مخيم الجليل في بعلبك النزلاء المنسيون في مدينة الشمس
تحقيق: بلال مصرية
الأربعاء، 30 أيار، 2012
وحدها الشعارات وأقواس النصر، وصور قادة مسيرة المقاومة الفلسطينية في سبيل التحرير والعزة، وصورة شهيد مسيرة العودة محمد خليل تزين الشوارع والأحياء الضيقة مع العبارات التي تؤكد على حق العودة.
لم أكن أعلم أن الحي الهادئ المطل على قلعة بعلبك، والطرقات الفسيحة نسبياً والنظيفة الخالية من الازدحام هي أزقة أحد المخيمات المنسية في مدينة التاريخ بعلبك، المنسية من كل شيء إلا من المآسي وضيق العيش. هو «مخيم الجليل» كما تعاهد الفلسطينيون على تسميته، أو «مخيم ويفل» حسب تسمية الأونروا، أو «مخيم الدنمارك» كما عُرف لاحقاً بعد هجرة شبابه إلى الدنمارك في أواخر القرن الماضي.
ذكريات المُسنّين
من أين أبدأ جولتي ولا أعرف أحداً، تلفتُّ يميناً وشمالاً، سرتُ بمحاذاة المسجد فوقع نظري على صيد ثمين إنهما مُسنّان في السبعينات من العمر يلعبان الطاولة أبو محمد وأبو قاسم. لم يكن أبو محمد قد أنهى سنواته الأربع عشرة حتى وجد نفسه وعائلته وسط آلاف العائلات من مدن وقرى الجليل وحيفا في بلدة بنت جبيل جنوب لبنان. يومها قال له والده سنعود قريباً إلى عروس الساحل الفلسطيني «حيفا»، وما انتقالنا إلى البقاع في منطقة «عنجر» إلا خطوة مؤقتة باتجاه العودة التي طالت حتى ملّت كلمة «العودة» من معناها لكثرة ما تغنى بها الشعب الفلسطيني. ومن عنجر إلى بر الياس وبعدها إلى ثكنة ويفل وغورو في مدينة بعلبك، وما زال أبو محمد منذ العام 1948 ينتظر الموعد الذي أورثه لأولاده وأحفاده، وحتى مفتاح منزل والده ما زال معقوداً برقبته. أحبّ مدينة الشمس التي احتضنته وعائلته ولم يرغب بمغادرتها إلا إلى.. حيفا.
تاريخ المخيم
تأسس مخيم «ويفل» في بعلبك عام 1949، وغيرت الثورة الفلسطينية اسمه في العام 1973 إلى مخيم الجليل كما يقول الحاج أبو قاسم. و«ويفل» هو اسم الثكنة العسكرية الفرنسية التي منحتها الدولة اللبنانية مع مَرافقها للاجئين الفلسطينيين ليسكنوا فيها. قاطعنا صوت الحاج أبو محمد وهو يصرخ على ابنته فاطمة لتحضر لنا الشاي في حين دعانا الحاج أبو قاسم لتناول طعام الغداء في منزله.
بعد تناول الطعام تابعنا الحديث «المَرافق عبارة عن بناء آخر كان غرفاً للضباط والجنود بالإضافة إلى اسطبلات الخيول». سكن جزء من الفلسطينيين في المخيم المستحدث فيما تم ترحيل فلسطينيي ثكنة غورو إلى مخيم الرشيدية في صور. وعملياً يخضع مخيم الجليل لمنطقة عمليات وكالة الغوث الأنروا، ويكاد يكون المخيم الفلسطيني الوحيد في لبنان الذي يتناقص عدد سكانه مع مرور الزمن. ففي السبعينيات «هاجر جزء من أهله إلى مخيم البداوي في طرابلس، ومع تفاقم الأوضاع الاقتصادية الصعبة ومع غياب فرص العمل، والشتاء القارس نزح عدد آخر إلى المخيمات في المدن الساحلية، بيروت – صيدا – صور». وتطور النزوح إلى هجرة شبه جماعية باتجاه دول الخليج العربي والدول الأوروبية كالسويد والدنمارك، ألمانيا، بريطانيا.. فما من منزل إلا وفيه مغترب أو أكثر، حتى أنه بات مخيم الجليل معروفاً في الأوساط الشعبية باسم «مخيم الدنمارك». وهذه الهجرة والتناقص يفسران أيضاً عدم العشوائية والتوسع العمودي في عمران المخيم.
