لعب الاحتلال بنار الأقصى... تكريس التقسيم الزماني
والمكاني
الخميس، 10 أيلول، 2015
الصورة في القدس المحتلة "اعتيادية"، منتصف الأسبوع.
محال تجارية في البلدة القديمة للقدس لم تفتح أبوابها بعد، رغم اقتراب ساعات الظهر،
بفعل ازدياد التّوتر حول المسجد الأقصى أخيراً، والمرابطات ما زلن صامدات أمام تعنّت
الاحتلال.
على أبواب المحلات المغلقة تستند نساء تجاوز أعمار بعضهن
الستين عاماً. يفترشن الأرض في انتظار السماح لهن بدخول المسجد الأقصى. وأمامهن حواجز
حديدية، يقف حولها جنود الاحتلال، الذين يحددون سنّاً معينّاً لدخول المسجد، ويتغير
"السنّ" كل فترة، فمرة يمنعون كل من تجاوز سن الـ25 من دخول المسجد، ومرة
لكل من تخطى سنّ الـ30 ومرة لكل من تعدّى سنّ الـ50.
وقد بدأ المسجد الأقصى يشهد أخيراً تصعيداً جديداً، منذ
23 أغسطس/آب الماضي، بعد منع شرطة الاحتلال جميع النساء الفلسطينيات من دخول المسجد
الأقصى، ما بين الساعة 7.30 وحتى 11 صباحاً، أي في الوقت الذي يقتحم فيه المستوطنون
ساحات المسجد، كتكريس لمبدأ "التقسيم الزماني للأقصى بين الفلسطينيين والمستوطنين".
وخلال فترة اقتحام المستوطنين للأقصى، تقف ثلّة من هؤلاء
النساء، غالبيتهن ممن اعتدن الرباط في الأقصى، عند باب السلسلة، الباب الذي يخرج منه
المستوطنون بعد انتهاء الاقتحام، ويرددن صيحات التكبير والهتاف للقدس والأقصى، فيما
تتوزع أخريات عند باب المجلس وأبواب أخرى في محاولة لدخول المسجد. مع العلم أن أعداداً
قليلة من النساء تستطيع الدخول لصلاة الفجر بشرط تسليم بطاقات هوياتهن.
ليلى الشريف (61 عاماً)، التي نجحت في دخول المسجد الأقصى
بعد أن جرّبت ذلك من أبواب عدة، تروي ما حدث معها الأسبوع الماضي، لـ"العربي الجديد":
"حين كنا في محيط باب السلسلة، صرخ في وجهنا مستوطن بما معناه: يكفيكن ما حظيتن
به في شهر رمضان من دخول حرّ للمسجد الأقصى. الآن دورنا". في ترسيخ للاعتداءات
المستمرّة. وتشير الشريف إلى أنه "في السابق كنا نقول إننا كنساء قادرات على المواجهة
أكثر من الرجال، لأن شرطة الاحتلال لم تكن تتجرأ على التعرّض لنا بالضرب أو الدفع لكوننا
نساء، أما اليوم فقد تغيّر الوضع كلياً، وبات الجنود يضربوننا ويعتدون علينا ويدفعوننا
وأحياناً يعتقلوننا".
أما بعد الساعة الحادية عشرة، فإن شرطة الاحتلال تسمح بدخول
النساء إلى المسجد، ولكن في كثير من الأحيان تشترط عليهن تسليم بطاقات هوياتهن، مما
يعني تسجيل أسماء وتفاصيل من يدخل للأقصى والزمن الذي يُمضيه فيه، وبالتالي إمكانية
ملاحقته. ولكن هذا الإجراء لا يشمل ما يقارب 40 مرابطة وضعت أسماؤهن في قوائم وُزّعت
على أبواب المسجد الأقصى، ويمنعن تماماً من دخوله، تتراوح أعمارهن ما بين 15 عاماً
و65 عاماً.
سحر النتشة (45 عاماً)، التي انتشر فيديو لها وهي تبكي حرقة،
بعد منعها من الدخول حتى بعد الساعة الحادية عشرة، لورود اسمها في قائمة الممنوعات،
قالت: "المسجد الأقصى ليس في خطر. المسجد الأقصى في أخطار". أما هنادي الحلواني
والتي يرد اسمها كذلك ضمن قائمة الممنوعات من دخول الأقصى، فتذكر في حديثها لـ"العربي
الجديد"، أن "هذه القائمة معرّضة لزيادة الأسماء عليها، إذ كانت تشمل قبل
حوالي أسبوع 20 اسماً فقط، أما اليوم ففيها ما يقارب 40 اسماً".
