في ذكراها السادسة و الستين
عجائز عايشوا النكبة: لا بديل عن حق
العودة.. و الأمل في تحقُّقها لم يمت
استطلاع- فاطمة أبو حية
"أيام البلاد" و"ريحة
البلاد" ودعوات "يا رب نرجع للبلاد"، عبارات لا تفارق ألسنة كبار
السن الذين عايشوا النكبة وعاشوا "حياة البلاد"، ولا تكاد جلسة مع أحدهم
تخلو من استرجاع الذكريات عنها، كل يتحدث عن قريته وأرضه، وربما عن مدرسته،
يتحدثون عن حنينهم إلى البلدة وأمنياتهم بالعودة، وليس منهم من يفكر بالتفريط أو
يقبل بالبديل، ورغم مرور عقود على النكبة فهم لا يزالون يتحدثون عن أمل كبير بأن
يعودوا قريباً..
في الذكرى السادسة والستين للنكبة..
"فلسطين" توجهت إلى عدد من كبار السن الذين شهدوا الهجرة عام 1948 ،
لتسألهم عن تمسكهم بحق العودة وإصرارهم عليه.. الإجابات دارت حول فكرة واحدة، وهي
أن لا بديل عن الأرض أيا كان المقابل، وقد بدا من أحاديثهم جميعاً أن الكبار
يزرعون في الصغار حب الوطن والتمسك بالعودة بخلاف مقولة "الكبار يموتون
والصغار ينسون..
ثائر مهاجر
الحاج أبو إسماعيل البحيصي خرج من
"السوافير الشرقية" وهو في التاسعة عشرة من عمره، وقد كان ثائراً دافع
مع المقاومين عن بلدته حتى الرمق الأخير، ما زال يتذكر كل التفاصيل التي عاشها
هناك، وحنينه دوماً إلى بيته في "البلاد" وما يحيطه من "بيارات"،
يحدِّث أبناءه وأحفاده عن كل ما في بلدتهم التي لم يروها، يحثّهم على التمسك بها
مهما كان الثمن، أما هو فيقول إنه مصمم على العودة إليها ويرى أن استرجاع الأراضي
المسلوبة واجب مهما كان الثمن وأيا كانت الطريقة لتحقيق ذلك.
و لأنه كان ثائراً، فهو "مرتاح
الضمير"، يؤكد أنه لم يترك البلاد ولم يفكر يوماً في التنازل عنها، فهو لم
يغادرها إلا بعد أن استحال البقاء فيها، إذ فرضت قوات الاحتلال الحصار على
المقاومين تاركة لهم منفذاً وحيداً للخروج، فكان الخروج الخيار الوحيد أمامهم بعد
أن نفدت ذخيرة "العشرين بارودة" التي لم يكن معهم سواها في مقابل دبابات
الاحتلال وأسلحته الثقيلة.
"كراتية" كانت المحطة
الأولى للمهاجرين من "السوافير الشرقية"، وهناك التحق البحيصي بقوات
الجيش المصري التي كانت متمركزة في البلدة، ولما كان مصير "كراتية"
مماثلاً تماماً لقريته، هاجر مع أهلها إلى المجدل التي استقر فيها حتى دمّرها
طيران الاحتلال فانسحب الجيش المصري وخرجت معه جموع الفلسطينيين من المجدل إلى
قطاع غزة.
وبعد كل هذه المحاولات للبقاء في
بلدته الأصلية أو بالقرب منها على الأقل، لم يكن أمام البحيصي إلا الاستقرار في
قطاع غزة، ورغم مرور كل هذه السنوات واستقراره وعائلته هنا، إلا أنه ينتظر اللحظة
التي يُؤذن فيها بالعودة فيعود بلا تردد، فقريته هي "أفضل البلاد على
الإطلاق" كما يراها"، ولا يقبل عنها بديلاً أو تعويضاً تحت أي ظرف من
الظروف.
كالأبوين..
هي بالنسبة له في مقام الأب والأم،
لا يعقّهما ولا ينكر حبهما إلا جاهل، وكذلك فلسطين وأراضيها المسلوبة لا يتخلى
عنها إلا جاهل لا يدرك قيمتها أو خائن، الحاج أبو حسين صيام يقول: "لا نقبل
بالتعويضات ولا بكل أموال الدنيا، لو أعطوني أجمل الأماكن في العالم لن أرضى بها،
بلدتي التي هاجرت منها هي الأفضل والأجمل، ولست أميل إلى أي أرض غيرها".
