القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

تقارير إخبارية

في مخيم 'شاتيلا' الطفل السوري الذي نجا... لم يفارق حضن أمّه إلاّ حين فارقت الحياة

في مخيم 'شاتيلا' الطفل السوري الذي نجا... لم يفارق حضن أمّه إلاّ حين فارقت الحياة


مايا بنّوت – مجلة لها

تطوف المخيلة داخل مخيم «شاتيلا»، تنفصل عن الواقع الوقح لكثرة القهر والجوع والبراءة. لم أكتفِ بتمضية يوم واحد هناك. عن قرب وإن من بعيد، التقيت نور الذي احترق منزله. نجا من الحريق لكنه أصيب باليرقان (الصفيرة). كانت عيناه مبكيتين. يتدفق القلق والحلم بين أرجاء المخيم كما الروائح الجميلة والكريهة وقنوات التصريف المفتوحة... هربوا من الأسوأ إلى السيئ حيث الأمان دون أم... حيث غطاء الشتاء الذي - إن توافر - ينتهكه تسرّب الماء من السقف. وحيث نرجس التي جاءت من درعا... توقفت في قرية غريبة لدفن والدتها ثم واصلت طريقها دونها إلى لبنان حيث ينضم اللاجئ السوري الموقت إلى اللاجئ الفلسطيني الدائم...

بين أشباه البيوت والعربات سرق الجوع من الأطفال براءتهم

أسست اللجنة الدولية للصليب الأحمر مخيم شاتيلا (جنوب بيروت) نهاية الأربعينات لإيواء المئات من اللاجئين الذين تدفقوا من شمال فلسطين بعد عام 1948. دُمّر المخيم خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وتم استهدافه بشكل متكرر خلال الحرب الأهلية اللبنانية، الأمر الذي أدى إلى تدمير الممتلكات وتهجير اللاجئين.

أتنقّل بين أشباه البيوت وبين العربات. تقدّم صبيّ أسمر ينتعل حذاء رجل يتخطى مقاس قدمه الصغيرة. كان جائعاً ويحمل قطعة نقدية بقيمة 250 ليرة، دعاه بائع الفول والذرة إلى التراجع بصوت مرتفع. ناديته وأعطيته نقوداً ليستطيع دفع ثمن شبعه. فرح كثيراً وحين استدار ليواجه البائع فاجأته طفلة صغيرة انتزعت نقوده من يده وفرّت. لقد سرق الجوع من الأطفال براءتهم.

وصلت إلى مركز «النجدة الآن»

التقيت إبراهيم عند المدخل. «لم أنت هنا؟ لم قدمت إلى لبنان؟» سألته. «ثمة إضراب في سورية». كان يحمل هاتفاً خليوياً محطّم الشاشة في يده. هو من منطقة الأشرفية السورية. سألته عنها وإذا كان يعرف الأشرفية اللبنانية. اكتفى بوصف «أشرفيته» وهو يسعل ومضى يلعب بين أزقّة المخيم.

كان الأطفال كثراً. التقيت هناك أيضاً يحيى من حلب، هو في الصف التاسع، لكنه يكتفي بدرس معالم الشارع منذ شهور. كذلك أديب وعادل الذي التقط لنا صورة جماعية.

انضمت إلينا عزيمة، طفلة سمراء رسمت على يديها بأقلام التلوين شجرة تقطّعت أغصانها وبدت ذابلة تتلاشى مع الوقت.

دخلت المركز. لم يكن أحد في الاستقبال بل وجدت طفلة تلهو بالمكعبات الملوّنة التي تبّرع الدكتور علي عاشور (جهّز المركز بالألعاب والأقلام والقصص بعد أن كان عبارة عن جدران). ألعاب قد لا ترضي طفل هذا العصرالذي يقتني الأجهزة التكنولوجية كالكبار. لكنها ستكون ممتعة وسط كل الحرمان الذي يعيشه الطفل السوري. اسمها حلا وعمرها 5 سنوات. كان يجثو بقربها شقيقها نور الذي جاء لاصطحابها إلى المنزل. كانت عيناه مبكيتين، لشدة صفارهما. لقد نال الخوف من بياضهما. جاءا من إدلب. حلا خجولة جداً. طرحت عليها أسئلة كثيرة بقيت دون إجابات. لكنها عدّدت أخيراً أسماء أشقائها : نور وفاطمة وسارة ووسيم وفاضل. هم ستة. كل العائلات السورية هكذا. وهذا كارثي في هذه الأزمة التي لا تنتهي.

