القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الخميس 21 تشرين الثاني 2024

تقارير إخبارية

مخيم عين الحلوة: ملجأ المآسي المتّهم.. بالحفاظ على الثوابت - لينا عطوات

عاصمة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان..
مخيم عين الحلوة: ملجأ المآسي المتّهم.. بالحفاظ على الثوابت
 

على مسافة كيلومترين اثنين إلى جنوب شرق مدينة صيدا، بوابة الجنوب اللبناني، يقع مخيم عين الحلوة الأكبر والأكثر سكاناً بين المخيمات الفلسطينية في لبنان، حيث يناهز عدد القابعين فيه نحو ثمانين ألف نسمة، يتكدسون في مخيم طوله كيلومتر واحد وعرضه ثلاثمئة متر..  

أنشئ هذا المخيم منذ النكبة عام 48، وكان عبارة عن خيم تطورت في ما بعد إلى غرف من حجر الباطون المسقوفة بصاج الحديد «الزينكو»، ثم إلى بيوت الحجارة.. معظم سكانه من قرى شمال فلسطين المحتلة ومدنه وبلداته.  

تعرّض المخيم لعدد من الضربات القوية، ولا سيما في الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، حيث دُمّر جزء كبير من المخيم. أما الآن فهو يضم ثماني مدارس، وعيادتين لوكالة الأونروا، إضافة إلى مستشفيين صغيرين.  

قد تبدو صورة السلاح والاشتباكات والتوتر المتلاحق هي الانعكاس النمطي لمخيم عين الحلوة في صيدا جنوب لبنان.. لكن هذا المخيم في كيلومترِهِ المربع الواحد يحمل قصصاً وقضايا متداخلة أخطر من السلاح، وأبعد من التوتر، وأقسى من فقدان الأمن والأمان..  

الحياة في عين الحلوة تضج بتفاصيل اللجوء والفقر من جهة، وحرمان الحقوق من جهة ثانية، والاستسلام للأمر الواقع من جانب آخر..  

زواريب المخيم في غالبها لا تتحمل مرور شخصين في آن واحد، والتواءاتها تزيد الأمر سوءاً، حتى طرقاتها شبه المعبدة أصبحت تفتقر إلى الاتساع بفعل التمدد البنياني والتعدي على الشارع الذي ضاق بالسيارات، ويكاد حاله يماثل حال الزواريب، إلى حد أن بعض المباني وصلت طرفي الشارع الرئيسي من ارتفاع طابقين.  

تمديدات الكهرباء من هنا، الصرف الصحي من هناك، بنية تحتية معدومة، مكبّات نفايات تحاذي البيوت. بيوتٌ يدوم الليلُ فيها ليلَ نهار بفعل الانقطاع المستمر في التيار الكهربائي واختناق المنافذ واحتجاب الشمس عنها.. تسرب دراسي، أطفالٌ حفاةٌ أحياناً بملابس رثّة.. سوق متلاصق المحالّ، ترى فيه بائع اللحوم بجانب بائع الأحذية، وبائع الخضار بجانب بائع الألبسة، ومحالّ الأسماك والدواجن تلاصق محالّ العطورات.. فراغ كبير في أوقات الشباب، يدلّك عليه جلوسهم في الزوايا وعند الحوافّ في أي وقت يدخنون فيه السجائر أو النرجيلة..  

هكذا تنطبع لديك صورة المخيم في أول زيارة.. وتتركز في مخيلتك أكثر كلما تكررت الزيارات.. لكن هل سبب كل ذلك يقع على عاتق الذين يمسكون زمام الأمور في المخيم؟ أم أن الدولة وقوانينها التي تحرم الفلسطيني العيش بكرامة هي السبب؟ أم أن الفرد الواحد في المخيم يتحمل جزءاً من المسؤولية؟  

لا شك في أن من واجب اللاجئ الفلسطيني على نفسه التحلي بالأخلاقيات الأساسية في الحياة وبالثقافة العالية في العيش عزيزاً مرفوع الرأس، لكن لا يمكن مطلقاً إنكار الحاجة إلى العوامل المساعدة في اكتساب مهارات الحياة الهادئة والراقية بمستواها الأخلاقي والاجتماعي نوعاً ما.. وهو ما تفتقده المخيمات، ولا سيما مخيم عين الحلوة أكبر مخيمات لبنان وأكثرها سكاناً..  

