فلسطين افتراضية مبنية بخرائط المخيمات وموادّها
الأربعاء، 21 آذار، 2012
من «مدخل المخيم» إلى «البحر»، مروراً بـ«روضة غسان كنفاني»، فـ«شارع النكسة»، و«قوات السبعة عشر»، وطبعاً، «مقبرة الشهداء». تلك إمكانيةٌ لـ«قراءة» المخيم الفلسطيني في لبنان، يقترحها أطفاله. هناك إمكانية أخرى لقراءته، بحسب الأطفال أيضاً، تبدأ من «عمود الكهرباء»، لتمرّ بثلاث كلمات كتبت باللغة الإنكليزية، هي: «إنترنت، زبالة، مدرسة»، قبل أن يحلّ بالعربية كل من «جامع شاتيلا» و«قاعة الشعب». أما المحطات شبه الثابتة في كل رسمٍ لمخيّم، فهي «عيادة الأونروا»، ومقرّ واحد من الفصائل الفلسطينية، يمكن أن تختصر كافة دلالاتها بكلمة: «الديموقراطية»، مثلاً.
في معرض «مناظر طبيعية» للفنان مروان رشماوي، في غاليري «صفير زملر»، تحضر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في خرائط هم رسموها، تحدّد جغرافيتها، ومعها يومياتها، ويومياتهم فيها.
وتلك ليست جغرافيا متجرّدة، بل هي صورة لسنوات طويلة، تخبر عن كيفية ولادة حياةٍ كاملة في مجتمع قسري، كما تخبر عن مساحات عيش يومي يُنظر إليها من محيطها اللبناني على أنها «بؤر» فساد وسلاح. هي ليست كذلك، وهي ذلك كله، تماماً كأي مساحة عيش في الصعب. وهي ليست رأس حربة مقاومة، ولا مخزن الأبطال فحسب، بل، أيضاً، هي قصص أناس يصنعون ضمن حدود المؤقت أجيالاً، وينتجون من عشوائية مفروضة عليهم سياقاً قابلاً لأن يضحي خريطة.
وعن «المؤقت»، تخبر لوحةٌ عُلقت أسماء أمكنتها بأوراق الـ«بوست إت» الصفراء، تلك التي تُترك على سطح ثلاجة أو مكتب لتذكّر بما يجب انجازه، الآن أو غداً، وبأسرع وقت.. وعن العشوائية، تخبر لوحةٌ بدا فيها المخيم كشارعٍ وحيد، تتراكم أمكنته في جبل عمودي، تعلو لتهبط، كما الحياة التي يحملها المرء فوق رأسه، عند الانتقال القسري.
أما «السياق» فقد جسّدته بدقّة استثنائية لوحة تصف مخيم عين الحلوة، الذي تعتبره أعين لبنانية اللغز الفلسطيني الأشد فوضوية. فتأتي اللوحة، وقد اختار رشماوي أن يقدّمها مرتين متقابلتين، مرة بالأبيض كالنهار، ومرة بالأسود كالليل، مرسومةً بالقلم والمسطرة، كمخطّط هندسي. ولمزيد من الدقّة، يأتي خط كاتب الأسماء فيها هندسياً بدوره، لا يستعصي على عين، خاصة عند قراءة «مجمّع سكني يحوي جنسيات مختلفة»، عند طرفه الأيمن، وآخر اسمه «التعمير» عند أعلى اليسار. ليست «التعمير» كلمة مخيفة، ولا جنسيات سكّان المخيم هي نعوت تضليلية، هو واقع يمكن فهمه، لمن اشتهى الفهم، بدلاً من اعتماد «الغموض» وسيلة لتبرير كل فعلٍ جاهل.
وتبدو على كل شارع، ملامح فلسطين الشتات في مدى تماهيها مع فلسطين الداخل، فأسماء الشوارع هي أسماء قرى وقضايا وتواريخ.. أما خصوصية المكان فتنقلها تفاصيل المعاش اليومي لأهل الشتات، كبيت «الأستاذ قمر» أو «نهر الفيضان في الشتاء»، بما في ذلك من دلالات انتماء إلى أشخاص وأدوار، لا إلى أرض من دون أخرى. دلالات يعتبرها الأطفال كافية، إن تاه زائر يسأل عنها، وإن رآها مقيمٌ يتعرّف إليها، وإن شاهدها زميل في شتات بعيد يألفها.
