مخيم جنين... حكاية مخيَّم عاش انتفاضة الحجارة
محمد أحمد ترابي - الضفة الغربية
الحجر هو صاحب الكلمة حينها. ضرب فأوجع، وثار فألهب الأرض من تحت أقدام بني صهيون، فكانت الانتفاضة الأولى عام 1987، التى امتدّت شرارتها في جميع المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وأطلق عليها انتفاضة "الحجارة". لقد كان الحجرُ هو سلاحَ الفلسطينيين الوحيد الذي يجابَه به الاحتلال في ذلك الوقت، واستمرت تلك الشرارة الملتهبة لتستمر حتى عام 1994.
وبذكر انتفاضة الحجارة، لا بد أن تُذكَر مخيمات اللجوء، التي كان لها الدور الأكبر في إشعال فتيل الثورة، وانطلق منها ثوار كثر ضحوا بدمائهم وحريتهم، وثاروا على لجوئهم ومعاناتهم والاحتلال الذي سبّب معاناتهم.
ولتسليط الضوء على الدور الذي أدّته المخيمات خلال تلك الانتفاضة، زارت "العودة" مخيم جنين في مدينة جنين شمال الضفة المحتلة، والتقت بعدد ممن عايشوا تلك الأيام، لتضع بين أيديكم قصصاً واقعية يرويها أبطالها.
محمد سليمان محمد المصري من مواليد عام 1972، هو من الأشخاص الذين كان لهم دور فعّال خلال الانتفاضة الأولى في مخيم جنين. تحدث محمد عن طبيعة الحياة في ذلك الوقت، حيث كان المواطنون يذهبون للعمل داخل الأراضي المحتلة عام 48، بباصات إسرائيلية تسمى "إيكلد"، تأتي إلى المخيم، وكان يبلغ من العمر 15 سنة.
وأكمل حديثه راوياً بعضاً من مظاهر الانتفاضة التي حدثت في المخيم حينها، فقال إنه كانت في ذلك الوقت إذاعة القدس التي تنشر الأخبار التي تحدث في فلسطين، وكانت تبثّ الأغاني الثورية الفلسطينية التي تزيد الحسّ الثوري وتحركه في أبناء الشعب، وقال: "لقد تزودنا حينها بالحجارة والزجاجات الحارقة (المولوتوف)، وعند مرور الباصات الإسرائيلية في المخيم، كنا نرشقها بالحجارة والزجاجات الحارقة، وحينها اشتعلت الانتفاضة في المخيم بدخول اليهود المخيم وإطلاقهم النار".
وعلى أثر ذلك، تعرض محمد سليمان المصري للاعتقال سنة ونصف سنة بتهمة رميه قنبلة "مولوتوف" على باص إسرائيلي.
وأشار إلى أن مدينة نابلس كانت مقراً للسجناء في ذلك الوقت، وكان في السجن تنظيم فتح الذي كان يعمل على ضمّ المناضلين السجناء إلى داخل ذلك التنظيم والتعريف بدوره وأهدافه، فانضممت إليهم. وتابع: "عندما خرجت من السجن، كانت الانتفاضة مستمرة، وكان أسلوب ضرب الحجارة والزجاجات الحارقة والتلثيم هو السبيل الوحيدة للتصدي للإسرائيليين عند دخولهم للمخيم. وباعتبارنا من حركة فتح، أصبحنا نتعاون ونتوزع على مجموعات ونقوم بالتلثّم (تغطية الوجه بقطعة قماش) وتجهيز الزجاجات الحارقة والحجارة لمواجهة السيارات العسكرية التي كانت تدخل إلى المخيم.
انتفاضة وتكافل اجتماعي
وفي ذلك الوقت، أصبح "محمد" مطارداً من قبل الجيش الإسرائيلي، وقال: "كان كل بيت في المخيم بيت لي أثناء المطارة، وكنت لا أملك شيئاً في ذلك الوقت، ولكنني ـ رغم ذلك ـ كنت مرتاح البال؛ لأنني كنت أشعر بالمحبة بين أبناء المخيم، وكانت المحبة والأخلاق بين الناس، ولم يكن هناك أي نوع من الحقد والكراهية بينهم، وما زالوا كذلك حتى الآن. لقد كانوا يقدمون لي المساعدة أثناء هروبي من الإسرائيليين ويخبئونني في منازلهم، وعندما كنت أمشي في الطرق كنت أشعر بالأمان ولا أخاف؛ لأن الناس كانوا يحذرونني عند دخول الجيش الإسرائيلي المخيم". وقال: "لقد كانوا يقدمون الطعام لجميع المطاردين، حتى ثيابنا كانت تغسل في بيوتهم".
