صبرا وشاتيلا: مجزرة لا تزال صرخاتها مدوّية
الثلاثاء، 16 أيلول، 2014
مخيّم صبرا وشاتيلا: عليك بعبور مساحة مليئة بالخُردة والإطارات، يُرافقك ضجيج
الأصوات. هو مخيم دائم للاجئين الفلسطينيين، أسسته الأمم المتحدة عام 1949 بهدف إيواء
المئات من
اللاجئين الذين تدفقوا إليه من قرى أمكا ومجد الكروم والياجور شمال فلسطين بعد
نكبة 1948
داخل دهاليز المخيم، تنشط حركة العمران. تتّسع شوارع المخيم لمرور شخصٍ أو شخصين
سيراً على الأقدام، نتفادى الحجارة المتناثرة هنا وهناك خلال تكسير العُمّال للجدران.
على جدرانٍ أخرى صورٌ لأعضاء كانوا في الجبهة الشعبية، للرئيس الراحل ياسر عرفات، مُلصقات
رمضانية منسيّة، زخرفاتٌ طفولية ملوّنة وأسماء عُشّاقٍ لم يمحُها المطر بعد. عام
1982، يوم 16 سبتمبر/ أيلول، تحوّلت المنطقة لأكثر من مجرّد مخيّم، وباتت ساحة لأحداثٍ
دامية لم تزل آلامها حاضرة في ذاكرة العشرات.
يبتسم أحمد الدوالي، خلال حديثه عمّا شهده في المخيم يومذاك. لا تفارق القنابل
المضيئة ذاكرته. كان يبلغ السادسة عشر من العمر. خلال شربه الشاي على سطح منزلٍ في
محيط المخيم، هرعت أخت صديقه لتنذرهم بقدوم الاسرائيليين الى المنطقة. وجودهما على
الطابق الخامس سهّل لهما مراقبة الدبابات الاسرائيلية خلال توجهها من طريق المطار والمدينة
الرياضة الى منطقة محطّة الرحاب، فسارعوا الى داخل المخيم للاستفهام عمّا يحصل:
"بتذكّر منيح يوم دُقّ الباب ليخبرنا شابٌ عن مجزرةٍ عم تصير بالطرف الآخر من
المخيم. كنت بمنزل صديقي. والدته لم تُصدق الخبر وأكدت استحالة صحته، إلى أن فتحنا
الباب وألقينا نظرة الى الخارج.. راقبنا حالة هلعٍ عمّت المخيم. أمهاتٌ وأطفال، وكان
صدى الرصاص يقترب شوي شوي". يُقاطعه زياد همّو، الأمين العام للجنة الشعبية في
المخيم، قائلاً: "أحمد هرب بالغلط". يوافقه أحمد، الذي يعتبر نفسه محظوظاً
بنجاته: "فعلاً بالغلط.. يومها هرعتُ مع صديقي ووالدته باتجاه جامع عبد الناصر
في كورنيش المزرعة، هكذا نجونا". لم تكن حركة المخيم طبيعية، تجمع عشرات الاشخاص
في محيط مكتب الجبهة الشعبية في حالة استنفار وخوف وترقّب.
يروي أبو ماهر، الذي كان يبلغ من العمر 40 سنة يومها، عن توجه دبابات من طريق
المطار باتجاه محطة الرحاب في محاولةٍ لمحاصرة المخيم، قُبيل حصول المجزرة: "هرعتُ
إلى المخيم عصراً فور توارد أنباء عن محاولات لاقتحامه، وحينما تأكدنا من صحة الأخبار،
سارعنا لإخراج النساء والأطفال من المدخلين الشمالي والشرقي. لم يتوقفوا عن إلقاء القنابل
المضيئة على مدى يومين. عقب تلك الليلة، وصل صديق إلى مكان إقامتنا المؤقتة، وبدت على
وجهه علامات الخوف. حاول أن يصِف لنا هول ما سمعه من أصوات استغاثةٍ وصرخات مذعورة،
ولكن دموعه خانته: عم يقتلونا.. عم يقتلونا.. سألته عمّن يقتلهم ليجيب: ما بعرف.. ما
منعرف!". حاول أبو ماهر الدفاع عمّن تبقى في المخيم، ولكن انسحاب الفصائل الفلسطينية،
قبل أسابيع، ترك الشبان دون قيادةٍ ولا أسلحةٍ تُذكر، فاستعانوا بأسلحتهم الفردية في
محاولةٍ للدفاع عن النفس.
اليوم الثالث لم يختلف عن اليومين الاول والثاني، استمرت القنابل المضيئة وأصوات
النيران، لتتعالى بعدها بساعات أصواتٌ من مكبرات الصوت منادية: "سلّم نفسك تسلم".
