسطيني بلبنان، ولا يفوتنا انتشار السرطان، وإن تعدّدت الآراء بأسباب شيوعه، فمنهم من يرجعها إلى الحروب التي مرّت على المخيمات الفلسطينية، ومنهم من يقول بأن الأسباب تنحصر في النظام الغذائي المعتمد.
إحصاءات
تُظهر بعض الإحصاءات الخاصة بالأوضاع الصحية للاجئين الفلسطينيين في لبنان وقائع مخيفة للغاية منها:
إن 5 بالمائة من الأطفال بين السنة الأولى والثالثة من العمر يعانون من سوء التغذية (مقارنة بأقل من 1 بالمائة في مخيمات الأردن). وكذلك فإنه سُجلت في عام 1997 بين الأطفال حديثي الولادة 26 حالة وفاة، وكذلك 35 حالة وفاة بين الرضّع لكل 1000 مولود حيّ. أما عدد الأسرّة المدعومة في المستشفيات فهو 1/4000 من السكان. وما بين عامي 1989 و 1995 انخفض عدد أسرّة المستشفيات المتاحة للفلسطينيين في لبنان بمقدار يزيد عن النصف من 0.56 سرير إلى 0.25 سرير لكل 1000 شخص. وأظهرت الإحصاءات أنه يعاني شخص واحد تقريباً من كل خمسة لاجئين فلسطينيين من مشكلة صحية مزمنة. ويشعر واحد من كل أربعة باليأس من المستقبل. ويتعاطى حوالى 21 بالمائة الأدوية بانتظام لأسباب الإحباط النفسي. كما أن 16 بالمائة قد استعملوا هذه الأدوية أحياناً خلال الستة أشهر الأولى من عام 2000.
يروي ناصر عيسى أن ابن أخيه علي، في العاشرة من عمره، أصيب بمرض بالنخاع الشوكي، وطلبت المستشفى مبلغ 120 ألف دولار لزرع نخاع آخر. ولم تستطع العائلة تأمين ولو جزء من المبلغ، فالأب يعمل في البلاط، والعمّ بمطعم يقدّم أطباق الفول. طاف الأب على مؤسسات وأفراد فلسطينيين فتبرّعوا قدر المستطاع، وما يسمح به الواقع الاقتصادي المتردّي. ثم جال على المؤسسات الاجتماعية اللبنانية التي تتبع مراجع سياسية، فكانت المفاجأة أنها لم تقدّم دولاراً واحداً لهذا الطفل. أما المفاجأة الإيجابية الكبرى فكانت بتبرّع أحد اللبنانيين من الطبقة الوسطى بمبلغ معتبر من المال، تبعه عدد من أصدقائه حتى دُفع المبلغ كاملاً، وأُجريت للطفل العملية الجراحية بعد سنتين من تردّي الحال، وتكللت بالنجاح، واستعاد الطفل عافيته.
إن صعوبة وتردّي الوضع الصحي للاجئين الفلسطينيين في مخيم برج البراجنة، وفي مخيمات لبنان عموماً، لم تعد تكفيه المبادرات الفردية، على إيجابياتها، بل الأمر يتطلّب رؤية مشتركة لكل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الفلسطيني علّها تنهض بالواقع الصحي الذي يقلق جميع الفلسطينيين في لبنان.
المصدر: أحمد الحاج علي – برج البراجنة