انتقلت بالحديث إلى نور. «جئت من إدلب قبل ثلاثة أشهر. لم أعد أذهب إلى مدرستي «حطين»». سألته عن سبب وجوده في المركز فأجاب : «لست هنا، لكنني سأسجل اسمي لاحقاً. فأنا مريض» لكنه جاء دون وقاية أو عناية. ما بك؟ : «ارتعبت حين احترق المنزل فـ «صفرنت». طلبت من نور طفل العشر سنوات أن يبتسم لألتقط له صورة. ابتسم للصورة فقط. هل ترغب في العودة أم تخاف: «أريد العودة. اشتقت للعب كرة القدم في مدرستي». ماذا جلبت معك من سورية : «لا شيء أبداً».

كانت «أم قاسم» تحتسي الشاي في المركز بحثاً عن سلوى مع الأمهات اللواتي نجون لينتظرن أطفالهن. لديها ابنتان دون العشرين. لقد وفدت حديثاً إلى المخيم. كيف أمضيت طوال تلك الفترة في الملجأ؟ «لا لم نختبئ في الملجأ. لم أرغب في ترك سورية رغم أن الصاروخ اخترق غرفة المطبخ. لكن ابني الذي يقيم في لبنان أصر على مجيئي حين أصاب مدخل المنزل صاروخ آخر وشقيقه يهم بالخروج. لم ينفجر الصاروخ بل بقي في الأرض. لكن جارتنا «أم عبدالله» ماتت». كم عمرها؟ «هي امرأة عجوز لكنها طيبة جداً، أما زوجة ابنها فاقتعلت عينها وجزءاً من رأسها. ولا تزال على قيد الحياة. ولا تزال في سورية مع ابنتها التي فقدت ساقها».

«انهزمنا تعني هربنا» ما تعيشه سورية مستحيل

تروي «أم قاسم» مأساة لا يمكن الكلمات إنصافها بل لوعة الصوت والمشاعر المسموعة غير المكتوبة. كيف تذكرين «أم عبدالله»؟ «كانت صاحبة دكان صغير. أصيب زوجها بالجنون بعدما رحلت. كان الحي يطلق عليهما «العاشقان». ماذا جلبت من سورية : «الفراش فقط. فنحن انهزمنا». انهزمتم؟! : «لا، أقصد هربنا بلهجتنا». وتروي عن أحداث يوم جهنمي آخر يوم قصفت مدرسة ابنتها رقيّة بعد وقت قليل من انتهاء الدوام. «هي متزوجة وتتابع دروسها». لمَ لمْ تنتظر لتكمل تحصيلها العلمي : «خالي طلبها لابنه، حتى أنه ضربني في إحدى المرات حين تمنعت عن ذلك».

هل كنت تشعرين ببعدك عن الخطر في طريقك إلى لبنان؟ «لو بدنا نحط سولافة مع سولافة، لقد عرف لبنان حروباً كثيرة لكن كان الشعور بالأمان محتملاً أحياناً. ما تعيشه سورية مستحيل، النوم غير ممكن في سورية».

«تُضطر شقيقتي لالتزام الدوام وإن لم تفعل تعتبر منشقّة»

جاءت أمل من درعا قبل أربعة أشهر وهي أيضاً دون العشرين، وجهها كالقمر. هي متطوعة تساعد المسؤولين في المركز على الإهتمام بالأطفال، «جئت مع والدي وشقيقيّ، أختي المتزوجة (21 عاماً) بقيت هناك». لم بقيت هناك؟ «هي موظفة. مدرّسة». وهل المدارس لا تزال تفتح أبوابها؟ «تضطر شقيقتي والأساتذة لالتزام الدوام، وإن لم تفعل تعتبر منشقة أو فارّة. تخاطر شقيقتي بحياتها وتذهب إلى الدوام. حاولت المجيء إلى لبنان طالبة إذن إجازة لكن لم تتم الموافقة عليها».

لم تتمكّن أمل من متابعة دراستها في كلية التجارة والإقتصاد، «كان حلمي. تسجلت وحجزت مقعدي» ولكن... لا يمكنها متابعة دراستها في لبنان لأن التعليم مكلف، «لم تكن فكرة الإحتفاظ بشهادة الباكالوريا مجدية. لن يسأل عنها أحد في لبنان». هي الطالبة التي تحوّلت إلى حاضنة.