وتابع حديثه: "عند سقوط شهيد، كان جميع أبناء المخيم يشاركون ويتضامنون مع أهله ويقدمون المساعدات من مختلف أنواعها لهم، وكان يدفن الشهداء في مكان أصبح يسمى الآن مقبرة الشهداء".
فترة منع التجوال
وكانت سلطات الاحتلال تفرض حظر التجوال باستمرار داخل المخيمات والقرى والمدن، ويشير محمد إلى أنّ "الجيش الإسرائيلي كان في فترة منع التجوال يتمركز في منطقة "الساحة" الواقعة في المخيم، وكان جميع المطاردين يتمركزون في داخل المخيم؛ لأن السيارات العسكرية ليس لها القدرة على الدخول في زقاق المخيم، لذلك كنا لا نلتزم منع التجوال، ولكن كانت القوات الإسرائيلية تدخل إلينا من خلال "قوات المشاة"، فكان أهل المخيم كان يخبروننا بذلك فنهرب من المخيم إلى الجبال حتى نصل إلى بلدة تسمى "برقين" تابعة لمحافظة جنين التي تبعد عن المخيم خمسة كيلومترات؛ فقد كان أهلها يقدمون المساعدة لهم، وكان يُنادى بمكبِّرات الصوت في المساجد جميعُ الأهالي لتقديم المساعدات لنا. لقد كانت "برقين" مركز التخبئة لنا في ذلك الوقت.
دور المرأة في الانتفاضة
"المرأة هي التي كانت تخبز، وتجهز الطعام للمطارَدين وتغسل ثيابنا". هكذا وصف محمد سليمان محمد المصري الدور الذي كانت تؤديه المرأة في تلك الفترة، وأضاف لـ"العودة": "لقد كان للمرأة دور كبير في الانتفاضة الأولى، وكانت تعمل على مراقبة القوات الإسرائيلية والكشف على الطرقات لتنبيه المطاردين وحمايتهم".
وتابع: "ذات يوم جاءت إلينا فتاة صغيرة تركض وتقول: "اهربوا اهربوا" عند دخول الإسرائيليين المخيم، وعبّر محمد عن ذلك الموقف بأن المرأة في ذلك الوقت كانت تخاطر بروحها من أجلنا لا تهاب الموت".
وتعرض محمد خلال الانتفاضة لخمس إصابات خطرة، منها واحدة في الخصر، وأخرى في الرأس كانت سبباً لتعرضه للضرر 25 يوماً. ولقد كان من هذه الإصابات حكاية تحدث عنها لـ"العودة"، قائلاً إنه في يوم من الأيام لاحقه الإسرائيليون داخل المخيم، وأثناء هروبه أُصيب بعيار ناري في خصره، وعندما سقط على الأرض، جاءت امرأة من عائلة "أبو غليون"، فحملته وأخذته إلى رجل يعمل في مجال "الحدادة"، نقله إلى مستشفى جنين، وقال: "إن كل امرأة في المخيم كانت أمّاً بالنسبة إلينا"، وأكمل حديثه عن قصة جريح سقط أمامه كان يلقَّب بـ"التيتا" من عائلة الرخ في مخيم جنين، وقد أصابه قنّاص إسرائيلي برصاصة في عينه، كان متمركزاً في أطراف المخيم من خلال تظاهرة للأطفال بيوم الطفل العالمي حيث كان "التيتا" يبلغ من العمر ما يقارب ست سنوات.