مأساة اجتماعية  

أبو بسام مقدح أطلعنا باسم اللجان الشعبية في المخيم على حقائق خطيرة عن الوضع الاجتماعي في عين الحلوة. فحقيقة أن 75% هي نسبة البطالة في المخيم تدلّ على أن الوضع في تدهور إن لم يُتَدارَك. وخصوصاً أن الفئات التي تشملها البطالة معظمها من المتعلمين من مهنيين ومهندسين وأطباء.. ومما لا يخفى على أحد، أن وضع الشباب العاطلين من العمل بسبب ضغطاً نفسياً ومادياً على عائلات المخيم، ما يحتاج إلى تحرّك فوري وعاجل، وهذا ما تحاول الجهات المعنية والجمعيات الخيرية العمل عليه، بكل ما أوتيت من دعم ومقدرة..  

واقع المخيم المأسوي لم يبدأ قبل سنوات، بل هو ممتد منذ الاجتياح الإسرائيلي على لبنان عام 1982، حين دُمر المخيم تدميراً شبه كامل، ومنذ ذلك الحين لم تعمل وكالة الأونروا على ترميمه وإعادة تأهيل بنيته التحتية على نحو علمي وصحي.. الوضع هذا زاد تأزماً بمرور الزمن مع توسع العائلات، وبالتالي التمدد العمراني العمودي إجمالاً، في ظل غياب بنية تحتية سليمة، الأمر الذي شكل خطورة على وضع اللاجئين داخل المخيم..  

انقطاع الكهرباء لم يعد الأمر الأسوأ في المخيم، فتلاصق البيوت والجدران يزيد الأمر سوءاً، فلا ضوء كهرباء ولا أشعة شمس.. بل عتمة ورطوبة وحشرات وأمراض ربو لا تُعدّ ولا تُحصى.. والأخطر من ذلك هو انعدام الصحة في الصرف الصحي، حيث إن الاعتبارات العلمية في التمديدات الصحية مفقودة، وأي تصليحات فيها هو عمل فردي وجهد شخصي من اللاجئ.. ولنتخيل الأمر أكثر، فإن اللاجئين في مخيم عين الحلوة عرضة للفيضانات صيفاً وشتاءً، حين تغصّ المجارير بما فيها فتفيض أنهاراً من المياه الملوثة النجسة، وسيولاً من الروائح الكريهة النتنة، وفي الشتاء تزداد المأساة.. ولا سيما أن مياه الصرف الصحي تختلط في كثير من الأحيان مع مياه الشفة، مما يعرض أبناء المخيم لأمراض كارثية بأعداد خيالية..  

غياب المؤسسات الداعمة  

في ظل هذه الوقائع الرهيبة، يتصور البعض أن الأونروا كثفت خدماتها، لكن مقدح يؤكد لنا أنها على العكس من ذلك، فقد قلّصت خدماتها على كل الصُّعد إلى 30%، ولا سيما في المجال الصحي، والشؤون الاجتماعية.. إلا أن الأونروا تعمل من جهة أخرى على إنهاء نظام الدوامين في مدارسها في صيدا، وهذا ما حققته في المخيم وبقيت مدارس المدينة بانتظار تنفيذ قرار تحويل المدرسة إلى نظام الدوام الواحد فقط..  