لم يفارق حضنها إلاّ حين فارقت الحياة

حضَنتْ أمل يامن (5 سنوات) الذي لجأ إلى لبنان دون والدته : «لقد انتزعوه من حضن والدته حيث كان نائماً». لم يفارق حضنها إلاّ حين فارقت الحياة. انتظرت يامن لكنه لم يأت. وكان عليّ العودة. لكنني انتقلت إلى مركز الإغاثة التابع لجمعية «النجدة now». التقيت هناك سيدة سورية تحمل طفلها الذي لم يبلغ عامه الأول بعد. كانت تطالب المركز بحفاضات لطفلها الصغير جداً، فزوجها لم يجد عملاً في لبنان. لقد أخبروها بأن مؤسسة الحريري في صيدا تقدم مساعدات لكنها تخشى أن تتكبّد أجرة الطريق سدى. قالت وقلبها محروق: «ليتني لم أتزوج ولم أنجب»، اختضنت طفلها لاحقاً وكأنها أدركت قسوة ما قالته. وسيدة أخرى كانت تطالب بالحليب، فرضيعها يشرب الماء والسكر منذ شهر.

هل لديك مشكلة في ذكر اسمك؟ «لا، لكن عائلتي لا تزال في ريف حماه»، أجاب الشاب السوري الذي يدير مركز الإغاثة، ويعيش أزمة تعبئة طلبات الإغاثة يومياً خصوصاً ان الحكومة اللبنانية لم تعترف بالسوري لاجئاً بعد. تبقى في المركز ثلاثة صناديق غذائية، زيت وشاي وتونة ومعكرونة... «لا تتوافق حتى مع تحديد الحاجات الدنيا للإغاثة التي حدّدتها الأمم المتحدة».

لقد أطلعني على ظاهرة بدأت تبرز بشكل كبير في المخيم، ثمة نساء يتعرّضن للعنف من الزوج العاطل عن العمل والذي ينفس عن غضبه بالضرب. ثمة نساء يقصدنه دون علم أزواجهن لسد جوع أطفالهن. هو جزء من معاناة المرأة اللاجئة وطفلها. يعود إلى أزمته الإنسانية اليومية : «لقد وصلني 100 سلة غذائية، وهي غير كافية. سجلت أسماء 1200 عائلة». يختم بأنهم يخططون لتأسيس مركز موقت لإيواء اللاجئين الجدد وتجنيبهم الإستغلال اللحظي خلال بحثهم عن سقف آمن. وهو ما يحصل أخيراً.

في ضيافة الجدة الأرملة

بحثت عن قصة جديدة في المخيم. وجدت الجدة الأرملة التي باتت مسؤولة عن أولاد ابنها (ست بنات وصبيان) بعد وفاة والدتهم قنصاً وهي في طريقها إلى لبنان، «لقد أصابت الطلقة كنّتي في رأسها على مرأى من أطفالها، بشاير ونرجس وفاطمة وآية وقمر... من بعد؟ نبيلة، أيوب وعبد الرحمن الصغير (ثلاث سنوات)». تشكو معاناتها: «أنا مشتتة بين تسديد إيجار المنزل ومصروفهم. فوالدهم دون عمل. تركنا الدور والدوار. لا أعرف إن كان منزلي لا يزال صامداً، لكنه بالتأكيد نُهب». تغيّر جلستها. فهي تعاني التهاباً في قدمها التي تلفها برباط أبيض، «اهترأت قدمي من السكر، ولا علاج. سأفقدها قريباً، كما أن كعب قدمي مهترئ».

جلست الصغيرة آية بقربي. وكان عبد الرحمن يقفز من حولنا يصوب باتجاهنا يده ويصدر صوتاً شبيهاً برشق الرصاص. لماذا تصوب تجاهنا سلاحك؟ «أريد سلاحاً حقيقياً». لكنه قاتل؟ «عادي! لكنه ثقيل. أخاف فقط صاروخ المتر الذي يروّح كل الدار». كانت نرجس (17 عاماً) تجلس بعيداً. حلمها أن تدرس الطب وتحديداً الجراحة. هل لا يزال هذا الحلم قائماً؟ «نعم، لكنني لا أتوقع أن أحقق ذلك في المرحلة القريبة المقبلة». ماذا تذكرين من مرحلة ما قبل اندلاع الثورة السورية؟ «الذكريات الجميلة، لا أظن أن منزلنا لا يزال موجوداً. ووالدتي التي أشبهها وكانت تشجعني على الدراسة. لا أملك صورة لها بل هويتها فقط. كان عمرها 33 عاماً. أخاف أن أحرم العيش في بلدي. لا أعرف من مات ومن لا يزال على قيد الحياة من أقاربي وأصدقائي». لقد فارقت والدتهم الحياة قبل أربعة أشهر، دفنوها في نامر. وهي قرية غريبة لم تولد فيها لكن الظروف استدعت ذلك. لم يتمكنوا في دفنها في بلدتها. ماذا يختلف هذا المنزل عن دارتكم في سورية؟ تجيب آية على الفور: «كانت أرض الدار حلوة وبيضاء ناصعة. تركت هناك تلفوناتي وعرائسي». إلامَ أنتِ بحاجة اليوم؟ «إلى كل شيء، إلى حنان أمي».

