حكاية عن شادية المعلّقة روحها بمخيم اليرموك
الأربعاء، 18 أيلول، 2013
كثيراً ما أسأل نفسي عن السر الكامن في مخيم اليرموك. تلك المنطقة الشعبية الفقيرة
نسبياً، وعن سبب تعلّق فلسطينيي سوريا بها، كأنها الوطن البديل بل الأصلي.
«لا أستطيع ترك المخيم» كثيراً ما سمعتها من أصدقائي هناك، برغم القصف، الدمار،
والاشتباكات المتواصلة، والحالة المادية والاجتماعية التي آل إليها المخيمُ الذي كان
يعتبر سابقاً ملاذاً وملجأ آمناً لسوريين عديدين إلى حين جاء دوره، ليبدو أن الكل سيشرب
من الكأس ذاتها، فمن كان يؤوي النازحين أصبح نازحاً، ومن شيّع شهيداً أصبح شهيداً...
التقيت «شادية»، فلسطينية سورية، من سكان المخيم. مَن يراها يتعلم الإصرار والصبر،
التحدي والعطاء. شابة سمراء في الـ23 من العمر، جامعية، مثقفة... في تفاصيل وجهها المنمنم
تخبئ أحلامها، وبرغم ضآلة حجمها وصغر عمرها، فإنها تناضل في مخيمها، ويعول عليها أهلها
وسكان الحي... فتمدهم بطاقة ليوم جديد.
رفضت شادية ترك المخيم بعد تأزم الأحوال، خاصة القصف على جامع عبد القادر الحسيني
في كانون الأول الماضي، حيث استشهد في ذلك اليوم ما يقارب الـ100 شخص، فيما نزح عشرات
الآلاف ما بين ساكن أصلي ونازح معيد، تزامناً مع دخول المعارضة المسلحة للحي.
كانت ساعات مصيرية لتقرر شادية وأهلها ترك المخيم أو البقاء، ومع تواصل القصف
طلبت إحداهن الحليب من شادية، التي تعمل في الهيئة الإغاثية للحي، وحاجات أخرى لرضيعها.
عندها حسمت قرارها بالبقاء، رافضة ترك من هم بحاجة إليها، إضافة لعدم تنازلها عن ترك
بيتها وشقاء العمر وحيداً.
تصف شادية ذلك اليوم كأنه نكبة 48 بفلسطين. الناس كعاصفة هوجاء، تركض حاملة
أولادها، أقفاص عصافير ملونة، وما استطاعت من أثاث المنزل، الذي ترميه في الشارع بعد
حين، لتسرع في الهرب من هدايا السماء... تقول: «يومها كان عدد الأشخاص الذين بقوا لا
يتجاوز المئات من أصل الآلاف المؤلفة من السكان الأصليين والنازحين. ومع مرور الأيام
بدأ البعض بالعودة، لأسباب متعلقة بغلاء المعيشة والإيجارات خارج المخيم، وقلة لأسباب
ودوافع وطنية».
تقول: «في الحصار تصبح الحياة صعبة جدًّا ومختلفة. كل شهرين أخرج من المخيم
لأرى اصدقائي والمعارف. هناك أشعر بانفصام تام، فأنسى الحروف وتضيع الكلمات، أتلعثم
وأجد صعوبة في التواصل، بين عالمين مختلفين، وكأني خرجت من الكهف بعد سنين طوال، الى
دنيا مختلفة لا أجيد قراءتها. أشعر بخيانة أهل المخيم لهذه الدقائق وخيانة نفسي بعيداً
عنهم. وفي الوقت ذاته، عندما أكون في المخيم، أحس وكأني أقود نفسي للانتحار، أقتل نفسي
تحت القصف والجوع».
فما بين الخيانة والانتحار، تفضّل شادية الانتحار على خيانة مخيمها. تستمدّ
قوتها من «الأساطير» التي يرويها أهل المخيم، ممن فقد ابنه، بيته، حياته، وذكرياته...
وما زال هناك من يأبى الرحيل، يحوّل أحزانه ضحكاتٍ ملونةً لمن بقي، معلناً استمرار
الحياة لآخر زفرة.
أما الخبز، فحكاياته تروى... أفكار واختراعات لكسر حصار الجوع. في السادس من
رمضان من العام 2013، أغلق «المعبر» كما يسمّيه أهل المخيم - نسبة لمعبر رفح في غزة.
اعتقدوا انه إجراء شكلي، أمني، وبعد أيام ستعود الحركة، لكن الظنّ خاب فحاجز مخيم اليرموك
«المعبر» مغلق حتى هذا اليوم.
