بحارة البارد
بر مغلق.. وبحر
مُغرق..
الثلاثاء، 12 حزيران 2012
يشتهر الصيادون بأهازيج
ال" هيلا يا بحارة..", وبشباكهم وأدواتهم التي تملأ الموانىء, ومراكبهم
الطوافة في البحر ليل نهار غير آبهة بما يحفها من أخطار. ويُعرف للبحارة حكايات
ومغامرات وذكريات حفرتها الأيام على جباههم السمراء كرقاقات الموج الذي ركبوه دهرًا.
هذا لكل بحارة في
العالم .. باستثناء الصيادين من أبناء البارد .. فلا بحر لهم .. ولا مراكب ولا
شباك تعمل .. ولا صيد, بل هناك من يتربص بهم ليصطادهم.
فهم خلسة يصطادون,
وخفية يعملون, وإذا غضت الأجهزة الأمنية عنهم الطرف... بجرأة الى البحر ينزلون,
ولكن.. ليلتقطوا فتات مواسم الصيد في الصيف الحار أو الشتاء القارس جدا.
ضاق البحر بأبناء
البارد بعد حرب الـ2007, وغطت قضايا العودة والإعمار ومشاكل التصاريح والحواجز
والتجار وغيرها من التداعيات على مآسي الصيادين, وعلى عكس المألوف طاف البر على
البحر.
عمل بحارة البارد منذ
ستينيات القرن الماضي وبشكل رسمي وفق القوانين التي تستوجب تسجيل 3/ 4 المركب باسم
لبناني(التمليك بشراكة لبنانية) أو الحصول فيه على سند توكيل.
وعليه فكان لهولاء
الصيادين أوراق رسمية يستصدرونها من رئاسة الميناء ويعملون بموجبها بحرية مطلقة
على حد سواء الى جانب زملائهم اللبنانيين. لذلك سهُل على عشرات العائلات في مخيم
نهر البارد اعتماد الصيد كمورد وحيد للرزق كونه بالأساس حرفة متوارثة عن أجدادهم
الذين حظوا بالإبحار في مياه عكا وحيفا ويافا كما أخبرنا الصياد (ك)...
وفي سياق التشديدات
المتراكمة على الفلسطينين في السنوات الأخيرة تفاجأ بحارة البارد في حزيران 2006
بقرار رسمي يقضي بحظر الصيد على من لا يمتلكون هويات بحر وذلك بعد الإعلان رسميا
عن قبول تقديم طلبات الرخص لمدة خمسة عشر يوما لم يتمكن خلالها سوى ثلاثون صيادًا
بحريًا من أصل - 120 في ذلك الوقت - من حيازة التراخيص أو ما يسميها بعض البحارة ب
"هويات بحر "أو " باسبورت بحر" ...
لماذا نعامل من زاوية
أمنية؟
يقول (ز.ع):" لم
أتمكن من تحصيل كافة المستندات المطلوبة لهذا الإجراء وهي ثمانية أوراق ( ورقة
سكن, و رقة نقابة, إخراج قيد عائلي, ورقة حسن سلوك, شهادة صحية, ورقة لا حكم عليه,
صورة عن الهوية وصورتان شمسيتان) ففاتتني هذه المهلة مثلي مثل العشرات من صيادي
المخيم ولليوم ونحن نسعى لأخذ فرصة أخرى لكن لا مجال لأن كل الأبواب أوصدت بوجهنا
... فقط من حاز هوية بحر يمكنه تجديدها سنويا وهذا بحال لم يرفض الأمن العام طلبه
أو لم يعترض طريقه تقرير مخبر( فسدة) يأخذها الأمن العام على محمل الجد دون
إثباتها قضائيا وعليها يتم منع الصياد من تجديد بطاقة البحر أو حيازتها إن كان ذلك
مسموحا, و فوق ذلك على هذا الصياد أن ينتظر ثلاث سنوات أخرى ليتم تبييض سجله
العدلي من جديد ويحصل على ورقة ال" لا حكم عليه"، لا يحدث هذا للبنانيين
فهم يُصدرون تراخيص الصيد من رئاسة الميناء مباشرة, أما الفلسطيني فيذهب طلبه الى
الأمن العام حتى يوافق عليه أو يمنعه.
