القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

تقارير إخبارية

فلسطينيو سورية ... من «نكبات» الشتات إلى لعنة «اللجوء» ... الحكاية تتواصل منذ أن «ضاعت» فلسطين

المئات يهربون من مخيمات دمشق إلى المخيمات اللبنانية

فلسطينيو سورية ... من «نكبات» الشتات إلى لعنة «اللجوء» ... الحكاية تتواصل منذ أن «ضاعت» فلسطين


الجمعة، 14 أيلول، 2012

أكثر من 789 عائلة فلسطينية نزحت في الأسابيع الأخيرة من مخيمات سورية في اتجاه لبنان. هي «لعنة» اللجوء «الذي يسلّم لجوءاً» تلاحقهم من بلد الى آخر منذ ان «ضاعت» فلسطين. وهي «النكبات» المتوالية التي تنقلهم الى مخيمات «متوالدة».

ما يقارب 2700 شخص تم تسجيل دخولهم وتوزعهم على المخيمات اللبنانية على الشكل الآتي: في مخيمات بيروت تقيم 160 عائلة بين مخيمات شاتيلا، البرج، وصبرا. وفي صيدا رُصد دخول 212 عائلة على مخيمات عين الحلوة، اقليم الخروب، والمية ومية. أما في طرابلس فسجل لجوء 172 عائلة، وفي مخيمات صور 104، فيما تعيش 186 عائلة فلسطينية في مخيمات البقاع.

وتشير الأرقام الصادرة عن مسؤولين رسميين في المنظمات الفلسطينية الى وجود عدد من العائلات الميسورة أو من الطبقة المتوسطة استأجروا بيوتاً او نزلوا للإقامة عند أقارب لهم ولم تسجل أرقامهم في عداد النازحين الفلسطينيين الى المخيمات.

«الراي» جالت على بعض العائلات في مخيم شاتيلا وأطلّت من خلالهم على أوضاع النازحين ومصائرهم المعلقة.

يرفع «أبو محمد» الصوت شاكياً ممارسات الأمن العام اللبناني «التعسفية» تجاه الفلسطينيين النازحين من سورية الى لبنان: «يمنحوننا إقامة سياحية لمدة سبعة أيام علينا فور انتهائها المغادرة والا فإننا سنضطر الى دفع غرامات مالية لا تقل عن خمسين دولاراً عن الشخص الواحد»، كاشفاً ان عقوبة البقاء في لبنان قد تصل الى حد سجن الفلسطيني لمدة زمنية قبل ترحيله الى سورية.

«... نحن لسنا سياحاً. تركنا بيوتنا وأرزاقنا هرباً من الموت. أيعقل ان نهرب من الموت الى السجن» يقول أبو محمد الذي لا يغادر الغرفة التي يقيم فيها مع عائلته في مخيم شاتيلا. يخشى أن يوقفه حاجز أمني ويسأل عن أوراقه ويتبين أنه تجاوز الفترة الزمنية المسموح له فيها البقاء في لبنان. «نحن مخالفون للقوانين اللبنانية اليوم... ونحن أسرى مخالفاتنا هذه».

هرب «أبو محمد» من مخيم اليرموك في سورية مع زوجته وابنه وزوجة الاخير وأولادهما الستة. يقيمون في غرفة يصل إيجارها الشهري الى 200 دولار في الشهر الأول دفع المبلغ أحد أقاربه، وباتت متوجبات الشهر الثاني ديناً في عنق أبو محمد. «كنا نعمل في سورية ولدينا أرزاق وبيوت. اليوم ندفع ثمن حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل».

ولدى سؤاله عن أي حرب يتحدث؟ يقول بسخرية واضحة: «الحرب بين اسرائيل والعرب.. الدول العربية تقاتل من أجل تحرير الجولان المحتل..» يضحك وألم الغربة في عينيه يفضح حاله.

يروي حكايات عن «الحرب» التي يقول إن فلسطينيي مخيم اليرموك باتوا الحلقة الأضعف فيها «فالمخيم أصبح محاصراً من جميع جهاته بالجيش السوري والجيش السوري الحر.. يتقاتلون فوق رؤوسنا. دُمر أكثر من ربع المخيم بسبب القذائف والطائرات الحربية التي تقصف في شكل عشوائي ما اضطر غالبية المقيمين في المخيم، وهم فلسطينيون، الى الهرب. منهم من بقي داخل سورية ومنهم من لجأ الى لبنان كحالنا».

