كيلومتر واحد.. وربما أكثر
الأربعاء 18 أيار 2011
كارول درباج - السفير
«إلى فلسطين، 1 كيلومتر»، يافطات وضعت على طريق الجنوب لتحديد المسافة من فلسطين، أو بالأحرى المسافة من القضية الفلسطينية. يافطات، اختلطت بصور الشهداء الجنوبيين، تصيبك بقشعريرة لدرجة انك تشك في حقيقة ما تراه، ليتأكد الأمر لاحقاً مع يافطة أخرى كتب عليها: «15 أيار 2011، مسيرة العودة إلى فلسطين».
من مارون الراس، على بعد كيلومتر واحد، تقابلك «فلسطين». لا تدري تماما هل أنت واقف أمام أرض محتلة، أم انك هنا لتلتحم مع جمالية الطبيعة، أم انك شخصية في رواية «باب الشمس».. أم انك تختبر مبادئك التي بنيتها حول القضية الفلسطينية. تختلط الأمور ببعضها وتعيش حالة من السوريالية وأنت تشاهد آلاف العائلات الفلسطينية وهم يسيرون بعد 63 سنة على النكبة في الاتجاه المعاكس. هذه المرة، من مخيمات الحرمان إلى الجليل المحتل. وجوه راضية تقابلك في «مسيرة العودة». إلا أن التوق لرؤية فلسطين يمتزج بواقع أنها «فلسطين المحتلة». تشعر بالعجز. العجز من حقيقة أن أرضك مغتصبة. فتتحوّل الحماسة إلى غضب ورغبة في كسر «المسموح به في المسيرة»، ما دفع بعضهم إلى تخطي تعليمات الجيش اللبناني والمنظمين، لملاقاة الأرض.. ليقولوا بدمائهم ان «فلسطين لنا».
رشقات وأعيرة نارية، بدأت معها أنباء سقوط الشهداء. توجّمت الوجوه. ارتجفت شفاه الأمهات وهي تتمتم باكيةً. تلطخ المشهد الصباحي العذب بهمجية الاحتلال. الرصاص الحيّ مقابل الحجر.. بل حتى مقابل التفكير بإمكانية العودة. أبناء المخيمات الفلسطينية حسموا صراعهم الداخلي بين غريزة البقاء والاستعداد لدفع ثمن تحرير الأرض، فتوجه المزيد باتجاه الحدود، الموت.
أم محمد، الدموع تغطي وجهها المتعب. بيدها طفل عمره شهران، أخوه العشريني عند السياج الشائك. تسأل شابة لا تعرفها أن تمسك برضيعها كي تبحث عن الابن الأكبر في أسفل التلة. الشابة مذهولة، تأخذ الطفل وفي ذهنها حكايات النكبة التي لا تحصى عن أولاد فقدوا وتبنتهم عائلات أخرى. سمعت الكثير عن عمها الذي يحمل من النكبة ذكرى مشابهة. تنظر إلى الطفل وفي عينيها الكثير من الخوف من أن يعيش مصير عمها. حاجة أخرى بحالة انهيار، أولادها الأربعة على الشريط الشائك. تخشى من سماع نبأ أحدهم بين لحظة وأخرى.
شهداء في مارون الراس. شهداء في الجولان. شهيد في غزة ومئات الجرحى الفلسطينيين. من الشتات والداخل، الكوفيات تزّين أعناقهم، بأيديهم ترفرف الأعلام الفلسطينية، يغنون القضية ويهتفون «الشعب يريد إنهاء الاحتلال». وكأنهم يقولون إن الطريق إلى فلسطين يمرّ بإسقاط جميع الأنظمة العربية، يمرّ من خلال التحرّر من الاحتلال الداخلي أولاً.
وأنا أتأمل مشهد مارون الراس الدامي، استحضرت كلام صديق تونسي اتصل بي خلال الثورة المصرية ليرفع من معنوياتي ومعنويات الرفاق المصريين. قال حينها: «لو نجحت الثورة في مصر بعد سقوط بن علي في تونس، لا بدّ أن نرى القدس عربية قبل أن نموت». بتأثر وحزم أكّد في فترة من أصعب فترات الثورة المصرية انه «لا مكان للتراجع، العالم العربي بأجمعه يتابع خطواتكم وينتظر انتصار ثورتكم.. القضية الفلسطينية نفسها تلقي بثقلها عليكم».
أن تقف في مارون الراس بعد ثورات الخبز والحرية التي تجتاح العالم العربي ضمن مسيرات طوقت الحدود الإسرائيلية من لبنان إلى الأردن وسوريا يعني أن تغيير الأمر الواقع ليس بالمستحيل وأن البديل الشعبي ممكناً. «مسيرة العودة» لن تكون سوى بداية البدايات. شرارتها كانت مع تونس ومصر وبدايتها الفعلية تكمن بتحرّر المواطن العربي من استبداد الأنظمة العربية، أنظمة «الاعتدال» و«الممانعة» على حدّ سواء.