منذ صيف الـ2006 وبعد
أزمة البارد ازدادت أوضاع الصيادين سوءًا, وياتوا معرضين للمساءلة والملاحقة في
البحر حتى ضمن الشواطىء المسموح بالصيد فيها من داخل حدود المخيم الجديد، وبما أن
أساليب الصيد المتبعة مختلفة , فإن لكل نوع معاناته الخاصة به .
معاناة الغطاسين و أصحاب
الشمبرينات
ينطلق يوميا (قبل
الحرب) من شواطىء البارد فوق الثمانين غطّاس وصياد ممن يبحرون بواسطة دواليب كبيرة
تسمى (الشمبرينات) ليزرعوا شباكهم في الأعماق المقابلة للمخيم, علاوة على الهواة
الذين يتجهون للبحر للصيد بواسطة السنانير والذين بلغ عددهم مؤخرا أكثر من 400
شاب. كانت هذه المياه قبل الحرب تكفيهم انتاج قوت يومهم وما لم تسعه مسمكة العبدة
المجاورة للمخيم كانوا يرسلونه ليباع في بيروت. ولكن بعد الحرب تم تحديد أجزاء من
شواطىء المخيم الجديد لهؤلاء الصيادين, مثلا 200 متر فقط في منطقة العبدة وصولا
الى" النورس" شمال حدود المخيم القديم, ومن معمل عطية جنوب مصب نهر
البارد حتى مسافة 150 متر باتجاه منطقة " الصخور" عند حدود المخيم الجنوبية
. يقول السيد كامل: " في منطقة العبدة لا تتسع الشواطىء لأكثر من ثلاثة
غطاسين و كذالك منطقة جار القمر لايصطاد هناك أكثر من أربعة, صرنا نشعر بالحرج من
بعضا وآثر بعض الصيادين زملاءهم ربما لأن وراءهم عائلات وأوضاعهم أكثر تعاسة,
وبالنسبة إليّ فأنا هجرت حرفة العمر بعدما تعرضت للكثير من البهدلة والتوقيف و
الضرب المبرح على اعتبار مخالفتي للقانون كوني لا أمتلك "ترخيص صيد"
فشواطىء المخيم لم تعد مسموحة لنا كما كان معهودا حيث كنا نصطاد بحرية ونشطح
أحيانا الى نقاط بعيدة في الجوار اللبناني مثل " معمل السكر" بالقرب من
الحدود السورية , وأذكر أني وصلت مرة الى قبرص! .. وحاليًا يعتبر بحر المخيم منطقة
عسكرية مغلقة - فقط أمام أبناء البارد- لذلك نمنع أحيانا من الإصطياد حتى في
المناطق المسموحة, وبالتأكيد لا يحق لنا العبور بالشمبرينات قبالة شواطىء المخيم
القديم في الوقت الذي يسمح فيه للبنانيين بالصيد هناك بحرية,, هذا فضلا عن
ملاحقتنا من قبل أجهزة خفر السواحل و ما يدعى بـ "الطراد" أو
"دورية البحر " وفوق كل ذلك لا يؤذن لنا بالعمل بعد الساعة الثامنة
مساءً، علمًا أن "عز الصيد" يكون بالليل.. وهذا أيام غض الطرف
عنا".