أبو محمد الذي وُلد العام 1950 يختبر اللجوء للمرة الأولى. ولد وترعرع في دمشق. أسس حياته هناك وبات يملك متجراً لبيع المفروشات. اليوم لا يعلم شيئاً عن ممتلكاته. لا يعرف حتى اذا كان بإمكانه العودة الى المنزل الذي أسس تحت سقفه عائلته الصغيرة: «لم نحمل إلا هوياتنا والقليل من الامتعة وهربنا تحت القصف». ولا يتوانى عن التعبير عن «خشيته» من وسائل الاعلام حتى لا يظهر في التقارير ويراها رجال الأمن في سورية «قد يظنون أننا ندعم المعارضة فيعتقلوننا ويقتلوننا من دون حتى التحقيق معنا. لم يعد هناك دولة ومؤسسات في سورية.. الموت هو الدولة.

ابنه الذي يتحدث بكثير من الحدة يرفض الظهور في الصور ولا يقبل بالتعريف عن نفسه. هو أب لستة أولاد أكبرهم في السابعة عشرة من عمره. يتحدث عن فلسطين، الوطن المسروق، بحرقة. الغريب أنه يخاف الجيش السوري أكثر من العدو الاسرائيلي. ويقول «إن جيش العدو الاسرائيلي لن يستطيع الإمساك بي، لكننا سنعود حتماً الى سورية، ورجال الأمن هناك، إذا علموا أننا تحدثنا الى الإعلام فلن يرحمونا. ولكن قبل عودتنا، هناك أقارب لنا في سورية قد يعمد الجيش السوري الى اعتقالهم وتعذيبهم عقاباً على ظهورنا وحديثنا عن الاوضاع هناك».

تتدخل زوجته، السورية، لتبرر بأن الجيش السوري الحر هو من أفسد الحياة في بلادها، «كان الشعب الفلسطيني يعيش تماماً كما السوري، يحظى بكل شيء، ولم تلحق يوماً بحق الفلسطينيين ممارسات عنصرية. كنا شعباً واحداً بالفعل».

تدافع بشدة عن النظام السوري، لكنها ترفض الظهور على الكاميرا. وتقول إنهم كانوا، قبل اندلاع الثورة، يعيشون بهناء «نعمل ونأكل ونشرب.. بالاضافة الى التأمينات الطبية والتعليمية...». وعندما نسألها عن الحرية تقول: «اي حرية؟ هل شتم الرئيس السوري هي الحرية؟ أم حمل السلاح وترويع الناس وقتلهم هو الحرية؟».

تقف خلف ستار يفصل بين المطبخ والغرفة، مرتدية ثوب الصلاة، وتنهال بالعبارات اللاذعة على ممارسات الأمن العام اللبناني، عليّ تأمين مبلغ 350 دولاراً قبل خروجي من لبنان لدفع ضريبة بقاء زوجي وأولادي، الهاربين من الموت، إليه».

يصل أبو نضال لتوه الى المنزل حيث يقيم لدى قريبه. خرج لساعات يبحث عن عمل يؤمن له ولعائلته مصروف إقامتهم.. غير المحددة الأمد. تنفرج أساريره حين يعلم بوجود وسيلة إعلامية. يعتقد أن بإمكان هذه المؤسسات تقديم مساعدة ما. هو لا يطلب خبزاً ولا ماء. يطلب فقط غرفة يقيم فيها مع زوجته وبناته الصبايا.

منذ نحو شهر يقيم أبو نضال عند أحد أقاربه في منزل واحد. لكن الحياة مرّة هناك، ليس لشيء في ما يقدمه القريب وإنما لخصوصية يفتقدها وعائلته، «إذا رغبت بدخول الحمام أحسب مئة حساب.. أتردد ألف مرة قبل أن أشرب ماء إن عطشت.. مهما كان القريب كريماً ومضيافاً، لكن الإقامة عند الغرباء، وإن كانوا أقارب، صعبة، خصوصاً حين يصبح موعد المغادرة مجهولاً».

يتحدث أبو نضال عن كرامة إنسانية انتُهكت لسبب لا دخل لهم فيه، «ننام أنا وزوجتي وبناتي في غرفة واحدة. لا نعرف نوماً هانئاً منذ لجوئنا. نصحو صباحاً وقد أغرقنا عرق أجسادنا الذي يتصبب في ظل طقس حار، وغياب المكيفات. نخجل أن نطلب من صاحب المنزل مروحة هواء تخفف من عرقنا، ولا نملك مالاً لنشتري واحدة».

هُجّر أبو نضال ثلاث مرات في حياته. وُلد في فلسطين ومنها انتقل الى سورية قبل أن يقيم في لبنان. في بيروت بدأ أبو نضال بتأسيس حياته. بنى بيتاً صغيراً متواضعاً. في شبابه كان يقاتل مع منظمة التحرير. دُمّر منزله عام 1984. تركه ولجأ الى سورية حيث اشترى منزلاً جديداً بعد قرار نهائي بالاقامة في دمشق. البيت الأخير دُمّر أيضاً في المعارك الأخيرة. تركه ولجأ الى لبنان من دون أن يعلم وجهة إقامته التالية.