«بؤس خارج منطقة الحرب»

أعلنت منظمة «أطباء بلا حدود» أخيراً أن أكثر من نصف السوريين الذي لجأوا الى لبنان لا يتلقون العلاج الطبي الذي يحتاجونه. وفي تقرير بعنوان «بؤس خارج منطقة الحرب»، نشرت المنظمة نتائج استطلاع أجرته في مدينة صيدا بجنوب لبنان وسهل البقاع ومدينة طرابلس الشمالية، حيث يقدم فيها فريقها الرعاية الطبية. وجاء في التقرير أن اللاجئين السوريين إضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين واللبنانيين الهاربين من العنف في سورية لديهم احتياجات إنسانية كبيرة حيث يتوزعون ولا يقيمون في مخيمات خاصة كما هو الحال في دول أخرى في المنطقة. وتطرق تقرير المنظمة إلى مسائل التسجيل والحصول على الرعاية الطبية والسكن. وأشار إلى أن «أكثر من نصف الذين جرت مقابلتهم سواء كانوا لاجئين مسجلين أو لا، يعيشون في أماكن لا تنطبق عليها المعايير المطلوبة ولا توفر لهم الحماية من عوامل الطبيعة، بينما يعاني الآخرون من تكلفة الايجارات بعد أن فقدوا موارد رزقهم». وأظهر استطلاع المنظمة أن «أكثر من نصف هؤلاء لا يستطيعون تحمل تكلفة علاج الأمراض المزمنة وأن نحو ثلثهم اضطروا لوقف العلاج بسبب التكاليف المرتفعة». وأشارت المنظمة إلى أن 41 % من اللاجئين الذين قابلتهم ليسوا مسجلين وأن نحو ثلثي اللاجئين والعائدين اللبنانيين غير المسجلين لا يتلقون كذلك أي مساعدات من أي جماعات غير حكومية. واستناداً إلى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، يوجد في لبنان أكثر من 172 ألف لاجئ سوري مسجل، و88582 لاجئاً يجري تسجيلهم، فيما يقدر عدد غير المسجلين في البلاد بنحو 50 ألف لاجئ. وأوصت المنظمة بأن التعجيل في عملية التسجيل يقتضي إقامة مراكز استقبال على الحدود أو ملاجئ جماعية بسرعة كبيرة.

أغنية مندثرة

عدت في اليوم التالي للقاء يامن. قالت لي أمل إنه يحضر كل صباح عند الثامنة. وصلت متأخرة قليلاً، دخلت المخيم من طريق أخرى وتهت في الإتجاهات المحتملة المؤدية إلى المركز. ارتأيت أخيراً أن أعرض على شاب فلسطيني الصور التي التقطتها في الأمس ليعرف المكان ويوصلني. فهو لم يعرف تحديداً أين تقع جمعية «النجدة Now». وأنا أقلب الصور على الكاميرا شاهد درجاً فعرف المكان. وصلت إلى الجمعية متأخرة، كان الأطفال قد بدأوا نشاطهم الصباحي. كانوا يؤدون أغنية جميلة ومؤثرة، مطلعها: «منتطلع صوب الشمس صوب الضو اللي عم يطلع منادي كل الناس اللي تركت أرضا ترجع لازم يوقف صوت المدفع ورصاص البواريد لأنو في ولاد بعدا عم تحلم إنو بكرا العيد...». يامن وسطهم، حاولت التعرف عليه دون مساعدة. عرفته على الفور. كان يضحك ببراءة مخجلة لكل ما لا يتعلّق بواقعه. نادته المنشطة ليجالسني. هو في الخامسة.