ولم تكن الأونروا الوحيدة التي قلصت خدماتها، بل إن اللجان الشعبية أكدت لنا أن إغلاق منظمة التحرير الفلسطينية مؤسساتها في لبنان وجّه ضربة للوضع الفلسطيني، حيث كانت تساعد في دفع بعض المبالغ للمحتاجين، أما الآن فهي عاجزة عن معالجة الكثير من القضايا العالقة، وخصوصاً الكبيرة منها كالصحة. زِدْ على ذلك أن 20 مؤسسة أجنبية منها منظمة «أطباء بلا حدود» أوقفت أعمالها بعد اتفاق اوسلو المشؤوم..  

الوضع الأمني المهتزّ  

أمنياً، تسعى لجنة المتابعة في المخيم - التي تألفت من كافة الفصائل، قوى التحالف ومنظمة التحرير إلى جانب القوى الإسلامية- إلى توحيد جهودها منذ نحو عشر سنوات لمتابعة القضايا الأمنية داخل عين الحلوة بالتعاون المشترك للالتفات نحو القضايا الاجتماعية في هذه المرحلة الصعبة، ووضع الخلافات والاختلافات جانباً، في سبيل حفظ أمن المخيم واستقراره.. وهنا أوضح أبو بسام أن هناك علاقة قوية وكبيرة مع الجوار في صيدا المدينة من نواب وأحزاب وجيش وشرطة وأجهزة أمنية، ويهمّنا التوحد ضمن شعار «الأمن المشترك»..  

حفظ الأمن في المخيم لم يكن مهمة الكفاح المسلح فقط، ولا لجنة المتابعة وحدها، فالأمن الأخلاقي مثلاً كان من أولويات لجان المخيم، حرصاً على عدم انحراف الشباب عن المسار الوطني والأخلاقي، كما قال عبد مقدح، وفي سبيل ذلك نُشِّط عمل المساجد داخل المخيم وفُعِّل دور المشايخ لمكافحة الفساد الذي تروّج له بعض الفئات، مثل انتشار المخدرات والتدخين في صفوف الشباب، وخصوصاً العاطلين من العمل والمتسربين من المدارس.  

الجمعيات الخيرية  

مشاكل المخيم وما يعانيه أبناؤه كانت محطّ اهتمام بعض الجمعيات الخيرية والعمل الاجتماعي أيضاً، إلا أن هذه الجمعيات لا تستطيع حلّ القضايا المستعصية فيه، لكنها تحاول قدر المستطاع تخفيف المعاناة وإدخال البهجة إلى نفوس اللاجئين والعائلات المحتاجة.  

اخترنا «جمعية الفرقان» نموذجاً لهذه الجمعيات التي تعنى بالمساعدات الموسمية بالتعاون مع مؤسسات وجمعيات أخرى داخل مدينة صيدا وخارجها.. والتقينا أحد القائمين على هذه الجمعية والمتطوعين فيها، هو أبو صلاح ياسين، فأكد لنا من خلال نشاطه في العمل الاجتماعي منذ ما يزيد على خمس عشرة سنة، أن الأوضاع في المخيمات الفلسطينية عموماً وفي عين الحلوة خصوصاً مزرية جداً ومأسوية.. فالطرود الغذائية التي تُوزع في رمضان غطّت كل عائلات مخيم المية ومية شرقي صيدا على سبيل المثال، والبالغ عددها 680 عائلة، لكن عدد السكان الكبير في مخيم عين الحلوة منع الجمعية من توزيع العدد الكافي، فوزعنا ألفي طرد غذائي على ألفي عائلة محتاجة اختيرت وفقاً للوائح واستمارات ودراسات ميدانية عن وضع كل عائلة داخل المخيم، وتصنيفها بعد ذلك وفق درجات وفئات، ثم توزّع تباعاً الأولى فالأولى..  

وضمن برامج أنشطة الجمعية كسوة العيد، وقرطاسية المدرسة، إضافة إلى المساعدات الطبية، والمؤن الغذائية، فضلاً عن المساهمة في بعض مشاريع الإنشاءات.. لكن أبو صلاح شدد على أن هذه المساعدات مجتمعة من «جمعية الفرقان» والجمعيات الأخرى جميعاً هي رمزية لا تشكّل حلاً جذرياً لمشاكل اللاجئين، وخصوصاً في المجال الصحي المتدهور، فحاجة اللاجئين تفوق ما قد تقدمه جمعيات تتمول من أهل الخير وأموال الزكاة والصدقات..  