لعبة القطة والفار
يوافق الغطاس(ن) تعليق
السيد كامل على أشكال المطاردة التي تحدث لهم, يقول:"نحن نصطاد بحذر شديد
خشية وصول الطراد الينا وعندما نعلم بوجوده نسارع إلى الإختباء منه ريثما يبتعد
عنا لنعاود العمل تمامًا مثل لعبة القطة والفأر". يشترك السيد ناصر هو ورفيقه
بالعمل في البحر وقُُدرت خسارتهما في الحرب بـ 8000 $. أما السيد كاملة فقد فاقت
خسارته الـ5000 $ كأقل بحري في المخيم .
أزمة مالكي الفلوكة
أما أصحاب الفلوكة (
قوارب صيد/ لنشات ) فهم ليسوا أفضل حالا من غيرهم لأن مجال عملهم يتجاوز بحر
المخيم فهم يصلون إلى طرابلس وبيروت وصيدا وغيرها من المدن الساحلية اللبنانية. من
يمتلك منهم تراخيص صيد فلا بأس عليه, أما من لا يحوز هذه البطاقة فعليه إما أن
يعمل كأجير عند اللبناني وهنا يؤذن له بالوساطة لوجود حاجة لبنانية الى جهده. أو
عليه أن يمكث عاطلاً عن العمل منتظرًا الأشهر التي يقل فيها السمك وصيده, مثلا (
أشهر كانون الأول وتموز وآب) وفيها تخفف رقابة الدولة على الصيادين الفلسطينيين
غير المرخصين.
يعتبر الأخوان (ز وم.
ع) أن البحارة اللبنانيين لا يمكنهم الاستغناء عن الصيادين الفلسطينيين فهم"
يثقون بجدارتنا في الصيد حتى بظل اعتى العواصف شتاء وعندما نعمل لديهم نسهم بصيد
الـ 60 % من إنتاجهم".
يستطرد الأخوان (ع)،
عملت عائلتنا في البحر مند ستينيات القرن الماضي و كان لعائلتنا قبل الحرب عدد من
قوراب الصيد غرق جزء منها في المياه مثلما ضاعت شباكنا فيها لطول مدة الحرب , لذا
خسرت عائلاتنا الأربع قرابة 40,000 $ ونعيش حاليًا على مركب واحد يعمل يوما ويمنع
أيامًا خصوصًا في مواسم السمك كأشهر تشرين ونيسان وأيار .
معضلة التعويضات
كبدت الحرب الصيادين
خسائرة فادحة, فغالبيتهم فقدوا كافة معدات الصيد والقوراب باستثناء المراكب التي
كانت موجودة بعيدًا عن المخيم وجواره وكذلك مابقي في المخيم إما جرف أو تضرر أو
حرق.
يقول السيد غازي وهبة
أحد كبار البحارة في البارد وهو ممن يحوزون على رخصة صيد: " إن خسائر البحارة
كانت كبيرة فعلاً على غرار خسائر البر, المفارقة هي أن التجار في البر بمختلف
أحجام مشاريعهم حصلوا على تعويضات من الأنرو, أما الصيادون الذين تم تعويضهم فلم
يتجاوزوا 10 % من مجمل بحارة البارد.
لقد تم تعويض أصحاب
المشاريع الكبيرة بآلاف الدولارات وبالواسطات, أما البحارة فأكثر تعويض بلغت قيمته
2000 $ مقابل اكبر خسارة فاقت الـ 40,000 $ وهذا ما حصل معي".
تحدث جميع البحارة
الذين إلتقيناهم بسخط شديد على إهمال تعويضهم وعدم إنصافهم, بالرغم من أن
التعويضات لم تكن بأدنى المستويات المطلوبة فهي لم تكن عادلة أيضًا، كان للواساطات
الدور الأبرز في تحديد المستفيدين من قبل الأنروا باتفاق كافة البحارة الذين شكوا
معاناتهم, أما تعويضات الشركة الفرنسية فكانت محددة لجزء من الصيادين"
الرسمين" فقط دون النظر بعين الاعتبار الى البحارة الّذين أمضوا عشرات السنين
في البحر.
