«انتفاضة "الحجارة» ثورة المخيمات الأولى ولدت في مخيم «جباليا»
(يا تلاميذ غزة علمونا)...أبيات للشاعر العربي الكبير الراحل نزار قباني، خاطب فيها أطفال الحجارة، تمرّ بشريط كامل أمام ناظريك كلما لاحت ذكرى اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987.
ويلوح في ذاكرتك شريط سينمائي لأطفالٍ صغار لا تتجاوز أعمارهم عدد أصابع يديهم كيف واجهوا البندقية والرصاص الحيّ والدبابة بحجارةٍ صغيرة ومقلاع بسيط. وحينها ستتساءل كيف تحولت ثورة الدفاتر والحبر التي تحدث عنها قباني في أبياته، إلى بطولة يسطّرها رجال غزة ومقاوموها.
وفي الثامن من كانون الأول من كل عام، يسترجع الفلسطينيون ذكرى الانتفاضة الأولى، "انتفاضة الحجارة" التي بدأت شرارتها بعد دهس سائق شاحنة إسرائيلي مجموعة من العمال الفلسطينيين على حاجز بيت حانون "إيرز" في أثناء توجههم إلى عملهم، ما أدى إلى استشهاد 4 منهم وإصابة الآخرين بجراحٍ متفاوتة.
وفي صباح اليوم التالي انفجر بركان الغضب الشعبي من مخيم جباليا حيث يقطن أهالي الضحايا ليشمل قطاع غزة برمته، وبدأت التظاهرات والاحتجاجات تجوب كل الشوارع والأزقة والمخيمات، وانصبّ الغضب على مقرّ الحاكم العسكري ورجمته الجماهير بالحجارة، ورجمت مركز الشرطة أيضاً، وتصدى لها الجنود الصهاينة بالرصاص والغازات المسيلة للدموع، فسقط شهيد جديد وجرح سبعة وعشرون، وفرضت سلطات الاحتلال حينها حظر التجوال على بلدة جباليا ومخيمها وبعض الأحياء في قطاع غزة، وكلما سقط شهيد خرجت تظاهرات أشد غضباً وغلياناً، ولتمتد إلى كل المدن والقرى والمخيمات في قطاع غزة والضفة الغربية.
انتفاضة الحجارة
لم يكن اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987مصادفة أو نتيجة حادث عرضي، بل كانت محصلة لعشرين عاماً من بطش الاحتلال وظلمه، وقوانين الطوارئ والمخططات الاستيطانية ومحاولات التهويد لكافة المقدسات.
وخلال تلك الفترة لم يسلم الفلسطينيون من العقوبات الجماعية وسيطرة الاحتلال على كافة مرافق الحياة ومصادرة الأراضي ونسف البيوت وتدميرها وتشريد العائلات والأهالي، بالإضافة إلى نهب الموارد المائية والحرب الاقتصادية وإقفال المؤسسات العلمية والنقابية والمهنية، وحرمان الشعب الفلسطيني هويتَه الوطنية.
وكانت الانتفاضة هي الردّ الإبداعي للشعب الفلسطيني على الانسداد السياسي الذي وصلت إليه قضيتهم، والردّ العملي على عجز قيادته في الخارج عن حماية أهل الداخل وتوفير حياة كريمة لهم ينعمون فيها بالحرية، حيث لم تكن القيادة الفلسطينية في المنفى على علم كامل بأوضاع الفلسطينيين في الداخل، ولا بمعاناتهم، ولم تكن تطرح الحلول لمساعدتهم.
ولم تقتصر المشاركة في انتفاضة الحجارة على أهالي قطاع غزة والضفة الغربية، بل امتدت لتصل إلى فلسطينيي الداخل "48"، وأعلنوا أنهم جزء لا يتجزأ منها، واستخدموا حقوقهم من داخل النظام الديموقراطي الإسرائيلي، كإرسال مساعدات غذائية وأدوية إلى غزة والضفة ومساندتهم مادياً ومعنوياً.
وخلال العام الأول للانتفاضة، أُحصي 1600 حظر تجوال، منها 118 لفترة لا تقل عن خمسة أيام. وعاش جميع سكان قطاع غزة حالة منع تجوال، وكذلك ما لا يقل عن 80% من القرى والمدن العربية بالضفة الغربية، وأُغلقت الجامعات والمدارس الفلسطينية وأُبعد 140 من قادة الانتفاضة، إلى جانب هدم مئات المنازل.
وسائل مقاومة
وتميزت الانتفاضة الأولى بحركة عصيان مدني كبيرة وتظاهرات ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكانت التوقعات الإسرائيلية أن هذه الاحتجاجات والتظاهرات ستنطفئ في اليوم التالي، إلا أنها لم تهدأ ولم تفتر، ورفض أغلب الأهالي التوجه إلى أماكن عملهم وممارسة حياتهم اليومية، وقام طلبة المدارس والجامعة الإسلامية في غزة بالتجول في الشوارع، داعين المواطنين إلى الثورة على الظلم والطغيان وتحرير الأرض من دنس اليهود.
وشكلت الكتابة على الجدران، إحدى وسائل التعبئة والتنظيم في تلك الحقبة من حياة الشعب الفلسطيني، وفي الوقت الذي غابت فيها وسائل الإعلام، أبرز الشعارات التي تخطها الحركات والتنظيمات في وصف الانتفاضة بأنها "إسلامية" و"مباركة" وأنها "ثورة مساجد" وأنها "حرب عقائدية".