يضيف أبو حسين أن لا شيء يغني عن
الوطن، خاصة أنه يضم أرضا مقدسة، وأن حبة رمل واحدة من "الجورة" التي
هاجر منها تساوي الدنيا وما فيها، لذا فهو متمسك بها وما يزال على أمل بأن يعود،
وإن لم تُكتب له العودة، فآخر أمنياته أن يُدفن فيها ليُبعث منها يوم القيامة..
هذا ما يتنماه.
صغر سنه عندما خرج من
"الجورة" يحول دون أن يمتلك الكثير من الذكريات عنها، لكنه كان دائم
الاستماع إلى أحاديث من عاشوا فيها عمرا أطول حتى تعرف عليها أكثر من خلالهم، إلى
أن عمل في الداخل المحتل لمدة أربع سنوات، فكان يمر ببلدته يومياً في طريق ذهابه
وإيابه، وعندها كانت السعادة برؤية "البلاد" تختلط بالحسرة لعدم القدرة
على البقاء فيها، فكان ذلك مما زاده تعلقاً بقريته.
مقدسٌ وثابت
الحاج حسن صرصور من قرية جسير يتحدث
عن رأيه في حق العودة وتمسكه به في عبارات واضحة محددة، إذ يقول: "حق العودة
هو حق مقدس، ثابت، جماعي وفردي، ولا يجوز لأي شخص أيا كان أن يفاوض عليه أو يساوم
أو يقايض ليأتي لنا ببديل عن حقّنا".
ويضيف: "حق العودة هو أساس
القضية الفلسطينية وهو المحور الأهم فيها، فكل لاجئ مكفول له حق العودة ويجب أن
يُعوض عن معاناته"، معتبراً أن من يؤمن بغير ذلك ومن يستعد للتنازل عن حق
العودة أو يرضى بأي بديل عنها هو "إما أنه غير فلسطيني أو غير مخلص
لوطنه".
يتساءل صرصور: "لقد رأيت قوات
الاحتلال بعيني عندما هاجموا بلدتي واحتلوا أرضي، لم يسلمها الفلسطينيون لهم
بإرادتهم ولم يتنازلوا عنها، وإنما هُجروا منها قسرا.. فكيف يطالبونني بالتخلي
عنها والقبول بغيرها؟!"، أضف إلى ذلك أنه يرى أن "جسير" في نفس
مكانة القدس من حيث ضرورة التمسك بها واستحالة التنازل عنها، وذلك لأنها أرضه
وملكه ووطنه، ولا يمكن المساومة على أي من هذه الأمور.
ويؤكد أن التعويضات مطلوبة ومن
الواجب تقديمها للاجئين، لكن هذا لا يعني أن تكون بديلا عن العودة ومدعاة للتنازل
عن الارض، وإنما هي تأتي للتعويض عن سنوات المعاناة للفلسطينيين الذين هاجروا من
الأراضي المحتلة ولأبنائهم وأحفادهم وكل ذريتهم ممن وُلدوا بعد النكبة، ولكنها
ليست بديلا بأي حال من الأحوال.
بعد كل هذه السنوات من الابتعاد عن
القرية التي خرج منها وهو في الخامسة عشرة من عمره، ما يزال صرصور مصمماً على
العودة، وأمله بأن يتحقق ذلك كبير، بل هو واثق أن العودة ستتحقق ولو بعد حين، فهو
ما يزال يتذكر كل تفاصيل الحياة في "جسير"، يذكر شوارعها وبيوتها،
ودراسته فيها.
خرج قبل موعد الحرث..
أبو مروان أبو ندى تمنى أن يحرث أرض
والده، ولطالما رجاه بأن يعلمه الحرث، لكن الأب كان ينظر إلى مستقبل ابنه من زاوية
مختلفة، لم يشأ له أن يعيش حياته إلى آخرها في "البيارة"، فأرسله إلى
المدرسة، وكان كلما طلب منه أن يعلمه الحرث يرد عليه بإجابة واحدة ثابتة في كل
مرة: "اهتم بمدرستك ودراستك، والحرث ستتعلمه عندما تكبر".
كبر الطفل لكنه لم يتعلم الحرث في
"بيارات البلاد"، خرج من هناك حاملاً كتبه ودفاتره فقط، فقد ظن أنه عائد
إلى مدرسته ذاتها قريبا، إلا أن الواقع كان غير ذلك، تخلّف عن مواصلة الدراسة لسنة
تقريباً بسبب الهجرة والتنقل من محافظة إلى أخرى في قطاع غزة، ثم استأنفها مجدداً
إلى أن انتقل للدراسة الجامعية في مصر وعاد منها يحمل شهادة في اللغة العربية وعمل
في سلك التعليم.