بحسرة من ضاع عمره هباء في معارك وحروب لا تنتهي يقول أبو نضال: «كل 10 أو 15 عاماً أبني نفسي.. وأجدني فجأة على الأرض، لا أملك شيئاً. اليوم تجاوزت الستين عاماً من عمري.. متى سأتمكن من بناء نفسي من جديد؟!».

لا يرغب أبو نضال بالبقاء في لبنان، «فالحياة باهظة هنا، والفقراء يموتون من الجوع في بلادكم» يقول لنا، «نحن نحيا هذه الأيام من قلة الموت. لا فرق عندنا ماذا نأكل. يمكنني وعائلتي أن نعيش على الخبز الحاف.. لكننا نرغب بالعيش بكرامة.. مأساة الحياة جعلتنا نشعر أن العيش في ظل الحرب في دمشق أفضل من أمن وهمي في لبنان...».

يستعيد أبو نضال موقفه وأقرانه الفلسطينيين في سورية إزاء النازحين اللبنانيين خلال عدوان يوليو2006. ويقول «إن المخيم غص بالعائلات اللبنانية، كنا نعطيهم المعونات الغذائية التي تصلنا من المؤسسات الاجتماعية. فتحنا لهم بيوتنا ولم نر غير الإذلال على أراضيهم. لا نُمننهم بما قدمناه لهم، لكننا نطلب فقط أدنى مقومات الحياة من دولتهم التي نأت بنفسها عنا».

أبو نضال الذي يشبّه بقاءه في لبنان بالإقامة الجبرية يقول «إن الله غاضب على الشعب الفلسطيني.. العالم بأجمعه غاضب علينا.. حتى منظمة التحرير التي يتوجب عليها رعايتنا وتأمين حاجياتنا تنشغل في الخلافات الأمنية والسياسية بين الفصائل الفلسطينية.. هي تهتم فقط بفتح و«حماس» وتناقضاتهما».

الحديث مع الفلسطينيين اللاجئين من سورية الى لبنان يكشف حجم التناقضات التي تسيطر على مواقفهم من التطورات في سورية التي أوصلتهم الى ما هم عليه اليوم. ليس بمقدورهم تسمية الأشياء بأسمائها. ثمة غموض وتناقض يطبع أقوالهم. ربما الاضطراب النفسي والحياتي بعد لجوئهم كان السبب.. وربما هو الخوف.

ابو نضال الحائز شهادات جامعية في علم الاقتصاد والعلوم السياسية أصيب مرات عدة خلال مشاركته «في معارك خاضها مرات ضد إسرائيل ومرات أخرى ضد بعض الأحزاب التي قاتلت الفلسطينيين في لبنان». ويكشف نتيجة خبرته العسكرية» أن جهة ثالثة تقصف مخيم اليرموك في سورية، «لا نقول الجيش السوري ولا الجيش الحر.. هناك طرف ثالث، يدعمه الموساد الاسرائيلي وتركيا، يعمل لتأجيج الصراع في سورية لخدمة مخطط «عودة الإمبراطور العثماني». ويؤكد أنه «لا يخاف من الجيش الحر، فهم أبناء البلد، لكن نخشى من اليد الخفية التي تدخل لتخربط الأمن وتضرب الاستقرار».

وعلى طريقة «خذوا أسرارهم من صغارهم»، يظهر التناقض، غير محدد الأسباب، في شكل فاضح مع الأطفال اللاجئين. فأمام باب الغرفة الخشبي المخلع يلعب أحمد مع رفاق الحي. يعرف أنه لاجئ، وأنه ترك منزله في مخيم اليرموك هرباً من القصف. ويقول إن الجيش السوري الحر هو الجهة التي كانت تقصف». يتركنا ويعود الى اللعب مع رفاقه مدندناً «يا الله ما النا غيرك يا الله...» نسأله كيف يعرف هذه الأغنية؟ فيقول إنه كان يرددها خلال خروجه مع والده في التظاهرات في شوارع الشام!!».

حكاية اللجوء إلى الأراضي اللبنانية لا تكتمل من دون أم خالد. تلك السيدة الفلسطينية السبعينية التي تعمل في الحي وكأنها في أحد أحياء فلسطين. وتقول: «تجمع سكان هذا الشارع علاقات عائلية». وتروي كيف طلبت من ابنها إخلاء منزله والاقامة مع أولاده في منزلها المجاور، في محاولة لمساعدة إحدى العائلات اللاجئة ومنحهم منزله. كلما سمعت أم خالد عن مؤسسة أو «فاعل خير» يقدم مساعدات أو وجبات طعام تركض لتجول على العائلات اللاجئة. تخبرهم وتساعدهم للحصول على المساعدات الغذائية.

أم خالد ناقمة على منظمة الاونروا، وهي إذ تطلب منها الالتفات الى وضعهم تقول إن «لاجئي مخيم نهر البارد ليسوا أفضل من لاجئي سورية».

المصدر: دارين الحلوي| جريدة الراي