وبرزت ظاهرة حرب السكاكين خلال الانتفاضة، فكان السلاح الأبيض أكثر أسلحة المقاومة الشعبية استعمالاً بسبب وجوده في كل بيت، وكان له تأثيره النفسي على المواطن الإسرائيلي الذي يرى أو يعرف أن العسكري الإسرائيلي قد قُتل بسكين، فيما هو يحمل بندقية آلية متطورة.
وابتدعت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة أسلوباً جديداً للردّ على طريقة التدمير المتعمد التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي للاقتصاد المحلي الفلسطيني، وهو حرق المرافق والمنشآت الزراعية والصناعية الإسرائيلية، بما في ذلك الغابات والمراعي وتكبّد الاحتلال لخسائر مادية باهظة.
وفي عام 1989 بدأت أولى العمليات المسلحة باختطاف الجندي الإسرائيلي (آفي ساسبورقس) من العمق الإسرائيلي، ثم اختطاف الجندي (إيلان سعدون) في أيار (1989م)، واختطاف الجندي (نسيم توليدانو) في كانون الأول (1992م)، وكان لهذا الحدث الأخير وغيره وقع أليم على السلطات الإسرائيلية، فاتخذت إسرائيل قراراً بإبعاد جماعي للمسؤولين في حركة حماس في الضفة والقطاع وبعض قادة حركة الجهاد الإسلامي إلى مرج الزهور في جنوب لبنان.
أكبر المخيمات
وبالرغم من مرور أكثر من عقدين على اندلاع الانتفاضة الأولى، إلا أنه ما زال مخيم جباليا للاجئين يحتفظ بأنه مركز انطلاق الشرارة الأولى للانتفاضة، ومنه بدأت الحرب على الاحتلال.
ومخيم جباليا من أكبر مخيمات قطاع غزة وأكثرها ازدحاماً بالسكان، حيث يقع إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة على مسافة كيلومتر واحد من الطريق الرئيسي غزة – يافا. ويحدّ المخيم من الغرب والجنوب قرية "جباليا" "النزلة"، ومن الشمال "بيت لاهيا"، ومن الشرق بساتين الحمضيات التابعة لحدود مجلس القروي لجباليا، النزلة وبيت لاهيا.
ويرجع اسم المخيم إلى الأصول الرومانية، حيث إنه محرّف عن كلمة (أزاليا) الرومانية أو من (جبالاية) السريانية بمعنى الجمال أو من (جيلا) بمعنى الفخار والطين.
أنشئ هذا المخيم عام 1954م وبلغت مساحته عام 1954م عند تأسيسه نحو 1400 دونم، وبلغ عدد السكان آنذاك نحو 37800 نسمة، مقسَّمين على 5587 عائلة، وبلغ عدد سكان المخيم عام 1967م نحو 33100 نسمة.
وفي عام 1980 قُدِّر عدد سكان جباليا بنحو 90000 نسمة، بالإضافة إلى وجود 50000 لاجئ في مخيم جباليا، وفي عام 1987م نحو 53000 نسمة. ويعود معظم سكانه بأصولهم إلى أسدود ويافا واللد.
وفي عام 2006م بلغ عددهم نحو 175000 نسمة، منهم (95,000) نسمة من السكان الأصليين، و(80000) نسمة من اللاجئين، ويعمل معظمهم في الوظائف الحكومية والتجارة والأعمال الحرة.
مركز المقاومة
ويعتمد اقتصاد جباليا على الزراعة، حيث إن مساحة جباليا البالغة 11500 دونم تغلب عليها التربة الرملية، وفيها عدة آبار مياه محيطة بالأراضي الزراعية. لذا، تكثر فيها زراعة الحمضيات والفواكه بمختلف أنواعها المعروفة في فلسطين، وخاصة الجميز. وتشتهر جباليا أيضاً بزراعة الخضار المختلفة والبطيخ والشمام، بالإضافة إلى تربية المواشي والطيور الداجنة وصيد السمك.
ووفرت وكالة الغوث للمخيم مركزاً طبياً يتألف من عدد من الغرف، بما فيها عدد من المراكز فيها عيادة للأمومة والطفولة وعيادة للأسنان وعيادة للعيون وصيدلية، ويعمل في هذا المركز أربعة أطباء غير متخصصين وطبيب أسنان وعيون، ويرتاد المركز نحو 600 مريض يومياً.
في المخيم 13 مدرسة ابتدائية وثانوية و5 مدارس إعدادية، منها مدرستان تقعان خارج حدود المخيم.
وشكّل المخيم مركزاً جهادياً ممتلئاً بالقادة وأبطال المقاومة، فقدم نسبة عالية من الشهداء، وكان مفردةً مركزةً في حالة الاجتياح والمقاومة؛ فقد شهدت أول أعوامها الاستخدام الإسرائيلي الذي لم يكن آنذاك مسبوقاً للمدافع والطائرات التي دكت عدداً من المواقع الأمنية والمدنية فيها.
ومن أبرز المجازر الإسرائيلية التي ارتُكبت بحق المخيم، مجزرة جباليا في يوم 7/6/1967م، مجزرة جباليا في سنة 1968م، مجزرة جباليا في سنة 1987م، التي أشعلت الانتفاضة الأولى، مجزرة جباليا في يوم 6/3/2003م، مجزرة جباليا في يوم 10/6/2003م، مجزرة اجتياح شمال غزة في يوم 29/9/2004م، مجزرة جباليا في الفترة ما بين 27 شباط/ فبراير 2008 وحتى الرابع من آذار/ مارس 2008م، مجازر شرق جباليا أثناء "الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة" أواخر عام 2009م.
المصدر: مجلة العودة، العدد الـ63