أما المؤسسة الثالثة
التي ساهمت بالتعويض فقامت بتحديد المستفيدين ليكونوا فقط من الشباب العازبين,
وبكل الأحوال لم يتجاوز عدد الصيادين الذين ظفروا بالهبات أو التعويضات ال 12
صيادًا من أصل أكثر من 120 بحارًا.
المطالب والجهود ..
والوعود
تكمن أزمة الصيادين في
حرمانهم من الرخص و التعامل معهم من زاوية أمنية تعيق حريتهم وتحرمهم من حقوقهم
كما حصل لهم بمسألة التعويضات. لذلك ومنّذ الـ 2006 قام جميع الصيادين بمحاولات
عديدة لإصدار هويات بحر تسمح لهم بالصيد بحرًا كزملائهم اللبنانيين والفلسطينيين وتريحهم
من القلق والضيق الذي يعيشونه يومًا بعد يوم, يكفيهم أن البر مغلق وأن البحر
للجميع والصيد فيه ليس ضمن الـ 75 مهنة المحظورة على الفلسطينيين، ولو امتلك
الفلسطيني قاربًا أو ذهب ليصطاد من البحر سيبقى فلسطينيًا كما يقول السيد حاتم
مقدادي من مؤسسة "حقوق " لحقوق الإنسان " فلماذا يمنع ؟" .
يطالب بحارة البارد
بفتح المجال أمامهم وتسهيل حصولهم عى تراخيص فهم لا يتمتعون بأدنى حماية لأنفسهم
ولا لممتلكاتهم التي تترك ليلاً حيث يمنع البحر عليهم.
لم يوفر الصيادون
واللجان الشعبية واتحاد العمال بابًا إلا وطرقوه بدءًا من الفصائل والسفارة
الفلسطينية ومكتب بهية الحريري والأنروا وأبواب الأحزاب اللبنانية (ليس آخرها لقاء
اتحاد العمال مع الحزب التقدمي الإشتراكي كون وزير النقل غازي العريضي من أبرز
ممثليه) وغير ذلك من من رفع للمذكرات وإرسال للوفود.. لكن هذه الجهود لم تكن تقابل
بأكثر من التفهم لمطالبهم والوعد بتسهيل الأمور. سئم الصيادون كثرة الوعود فلهم
أعوام وهم على هده الحالة و ليس بوسعهم ولا بمقدورهم بعد هذا العمر أن يزاولوا مهن
أخرى فهم تربوا على البحر. لذلك ترك السيد كامل البحر آسفا على حرفة العمر لأنه لم
يعد بوسعه تصديق شيء وهو اليوم قابع في منزله، أما زاهر ومحمد فيناشدان المعنيين
أن ينظروا إلى حالهم:" نحن أربع عائلات تعيش على قارب واحد ولدينا أطفال ونحن
مقبلون على العيد .. أعطونا هويات بحر وكفانا معاناة .. وكفانا عيشًا على الوعود
كالكمون"!.
يجمع السيد أبو علاء
السبعيني من اللجنة الشعبية, والسيد عبدالله ديب(اتحاد العمال الفلسطينيين في
الشمال), أنه لا أسباب جوهرية تحول دون إعطاء الصيادين التراخيص وأن القضية عند
المسؤولين اللبنانيين هي مسألة سياسية بامتياز كونها ملفًا يتعلق بحقوق فلسطينية
قابل للمماطلة والتسويف.
لكن الواقع عندنا هو أن
قضية الصيادين إنسانية بحتة وهناك مآسي تتفاقم عند عشرات الأسر والمطلوب ليس سوى
ترجمة هده الوعود إلى أفعال جدية عاجلة غير آجلة.
فمتى سيستجيب المعنيون؟
وكيف!؟ وهل ستدخل قضية البحارة المجهول مثلما حل بالطوق الأمني المفروض على أبناء
مخيم البارد برًا ..! ؟
المصدر: سمية وهبي - البراق