وترى الحلواني أن "وجود مثل هكذا قائمة هو أمر غير مسبوق،
ويُشكّل بطاقة رابحة لصالح الاحتلال، فهذا المنع ليس كأوامر الإبعاد الصادرة عن شرطة
الاحتلال لها تاريخ انتهاء، وتأتي مرتبطة بحدث ما، بل هي مفتوحة وعشوائية أحياناً".
وتشير إلى أن "منع النساء من الدخول للمسجد كما يحصل هذه الأيام ليس بالأمر الجديد،
فقد منعت شرطة الاحتلال العام الماضي قيل الأعياد اليهودية، النساء من دخول المسجد
الأقصى حتى الساعة الثالثة عصراً، لمدة عشرين يوماً".
أما عن هدف هذا المنع، وهدف ابتداع أمر "قائمة الممنوعات"،
فترى الحلواني أن "الاحتلال يسعى إلى اصطياد عصفورين بحجر واحد. من جهة يجسّ نبض
الفلسطينيين والمسلمين حول العالم، ليرى ما هي ردّة فعلهم على هذا التطبيق الأوليّ
للتقسيم الزماني، ومن جهة أخرى، بدأ يُمهّد لفترة الأعياد اليهودية (عيد رأس السنة
العبرية ويوم الغفران)، والتي تتزايد فيها الدعوات اليهودية لاقتحام المسجد. ويعمد
بالتالي إلى توفير الأمن لهذه الاقتحامات، عبر إخلاء المسجد من الفلسطينيين".
وبضغط من الجماعات الاستيطانية المؤيدة لاقتحام الأقصى، توجه
وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي جلعاد أردان، يوم الاثنين، لوزير الأمن موشيه يعلون،
مطالباً إياه بـ"الإعلان عن المرابطين، والمرابطات كتنظيمين محظورين". مع
العلم ألّا وجود فعلي لمثل هكذا تنظيم على أرض الواقع، بل إن تحرك المرابطين والمرابطات
عفوي.
ولم تكن خطوة أردان الأولى من نوعها، فقد سبق أن تقدّم وزير
الأمن الداخلي في الحكومة الإسرائيلية السابقة اسحق أهرونوفيتش، العام الماضي، باقتراح
قانون من أجل إخراج ما سُمّي "تنظيم المرابطين" من المسجد، إلا أن سنّ القانون
لم يكتمل. في المقابل، يرى الوزير أردان أنه "لا حاجة لقانون لتنفيذ هذا الأمر،
وإنما يكفي التوجه ليعلون لإصدار أمر عسكري بذلك".
ويأتي هذا التوجه من طرف أردان بهدف تضييق الخناق أكثر فأكثر
على كل من يحمل همّ الأقصى ويتواجد في محيطه بشكل يومي. وكانت الحكومة الإسرائيلية
السابقة قد أغلقت العام الماضي "مؤسسة الأقصى للوقف والتراث التابعة للحركة الإسلامية"
في الداخل، والتي كانت تتهمها بتمويل "مصاطب العلم" للمرابطين.
ويرافق التصعيد السياسي تصعيدٌ في استخدام العنف، فقد أعلن
رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الأسبوع الماضي، بعد اجتماع جمعه مع يعلون وأردان،
ووزير الاستخبارات والمواصلات يسرائيل كاتس، ووزيرة العدل أيليت شاكيد، ورئيس
"الشاباك" يورام كوهين، عن إضافة وحدتين من حرس الحدود الإسرائيلي إلى الوحدات
التي تخدم في القدس، بالإضافة إلى 400 شرطي إسرائيلي إضافة لمواجهة ما سماه "الإرهاب".
أما سميرة (اسم حركي)، التي تحرص على التواجد بشكل شبه يومي
في المسجد ومحيطه، فتقول إنها "لاحظت وجوداً مكثفاً وجديداً في مواجهة النساء
المرابطات". وتشرح في تصريحاتٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "كنا نحفظ
مسبقاً ونعرف أشكال وأسماء بعض الجنود، اليوم جاؤوا لنا بوحدة جديدة، وكل مرة يبدلونهم
وتتغيّر أساليبهم. وقد تواجدت الأسبوع الماضي في القدس وحدة يوآف" التي استُقدمت
من منطقة النقب، لأن نطاق عملها كان مقتصراً على تأمين هدم البيوت الفلسطينية".
وتضيف سميرة أن "الوحدات الجديدة من شرطة الاحتلال بدأت
باستخدام العنف ضد النساء بشكل أكثر تكثيفاً وأكثر شدة من المرات السابقة". وترى
بأن "منع النساء من الدخول للمسجد الأقصى حتى الساعة الحادية عشرة صباحاً، لن
يحبط من عزيمة المرابطات والمرابطين". ومع أنها تعترف بأن أعدادهم قد قلّت نسبياً
في الفترة الأخيرة، إلا أن سميرة تؤمن بأن "التواجد، ولو بالعشرات على الأبواب،
والتصدّي للمستوطنين في طريق خروجهم من الأقصى هو أقل الإيمان".
