صبحيـة السريـس الآتيـة مـن حيفـا فـي فلسطيـن: أحفادهـا كنـديـون وفـرنسيـون وألمـان وسويـديـون
الأربعاء، 21 آذار، 2012
تركن صبحية شريف السريس إلى كنبتها في منزلها في شارع حمد، وإلى جانبها كومة من الأدوية، تداوي أمراض العمر الذي ناهز الخامسة والثمانين.
تقول إنه لم يبق من الرحلة الطويلة التي قضتها من فلسطين إلى لبنان، سوى انتظار ما تبقى من الشيخوخة. تكاد الرحلة تتسع لحياة عشر نساء، وليس امرأة واحدة، سلكت طريق النزوح الصعب من حيفا حتى شاتيلا، حيث أنجبت بنتا وتسعة صبيان، ذهب كل منهم في طريق أوصلتهم كل إلى بلد، موزعين بين كل من كندا وألمانيا واسبانيا والسويد ودبي، لكي يحملوا، هم ونساؤهم وأولادهم، جنسيات مختلفة.
أحفاد صبحية المولودة في حيفا، ولدوا كل في بلد، بعيدة عن فلسطين.
رحلة الهجرة القسرية
تنتمي صبحية إلى عائلة فلاحين من قضاء جنين، ولكن عائلتها أقامت في حيفا، ثم انتقلت إلى قرية حواسة في جبل الكرمل حيث عمل والدها في الزراعة، ووكيل مخزن للأخشاب. حتى احتلال الجليل في العام 1948. تقول صبحية إن عائلتها تركت القرية بعد ارتكاب مجزرة فيها، وكان عمرها آنذاك خمسة عشر عاما، فحملت العائلة ما استطاعت من الأغراض وانتقلت إلى مجد الكروم في عكا، وأقامت في منزل مستأجر.
كان عدد أفرادها يبلغ في حينها عشرة أشخاص، ثمانية أولاد مع الأب والأم، بقوا في مجد الكروم مدة سنتين، إلى أن حصلت معركة في البلدة، واحتلتها القوات الإسرائيلية.
عندها، طلب الأب من زوجته نقل الأولاد إلى قرية نحف حيث لديه معارف، على أن يحمل هو معه ما يقدر عليه من ملابس، بالإضافة إلى النقود التي يملكها، ويلحق بهم. لكنه في طريقه إليهم، تعرض لكمين مع بقية الأشخاص الذين كان برفقتهم، فقتل الرجال، وطُلب من الأولاد الالتحاق بأهاليهم.
عندما وصلت الأم مع أولادها إلى نحف، وجدت أهلها ينزحون بدورهم، فنزحت معهم. تقول صبحية: كان الناس يسيرون في الجبال كأنهم جيش، ولم نأخذ معنا من أغراضنا سوى بساط صغير حملته أمي لكي تلف فيه شقيقتي الصغرى فاطمة.
ساروا ما يقارب الأسبوع حتى وصلوا إلى بلدة رميش في الجنوب، ناموا خلال رحلتهم على الأرض، وشربوا من مياه الآبار التي وجدوها في الطريق. تقول صبحية: كان الناس يغرفون المياه بأحذيتهم، ويشربون منها، لأنه لا أوعية. أما أمّها فأخذت تقطف نبات الخبيزة من الحقول، وتجمع الحطب، وتسلقها في وعاء يملكه أحد النازحين، ليتناولوها كطعام.
بعد رميش، انتقل النازحون إلى بنت جبيل، وهناك فتح الناس لهم محالهم فأقاموا فيها، وكانوا يأكلون الطعام الذي يقدم لهم، ومعظمه من الخبز.
بعد بنت جبيل، انتقلوا إلى مخيم البص في صور، وقُدمت لهم خيم فرشوها على الأرض البور، وأخذوا ينزعون الأشواك والأعشاب البرية بأيديهم، لكي يستطيعوا النوم.
لما سئلوا إلى أين يريدون الذهاب، طلبوا الانتقال إلى عين الحلوة، حيث قدمت لهم الخيم أيضا، فأقامت صبحية مع أمها وإخوتها في إحداها، وأخذ أشقاؤها يعملون في البساتين القريبة من المخيم، ويتقاضون قروشا قليلة يشترون فيها طعامهم. في عين الحلوة، تعرفت إلى محمد حسين سريس، بناء لمعرفة سابقة بين عائلتيهما، فخطبها وتزوجها، وانتقلت معه إلى مخيم شاتيلا في بيروت حيث تزوجت أيضا في خيمة، لم يكن فيها سوى طراحة مصنوعة من القش، استعاروها من معارف لهما.
شاتيلا ومجازرها
بدأ زوجها يعمل في فرن خبز صغير في المخيم، ويتقاضى يوميا نصف ليرة، مع أربعة أرغفة خبز، فأخذت صبحية تبيع كل يوم رغيفي خبز بربع ليرة، تضيفها إلى دخل زوجها لتأمين مصاريف المنزل من طعام وكاز وزيت وغيرها.