وبعد ساعات، استطاع أبو ماهر الوصول إلى الجهة المنكوبة من المخيم: "لم أصدق ما
رأيته يومها في الحرج الممتد في منطقة صبرا.. كانت الجثث تملأ المكان.. توقفت عن التفكير
لبُرهةٍ من الزمن. جثثٌ من الزواريب إلى مداخل البيوت، رجالٌ ذُبحوا وأطفالٌ قُتلوا
في أحضان أمهاتهم، عجزةٌ حاولوا الهرب لكن الرصاص كان أسرع من قُدرتهم على الجري".
تدمع عينا أبو ماهر لوهلة، ثم يعود ويستجمع قوته لرواية المزيد: "استُعْمِلت السكاكين
والفؤوس والبلطات". مَن استطاع سبيلاً إلى الهرب هرب عبر مقبرة الشهداء، شرقاً،
أو طريق الجديدة، شمالاً.. أما داخل صبرا والرحاب والحرج الممتد.. فقد اختبأت عشرات
العائلات".
المشهد المؤلم الذي حاول أبو ماهر جاهداً وصفه، لم تستطع ذاكرة أبو أحمد الصالحاني
نسيانه، هو الذي يكاد يبلغ التسعين من عمره: "ذاكرتي باتت تخونني في مناسباتٍ
عديدة، ولكن واقعة صبرا وشاتيلا ستُلازمني حتى مماتي"، يروي أبو أحمد. نظرات الحقد
والألم لا تفارق عينيه، وفوق خزانة الملابس الموجودة في غرفة نومه، يحتفظ العجوز ببلطةٍ
وجدها في أيلول 1982: "هذه البلطة شاهدةٌ على ما حصل وما ارتكبه السفاح في مخيمنا".
يُعتبر أبو أحمد من الناجين المحظوظين، هو الذي لم يحمل هويته معه في ذلك اليوم،
ترجّل من سيارة الاجرة التي كان يستقلها قرب مكب للنفايات، واستخدم زواريب المخيم للوصول
إلى منزله حيث سمع الناس تتداول أخباراً عن مشاكل قد تمتد إلى المخيم. اختفت سيارة
الأجرة بمَن فيها، ولم يعرف أبو أحمد ما كان مصير ركابها وسائقها حتى اليوم:
"احتفظت بالبلطة كما أحتفظ بأوراق منزلي في فلسطين، تُوازي أهميتها أهميتهم..
أعتقد أنها دليلٌ قاطع على ما حصل في 16 أيلول 1982". فقدت شقيقة أبو أحمد زوجها
في المجزرة، وتمكنت القوات الاسرائيلية من اقتحام مستشفى غزة، حيث ذبحت العديد من الناس.
الملاجئ الصغيرة المعدّة مسبقاً لحماية العائلات من القصف العشوائي، استُخدمت يومها
لحمايتهم من الجزارين المتنقلين بين المنازل.
تحدثت تقارير التوثيق عن ذبحٍ وتنكيلٍ وعمليات اغتصاب حصلت، لكن وحده مَن كان
موجوداً يستطيع نقل هول الفاجعة. يقول أبو ماهر، متفادياً غصّة خانقة: "خلال تجوالي
السريع في المخيم في محاولةٍ لإخراج مَن تبقّى من عائلات، وجدت سيدةً في الثمانين من
عمرها تجلس على كرسي من قشّ في وسط الطريق، فسارعت لسؤالها: حجة ماذا تفعلين هنا ألم
تعرفي ما يحصل؟؟ فأجابت مبتسمة: خير يا ابني، شو في؟ لم أستطع إخبارها.. لعلّها أفضل
حالاً دون أن تدري". بعد مقتل ما يُقارب الألف مدني في مجزرة تُعدّ الأقسى والأكثر
دموية في التاريخ.
أُقيم نُصبٌ تذكاريّ بين صبرا وشاتيلا تخليداً لذكرى أحبّاء فُقدوا يومها، فيما
لا يزال المخيم على حاله: لا تزيد مساحته عن كيلومتر مربع، ويسكنه أكثر من 12000 لاجئ،
فيه مدرستان ومركز طبي واحد. مساكنه الرطبة المتهالكة تحتوي على قنوات تصريف مفتوحة،
تُغرق شوارعه بمياه الأمطار الموحلة الملوّثة شتاءً.
"تتالت النكبات علينا نحن الفلسطينين: منذ الـ48 والـ49 للـ67، للحرب اللبنانية
واجتياح 78 والـ82 وحروب المخيمات، الى العدوان الاخير على غزة الذي دمر ما تبقى. لا
ننسى الويلات طبعاً، ولكن من المهم أن نستمر ونُتابع"، يقول أبو ماهر: "لا
مجال للتراجع".
ودّعنا أبو ماهر. هرع إلى داخل المخيم مجدداً، ولكن لأداء صلاة الجمعة هذه المرة..
المصدر: لونا صفوان – العربي الجديد