خرج أبو مروان من قرية
"دمرة" قبل أن يتم الخامسة عشرة من عمره، وها قد مرّ على خروجه نحو 66
عاماً، ومع ذلك لم ينس أن هناك أرضاً مسلوبة ينبغي الدفاع عنها حتى استردادها.
هو حريص على أن ينقل هذه الفكرة إلى
كل من يحيط به، ولم يفقد الأمل في العودة مطلقاً، ولكنه يقول بكل إصرار:
"البلاد هي أغلى من أي مكان آخر، وأنا مستعد أن أترك الأرض التي أعيش فيها
منذ النكبة والتي وُلد فيها أبنائي وتربوا فيها على الفور إذا ما علمت أن العودة
إلى دمرة ممكنة، وأنا جاهز للانطلاق إليها الآن".
ويضيف: "هل يمكن أن يبيع إنسانٌ
وطنه؟! بالتأكيد لا، فلا مكان لنا سوى قرانا وبلداتنا، وبالنسبة لي فإن حق العودة
حق مقدس غير قابل للنقاش أو التفاوض، لا تنازل عنه ولا بديل عن حق العودة".
خارطة بنكهة الحنين
فكرة التعويضات تبدو غير قابلة
للنقاش لدى كبار السن الذين حاورناهم، و لا يوجد من الخيارات المطروحة ما يقنع
الفلسطينيين ليقبلوا به بديلاً عن العودة، الحاج محمد المغاري يبدأ حديثه مع
"فلسطين" بالقول: "من ينسى وطنه وأرضه وعرضه ودينه ؟، من المستحيل
أن يتخلى إنسان عن أرضه بهذه السهولة".
المغاري خرج من "كراتية"
وهو في العاشرة من عمره، ومع صغر سنه آنذاك، فهو يؤكد أنه يتذكر كل تفاصيل الحياة
هناك، و كل ما يدور فيها، ويحن إلى هذه الذكريات ويتمنى لو أن العودة تكون في أقرب
وقت، فيسارع إلى مسقط رأسه دون تردد.
حنينه إلى بلدته توافق مع دراسته
الجامعية "مواد اجتماعية"، فشكّلا معا قوة دفعته إلى رسم خارطة
لـ"كراتية" بيده، يبين فيها كافة التفاصيل، طبع منها نسخاً عديدة ووزعها
على من يعرف من أهل القرية، لتكون دليلاً لهم ليتعرفوا من خلالها على بلدتهم، خاصة
الذين لم يعرفوها من قبل، وكذلك لتكون عنصراً جديداً يُضاف إلى مسببات التمسك
بالعودة إليها.
ويقول المغاري عن الخارطة: "قبل
أن أنتهي من رسمها، وجدت أن كل من عرف بأني أعكف على إنجازها متشوق لرؤيتها، وقد
كان الصغار أكثر تشوقاً لها، لرغبتهم بالتعرف عليها إذ لم يروها من قبل، وبعد
توزيعها عليهم كانت مصدر سعادة لهم إذ شعروا أنها أعادتهم إلى البلاد".
"شعب قضاء عكا" وليس
سواها
ومن لبنان، هاتفت "فلسطين"
السيدة سعاد الحميد، صوتها يحمل أملاً كبيراً بأن تعود، وإن لم تكن هي، فأبناؤها
أو أحفادها أو أي من سلالتها حتى وإن طال الزمن، لكن المهم أن العودة ستتحقق
حتماً، فهي تؤمن تمام الإيمان بذلك.
جذور الحميد تعود إلى "شعب قضاء
عكا"، خرجت منها مع أسرتها إلى قرية "سحماتة" حيث تقطن عائلة أمها،
إلا أن قصفاً من طائرات الاحتلال سلب أرواحاً كثيرة، فقضى والدها وجدتها لأمها،
فيما أصيب عدد من أفراد العائلة، أمها رافقت المصابين إلى المشفى، أما هي، ذات
السنوات الخمس، فقد وجدت نفسها في مخيم "برج الشمالي" في لبنان بمعية
زوجة أبيها.
زارت السيدة الحميد فلسطين مرتين
اثنتين خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، فكانت هاتان الزيارتان اللتان طال
مجموعهما عن خمسة أشهر فرصة لها لتتعرف أكثر على وطنها، حتى أنها بعد الزيارة
الثانية عاتبها أبناؤها بالقول: "ذهبتِ إلى فلسطين ونسيتينا نحن
أولادك!"، فكانت إجابتها: "اللي بيشوف البلاد بينسى كل شي".
المصدر: فلسطين أون لاين