وعندما قرر صاحب أحد الأفران في شاتيلا بيع فرنه، باعت صبحية إسوارتي ذهب اشترتهما لها أمها عندما كانت في فلسطين، فاشترى زوجها الفرن، بالشراكة مع ابن عمه وزوج شقيقته. وتولت صبحية مع شقيقة زوجها تحضير العجين في الفرن ليلا، ثم نقل المياه إلى منزليهما في السادسة صباحا.
حملت صبحية بابنتها البكر آمنة، ثم أخذت تكر سبحة الأولاد، حتى أنجبت تسعة صبيان وابنة. كانت ولادتها صعبة، لكنها كلما اشتكت لزوجها تعب الولادة كان يجيبها: هؤلاء أولادي وإخوتي وأهلي، (توفي والداه وهو صغير)، أريد أن يكون عددهم كبيرا.
أنجبت آمنة وحسين وأحمد ومحمود ويحيى وعمر وحسن وجمال وابراهيم وناصر، ولد أربعة منهم في الخيمة، قبل أن يبدأ سكان المخيم ببناء غرف، جدرانها من الإسمنت وسقوفها من الأترنيت.
تروي صبحية أنها كانت تحمل وعاء الغسيل على رأسها إلى المدينة الرياضية وتملأه بالحجارة الصغيرة من أجل تكسيرها وتبليط أرض الغرفة.
ومع ازدياد عدد الأبناء، بدأت مسؤوليات صبحية العائلية تزيد، فصارت تنقل عشر أو اثنتي عشرة نقلة مياه على رأسها يوميا، من الأماكن التي تجد فيها مياهاً: من البساتين، أو اسطبلات الخيل أو الآبار. كانت تطهو ثمانية كيلوغراما من الكوسى في الوجبة الواحدة كي تشبع الأسرة.
بقيت في شاتيلا حتى وقوع حرب المخيمات في العام 1985. حينها، قررت مع زوجها استئجار منزل خارج المخيم خوفا على أولادهما، فانتقلت إلى المنزل الذي تقيم فيها حاليا. كان صاحبه يريد بيعه، لا تأجيره، بسعر ثلاثمئة ألف ليرة. عندما أخبرته عن نزوحهم من المخيم، خفض السعر إلى مئتين وخمسة وعشرين ألف ليرة، فطلبت من ابنها حسين، الذي كان يعمل في دبي، الحصول على قرض بقيمة مئتي ألف ليرة، أضافت إليها مبلغ خمسة وعشرين ألف ليرة كانت تدخره، وسجلت المنزل باسم حسين، لكنها أقامت فيه مع أولادها وزوجها حتى وفاته في العام 1998.
في جهات الأرض الأربع
درس أولادها في مدارس الأونروا، وصلت آمنة إلى صف البكالوريا، ثم تزوجت وهاجرت مع زوجها إلى كندا. درس حسين التجارة والمحاسبة في المعهد المهني التابع للأونروا في سبلين، وهاجر أحمد إلى ألمانيا بعد تقديم طلب لجوء، فيما أنهى محمود صف البريفيه وسافر إلى أبو ظبي، ومنها إلى السويد.
تعلم يحيى في اسبانيا برمجة الكومبيوتر، لكنه عاد إلى بيروت، ولم يجد عملا في اختصاصه، فأقام مكتبا في مخيم شاتيلا لحملات الحج والعمرة. وتخصص عمر في فرنسا في هندسة الإلكترونيك، ثم انتقل للعمل في دبي، بينما أنهى حسن بدوره صف البريفيه، وعمل في مجال المقاولات، ثم سافر إلى السويد، وافتتح محلا لبيع الحلويات، يعمل فيه مع شقيقه محمود.
أما جمال فقد استشهد خلال مجزرة صبرا وشاتيلا، وكان في الثامنة عشرة من عمره. كان جمال يعمل مع الهلال الأحمر الفلسطيني، وقد أصيب بإطلاق النار عندما كان يسعف امرأة جريحة.
من جهته، تخصص ابراهيم في اليونان قبطاناً بحرياً، ثم انتقل إلى السويد وعاد للعمل في دبي. وخطف تامر الصغير خلال حرب المخيمات في العام 1985 وكان عمره سبعة عشر عاما، فأصبح في سجل المخطوفين.
يحمل أفراد العائلة الجنسيات الكندية والفرنسية والألمانية والسويدية، ويتحدثون لغات البلدان التي هاجروا إليها، ويقول أحد الأبناء إن أولاد أشقائه يعرفون أن بلدهم هي فلسطين، ولكن من بعيد.
يلتقي الأحفاد موسمياً في منزل الجدة في بيروت. ربما منهم من لم يتعرّف للآخر، والمؤكد أن يوميات كل منهم تجري بعيدا عن كل الآخرين.
فلسطين وحدها تجمعهم. فهل تندر ذكراها مع جيل رابع آت كل في جهة من جهات الأرض؟
المصدر: زينب ياغي - السفير