ومن المضحك المبكي قصة طريفة رواها لنا الأستاذ ياسين عن إحدى الأمهات التي سألها عن شيء تحتاجه بشدّة في منزلها ليشتروه لها، وقد كان يتوقع أن تختار ثلاجة بديلة من ثلاجتها المهترئة، أو غسالة.. لكنها اختارت شراء غرفة جلوس، وكانت المفاجأة أن السبب هو بناتها الثلاث اللاتي بلغن سنّ الزواج، حيث رأت أن العريس إن تقدم لخطبة ابنتها فلا بد من وجود مجلس لائق لاستقباله.  

هي قصة تعكس مدى المعاناة، وترد على كل من يرى أن وجود أثاث في منزل فقير أو غسالة أوتوماتيكية أو ثلاجة أو تلفاز، يعبّر عن عدم الحاجة إلى المال والعون، وأن الكلام على الحاجة ضرب من الخيال، فنحن صرنا في القرن الحادي والعشرين. ويعتقد أبو صلاح أن هذه الحاجات أصبحت أساسية وبديهية وليست معياراً للحكم على مستوى الأسرة ومدى حاجتها للمعونة، فالأثاث لا يعطي طعاماً ولا يداوي مريضاً، أو يعالج معوّقاً، ولا يوظف عاطلاً من العمل..  

وعود هي إذاً من الأونروا منذ عام 96 لتنفيذ مشاريع إصلاحية داخل المخيم، كانت تكلفتها آنذاك نحو تسعة ملايين دولار أميركي، إلا أن أياً منها لم يُنفّذ حتى اللحظة..  

ماذا بعد؟  

وسط كل هذا التقشف القسري في حياة اللاجئ الفلسطيني، فإن الحكومة اللبنانية لا تزال تجحف في منح الفلسطينيين داخل أراضيها أياً من الحقوق المدنية والإنسانية، فاللاجئ المعدوم الحال كأنه يطلب المُحال عندما يتمنى أن يتملّك بيته الذي يسكن فيه أو أن يعمل في اختصاصه العلمي أو أن يتمتع بالضمان الصحي والاجتماعي كأي إنسان كريم في العالم..  

ولكن منذ طرد الفلسطيني من أرضه وتشتته في أصقاع البلاد ولجوئه إلى بلاد شقيقة وبعيدة، لم يحظَ في لبنان بحقوق من مستوى البشر، وقد جاء بعد جيل النكبة أجيال، يقضي العمر هنا، يحيا ويفنى وليس هناك تفكير جدي في منحه فرصة العيش بعزة، وقد لا يتعدى دخله الشهري نصف معدل متوسط دخل الفرد أو حتى الحد الأدنى للأجور، فماذا يمكن أن تفعل 600 ألف ليرة لبنانية لرب أسرة يعول عائلة بأكملها. ولسخرية الحقائق، يأتي قرار حقوقي للفلسطينيين بمنحهم الحق في إجازة العمل، ولكن أي نوع من الأعمال، فهذا الحال كما يصفه أبو بسام مقدح «ضحك على اللحى»، فاللاجئ يحتاج إلى الضمان والطبابة والحق في التملك وغيرها من أساسيات الحياة الكريمة.  

مأساة المخيم القاتلة، وعلى الرغم من تأثيراتها السلبية على حياة اللاجئين وحالاتهم النفسية، إلا أن ذلّ الحاجة ومرارة الفقر وعلقم اللجوء من جهة، وطلب الحياة الكريمة والحقوق البديهية والعيش العزيز من جهة ثانية، كل ذلك لم يحُلْ دون حب الوطن والتمسك بالقضية والمقاومة وحق العودة على رأس كل الحقوق المغيبة.
لينة عطوات/ صيدا