تأخذ الهجرة بمردودها الاقتصادي المكان الأبرز بين مصادر العيش التي تحول دون العوز، كما يشهد المخيم في فترات الصيف حركة كثيفة لزيارة أبناء المغتربين من دول الخليج والدول الأوروبية لذويهم. وما يحملونه من أموال منقولة من أبنائهم وأقربائهم وجيرانهم، وتبرز ظاهرة الزواج السريع في الصيف، حيث يكون «إكمال نصف الدين» هدف الشباب العازب المهاجر إلى الدول الاسكندنافية، وهو ما يؤثر في انخفاض سن الزواج، وفي الوقت نفسه في صعوبة زواج الشباب المتبقي في المخيم.
الوضع الاجتماعي
أما الوضع الاجتماعي داخل المخيم فهو الأفضل في لبنان أمنياً وسياسياً وخدماتياً.. قد يشكل قرار عدم السماح للفلسطينيين بالعمل في لبنان مشكلة حقيقية وظروفاً صعبة؛ إلا أنها أخفّ وطأة في مخيم الجليل من باقي المخيمات، ويعود سبب ذلك إلى أن مدينة بعلبك داخلة في مربع الحرمان والإهمال من الحكومة اللبنانية، ومعظم سكان المدينة بمن فيهم المخيم يتأثرون سلباً أو إيجاباً بالمواسم السياحية.
لقد انعكست قلة عدد سكان المخيم النسبية على أوضاعه كافة، فمنذ الخطوة الأولى داخل المخيم تبدو الطرقات الأساسية واسعة على الرغم من وجود بعض الأزقة الضيقة، خلافاً للصورة المؤلمة لباقي مخيمات لبنان، فتمتاز الشوارع بنظافتها، فيما تتناغم مداخل المنازل مع الطرقات، بحيث تنعدم الروائح الكريهة، كما يندر أن تجد طفلاً يجوب شوارع المخيم في وقت الدوام المدرسي، فمدرستا الأنروا تستوعبان كل تلامذة المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، أضف إلى ذلك رياض الأطفال الموجودة في المخيم.
نأى مخيم الجليل طوال فترة الحرب بأهله عنها، وخلال حرب المخيمات استطاع القيمون على الساحة وبالتعاون مع القوى السياسية والعسكرية المسيطرة على بعلبك آنذاك، تحييد المخيم عن الصراعات الدائرة في بيروت والجنوب.
تكلفة الشتاء القارس
ويأتي طقس بعلبك القارس ليضيف إلى ذلك ثمن المحروقات ومتطلبات التدفئة معاناة مادية أخرى على سكان المخيم، وهو عبء ترتاح منه مخيمات الساحل. أما بالنسبة إلى الصحة، وعلى الرغم من أن العيادات الموجودة تؤمّن الفحوصات الأولية وبعض الأدوية للأمراض المزمنة، إلا أن مشكلة العمليات الصعبة تبقى من دون معين.
غادرتُ منزل أبو قاسم، وفي طريق العودة سمعت قرع طبول وأناشيد أفراح علمت حينها أن فرقة صقور الأقصى كانت تحيي عرساً فلسطينياً مميزاً.
تتجول في مخيم الجليل، تدخل مدارسه، منازله، مؤسساته، تطالعك فلسطين من كل زاوية وعلى كل شفة. سنعود يوماً إلى حيفا، ونرسم خارطة الوطن على صفحات التضحية والفداء، سنرجع يوماً إلى يافا تزين عودتنا سنابل بيسان ورمال غزة ومآذن القدس.
إنهم ضيوف مدينة الشمس التي سيتذكرون احتضانها لهم هناك من الجليل والنقب.. أليس هذا هو الوعد الذي لم يزل أبو محمد يحيا لأجله شأنه شأن كل شعب فلسطين؟!