حجارة ولثام وزجاجات حارقة
نضال أحمد أبو ناعسة، من مواليد عام 1972 من مخيم جنين، وهو حالياً مستشار لوزير الزراعة للتنمية الإدارية وبناء القرارات، كان له جزء من حديثنا معه، فقال: "لقد كنت أبلغ من العمر 15 عاماً عند اندلاع الانتفاضة الأولى، وكان أول الأحداث التي وقعت في المخيم سقوط شهيدين، وتعرضت للإصابة بعيار ناري بتاريخ 21/12/1987 في خلال المواجهات، واعتقلتني القوات الإسرائيلية عدة مرات". وقال: "لقد كانت الفاعليات في المخيم من خلال أساليب "التلثم" وإلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على دوريات الجيش الإسرائيلي".
وأضاف: "كان في المخيم نوع من التكافل الاجتماعي؛ إذ كان لأبنائه دور في إيواء المطاردين وإطعامهم. وفي فترات منع التجوال، كان أهالي المخيم يتشاركون في ما لديهم من طعام، في ما بينهم. وأيضاً في الفترات التي يخرج فيها أسير من السجون الإسرائيلية، كان جميع أهالي المخيم يتوافدون إليه وإلى أهله لتهنئتهم والاطمئنان إلى ابنهم.
أما عن دور المرأة، فقال: "كانت أُمّاً لأكثر من ابن، فقد كانت الأوضاع الاقتصادية صعبة في الانتفاضة، فخرجت المرأة للعمل في مشاغل الخياطة والتدرب على الإسعافات الأولية، لتلبية حاجات أسرتها في ذلك الوقت".
أما أطفال الحجارة، فأشار نضال إلى أن الاحتلال دمّر الأماكن التعليمية ومراكز اللهو التي يلعبون فيها. ونتيجة لذلك، تحولت وسائل اللعب لديهم من وسائل لهو ولعب إلى وسائل عنف، من إشعال الإطارات وضرب الحجارة على السيارات العسكرية الإسرائيلية، بهدف التسلية واللعب أيضاً".
مصطفى حسن أبو خُرج "أبو ميس"، من مواليد 1973 من مخيم جنين متزوج ولديه ابنة اسمها "ميس"، كان يبلغ من العمر 16 سنة عند اندلاع الانتفاضة، كان له حديث خاص معنا في كشك النثريات المتواضع المغطى بقطعة من البلاستيك لتحميه من الأمطار التي كانت تنهار علينا أثناء مقابلتنا له على جانب الطريق في وسط مدينة جنين، وهو على كرسي متحرك حيث أصيب بشلل نصفي جراء رصاصة من نوع "دمدم المتفجر" أصابه بها جندي إسرائيلي في ظهره عام 1990 خلال مواجهات داخل المخيم مع الإسرائيليين.
وقال مصطفى لـ"العودة": إن سبب اشتعال الانتفاضة هو دهس سيارة إسرائيلية مجموعة من العمال الإسرائيليين في "غزة"، وسقوط عدد من الشهداء والجرحي في ذلك الوقت، الأمر الذي أدى إلى انتقال التظاهرات إلى الضفة.
وتحدث "أبو ميس" عن العروض العسكرية التي كانت تقيمها الفصائل الفلسطينية، فقال: "كان الناس يخرجون من بيوتهم لرؤية العروض العسكرية؛ لأنها كانت إظهاراً للقوة لليهود، وتخويفاً للعملاء والجواسيس، وكان يسود الأمن بين الناس حينها".
وتكلم على دور الأطفال في الانتفاضة، بإغلاق الشوارع لمنع دخول الإسرائيليين إلى المخيم ورشقهم بالحجارة والمشاركة في التظاهرات، وكان لهم دور كبير في الانتفاضة.
أما عن المرأة ودورها، فكان الحديث عنها من خلال قصة واقعية حدثنا بها "أبو ميس" عن امرأة اسمها "سعدة القرعاوي" كان يطلق عليها "أم أحمد" استُشهدت عام 1988 أثناء مشاركتها في تشييع جنازة الشهيد "بسام الحريري" في مخيم جنين على أيدي الجيش الإسرائيلي، وقال إن المرأة في الانتفاضة كان لها دور كبير في الفاعليات، منها مراقبة الإسرائيليين وتحذير المطارَدين منهم، وإطعام المناضلين، وتطريز الرايات الفلسطينية.
المصدر: مجلة العودة ، العدد الـ63