بدأت مادة الطحين تشح إلى أن اختفت من البيوت والعليات... عندها بدأ الناس بطحن
ما تيسر من زوائد البرغل مع الرز أو العدس لتكوين عجينة، كما استحدثوا «فرنيات» خصيصاً
لخبزها...
تحدّثني شادية: «استيقظ صباحاً على أصوات نسوان الحارة في بيتنا، نبدأ مهمتنا
الصباحية في إعداد العجينة ثم تخميرها. عجينة أختي لها طعم مميز، فهي تضع الى جانب
الرز والبرغل المطحون، ملعقتين من اللبن والبيكنغباودر والفانيليا». وتضيف: «هناك نوع
من التكافل الاجتماعي، فأنا نفسي سابقاً كنت انطوائية، لم أكن أتخيّل الجلوس والتكلم
مع الأهالي والبكاء مع بعضنا، لكن مع الحصار اختلفت المفاهيم، في نهاية كل سهرة تختلط
دموعنا المالحة صبراً ليوم جديد».
بعد انتظار تخمّر العجينة تذهب شادية، بعد انتهاء دوامها في مكتب الإغاثة، الى
العم «أبو خالد» عامل بناء، متقاعد، تشعر عنده وكأنك في مؤسسة إغاثية فتحها هو نفسه
للأهالي، فسعادته بجلب «الزميرات والطبلة» لأطفال المخيم.
في دكان متواضع «مترين بمتر»، صنع «فرنية» للخبز، مؤلفة من آجر الطين والحجارة...
هي صغيرة... لكنها تقضي حاجة أهل المخيم. هو شخص لا يليق به الا أن يكون رئيس جمهورية
فلسطين، على حد تعبير شادية». تعبق رائحة الخبز في المكان، تحمله وتذهب الى الطريق،
تصل بيتها مع ربع «الخبزات» وأحياناً لا يتــسنى لها تذوقه... تقول: «لا يهمّ، لكن
طعمه يرد الروح. هو شعور رائع أن تأكل الخبز!»...
عن «المعس» والضوء...
في آب العام 2012، قطعت الكهرباء عن المخيم. مرت الأيام وتوالت مساءات قلقة،
كئيبة، باردة ومظلمة. ينام الحي على أصوات الاشتباكات، ويستيقظ على أمل بمجيء تلك المحبوبة:
«الكهرباء».
ومرّ شهر.
حينها كانت منطقة السبينة القريبة من المخيم تشهد اشتباكات يومية، وانتهت بسيطرة
«المعارضة» عليها. وفي فوضى الحرب ولد مصطلح «المعس» لدى أهالي المخيم، أي أخذ الغرض
«استعارة» بعلم صاحبه وبرسم الأمانة، فتم «معس» مولدات من معامل السبينة بالإضافة للمازوت،
وتمت إضاءة المخيم من جديد بعد شهر من الظلام.
«اشتراك» المولد يومي أو شهري في كل حارة. الناس هناك تدفع 250 ليرة يومياً
لـتأتيها الكهرباء من السابعة صباحاً وحتى الثانية عشرة ليلاً، وبالإمكان التجديد.
طبعاً ليست كل العائلات هناك قادرة على الدفع، لذلك هناك بيوت لم تر الضوء منذ ما يقارب
السنة، تقضي مساءاتها في ضوء صحن حديد واحد، تضعه في منتصف الدار، وفيه القليل من الزيت
وفتيل منديل مشتعل ليضيء المنزل، عوضاً عن غلاء الشموع وسرعة نفادها.
شادية تدفع شهرياً 15 الف ليرة للكهرباء، في حين كانت الفاتورة ألف ليرة سابقاً،
وتشعر أنها مرتفعة، فتراجع العداد.
تقول شادية: «بعد الحصار اكتشفت أشياء كثيرة عن سوريا، لم أكن أقدّرها، أهمّها
أن سوريا بلد للفقير والغني، الجميع يستطيع العيش هنا، فمنذ 4 سنوات، كنا نحن على مستوى
العائلة، نشتري بـ25 ليرة سورية فلافل وبأخرى مثلها الحُمص، نفطر بها ويزيد لليوم التالي.
اليوم لو أردنا ذلك فسندفع ما فوق الـ400 ليرة سورية، وما زلنا عايشين بحمد الله».
شادية ترفض ترك سوريا، والمخيم تحديداً، حتى لو أتيحت لها فرصة الذهاب لفلسطين.
تقول إنها ستكون «زيارة» وتعود، خاصة في هذه الفترة، فهناك أمور وحاجات غريبة لا تستطيع
وصفها إلا بالسحر. هو سحر غير موجود في أي بلد ولا حتى في موطنها «فلسطين».
المصدر: حكمت الحبّال - السفير