وترى أنه "إذا لم نستطع التأثير داخل المسجد، فلنحاول
التأثير على أبوابه. ووجودنا يشكل قوة ضاغطة على شرطة الاحتلال وعلى المستوطنين".
وتتجلّى مظاهر هذا الضغط في تكثيف أعداد الجنود الذين يؤمنون خروج المستوطنين من جهة
باب السلسلة، وتقييد المرابطات وحشرهن من خلال الحواجز الحديدية في جهة واحدة من الشارع،
ومحاولة منعهن من التحرك خارجها.
وبالإضافة إلى قوائم النساء الممنوعات من دخول المسجد الأقصى،
فقد باشرت قوات الاحتلال بملاحقة النساء في بيوتهن، وفي ساعات ما بعد منتصف الليل.
وفي خطوة جديدة، دهمت شرطة الاحتلال بيوت خمس نساء منهن فجر الخميس 3 سبتمبر/أيلول
الحالي. وقد قامت بتفتيش بيوت كل من إكرام غزاوي وسماح غزاوي وعايدة الصيداوي، واعتقلت
الأولى، فيما سلّمت الثانية أمر استدعاء للتحقيق، وسلّمت الثالثة أمراً بالإبعاد عن
المسجد الأقصى لمدة شهر. كما اقتحمت قوات الاحتلال بيت جهاد غزاوي، وسلّمتها أمر استدعاء
للتحقيق، وقد سبق اعتقالها وإبعادها عن الأقصى مرات عدة.
وفي محاولة لاستهداف مختلف دوائر الرباط والتواجد الفلسطيني
في المسجد الأقصى، وفي مسعى لتحييد كلّ من قد يعرقل اقتحامات المستوطنين، أبعدت شرطة
الاحتلال يوم الاثنين ستة من موظفي دائرة الأوقاف في المسجد الأقصى، لمدة شهرين تنتهي
مع نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل. والموظفون هم: حسام سدر وبهاد أبو صبيح وثائر
أبو سنينة وعرفات نجيب وفادي عليان وطارق أبو صبيح.
وأفاد عليان (30 عاماً)، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"،
بأن "أحد ضباط الاحتلال قام بتهديده عند استدعائه للتحقيق، وذكر له بأن أمر تشغيله
أو فصله من عمله كحارس، هو بيد الشرطة، وأن من يرفض الانصياع لأوامر الشرطة ويشكل خطراً
داخل المسجد ستتم معاقبته".
وأوضح عليان أن "مهمته هو وزملاؤه الحراس الحفاظ على
أمن المسجد الأقصى، وأنه اعتاد هو وبعض من زملائه مراقبة تحركات المستوطنين المقتحمين
للأقصى لمنعهم من أداء الصلوات فيه، أو منعهم من سرقة تراب من أرضه أو غضون الزيتون
من أشجاره، وقد هددتهم شرطة الاحتلال في حال اعترضوا على تحركات المستوطنين داخل الأقصى".
يذكر أن دائرة الأوقاف الإسلامية في المسجد الأقصى قد تسلّمت
قراراً من شرطة الاحتلال قبل حوالي أسبوعين، يُحذّر حراسها من الاقتراب من المستوطنين
داخل المسجد مسافة تزيد عن 15 متراً. وبعد حوالي تسعة أيام من إغلاق المسجد الأقصى
صباحاً في وجه النساء، سمحت شرطة الاحتلال بدخولهن في 3 سبتمبر/أيلول، فيما بقيت قوائم
الممنوعات على حالها. ورغم ذلك، تبقى الأوضاع مرشحة للتصعيد، خصوصاً مع اقتراب فترة
الأعياد اليهودية التي تبدأ منتصف الشهر الحالي.
في المقابل، تجلّى ردّ الفعل الفلسطيني الرسمي بتنظيم مؤتمر
صحافي متأخر، بمشاركة رئيس الهيئة الإسلامية العليا، عكرمة صبري، وأحمد الرويضي مستشار
الرئيس محمود عباس لشؤون القدس، وعمر الكسواني مدير المسجد الأقصى. وقال الرويضي خلال
المؤتمر إن "اجراءات شرطة الاحتلال الأخيرة، تعكس رغبتها بحسم التقسيم الزماني
تمهيداً للتقسيم المكاني".
المصدر: العربي الجديد