ولا «لبنان» في مخيمات اللجوء.. فـ«خارج المخيم»، أي حدوده الطبيعية، لا تأتي كامتداد «جغرافي» لمساحة موجودة في صلب أرض، إلا نادراً.. هي الغائب عن الاستمرارية في الوصف، تماماً كما يغيب التواصل في العيش، إلا نادراً.
استند رشماوي في لوحاته على «ملف حصلت عليه في العام 2005 من صديق لي يضمّ خرائط رسمها رجالٌ ونساء من الأعمار كافة، يعيشون في المخيمات الفلسطينية في لبنان. وبعد التفكير ملياً لعدّة سنوات، قررت أن أعالج هذه التفسيرات الفردية للمناطق المحظورة».
ويشرح رشماوي في إعلان ثبّته عند مدخل المعرض، أنه «تبيّن أن الأطفال يرسمون دائماً منازل أصدقائهم ومدارسهم ورايات، فيما ترسم الأمهات صيدليات وأطباء أسنان ومحلات بقالة ومستشفيات. وتجسّد رسومات المراهقات، نوادي اجتماعية ومدارس، بينما تمثّل رسومات الفتيان من الفئة العمرية نفسها مقاهي إنترنت ونوادي لألعاب الفيديو».
وسائل مختلفة
ضمن مشروع يهدف إلى إنشاء «فلسطين افتراضية» عبر الربط ما بين المخيمات الفلسطينية في الشتات، طلبت المنظمة غير الحكومية «ورشة الموارد العربية» من أفراد لاجئين رسم خرائط لمخيماتهم. عندما حصل رشماوي على تلك الرسوم، قام بإعادة تنفيذها عبر وسائط مختلفة، كالإسمنت وأكياس الأرز والسكر وألواح الزيكنو، «حتى باتت توحي بإحساس قوي بواقع بيئة المخيم اليومية»، علماً أنه أنتج في السنوات الماضية أعمالاً «تخطف» منشآت من بيئتها الطبيعية في بيروت، كبرج المرّ (مشروع «نصب للأحياء») وعمارة يعقوبيان في كاراكاس (مشروع «النصب»)، لتخبر عن سلوك مدينة ينتجه الأحياء فيها.
في الجزء الثاني من المعرض، وهو يحمل عنوان «أغراض مكتشفة»، تحضر القنابل العنقودية، التي «كلّفت مجموعة من الأمم المتحدة بتدميرها»، في جنوب لبنان إثر عدوان تموز العام 2006. إلا أن لوحةً إخبارية مثبتة في المعرض تخبر عن العثور على قنابل تعود أيضاً إلى أربعينيات القرن الماضي، «فتذكّر كل منها بالنزاعات الكثيرة التي شهدها لبنان.. ومن المعروف أن القنابل العنقودية غير المشروعة بموجب القانون الدولي، قد تنفجر بعد عقود».
خصّ رشماوي المنقّبين عن الذخائر العنقودية بلوحات تضع أجسامهم في صلب المشهد، لا السيارة التي يبحثون تحتها، مثلاً. هم، وأوراق الشجر، وخطر موت يختبئ في كل مكان، منذ أربعينيات القرن الماضي..
وقد أعاد تقديم الذخائر في معرضه، عبر تصاميم «كاوتشوك» تغزو جدران غرفةٍ منه، بشكل عشوائي، كانتشار تلك الذخائر، وكتداخلها في يوميات ناس تلك الأرض.
في مقارنة ربما لا يكون الفنان قد اعتمدها في صياغة معرضه، يبدو أن الكامن ما بين المخيم واللاجئ إليه، يشبه، بشكل من الأشكال، الكامن ما بين القنابل العنقودية ونازعيها. هي إلفةٌ يتطلبها البقاء على قيد الحياة، وهو خطر الموت يرافق كافة لحظات تلك الحياة، إن كإمكانيةٍ كما هي الحال مع القنابل، أو كسبب وجودٍ كما هي الحال التي أنتجت اللجوء.
سحر مندور
معرض «مناظر طبيعية» مستمر من 26 تشرين الثاني 2011 حتى 24 آذار 2012، في غاليري «صفير زملر» في الكرنتينا.
المصدر: جريدة السفير