الجمعة، 18 آب، 2023
لا يبدو مخيّم ضبية للاجئين الفلسطينيين كأنه يبعد دقائق فقط عن
الأوتستراد العام. هو أقرب إلى قرية وديعة بسيطة، تطل على البحر فوق تلة في المتن
صعوداً من فندق لو-رويال. ينأى المخيّم بنفسه عن سائر المخيّمات المنكوبة في
لبنان، ربما بسبب موقعه الجغرافي، أو ربما بسبب الاهتمام الخاصّ الذي يحظى به من بعض
الجمعيات، المسيحيّة تحديداً، التي ترى فيه ضمانةً للتماسك الفلسطينيّ المسيحيّ
المُهجّر في لبنان. بمعنى آخر، للمخيّم طابعه الخاصّ الذي لا ينطبق عليه التعميم
مقارنة بسائر المخيمات من البقاع إلى الشمال والجنوب مروراً ببيروت.
لكن لمخيّم ضبية شؤونه وشجونه الخاصة، منها ما يحكي عنها ساكنوه
وبعضها تبقى في حنايا الوجدان والقلب.
بين الأمس واليوم
استعادة سريعة لتاريخ المخيّم تتيح الاضاءة أفضل على واقعه. اقيم
المخيم عام 1956 على أرض وقف الرهبانية اللبنانية المارونية (الكسليك) واستقبل
لاجئي البصّة حيفا ويافا، وعدد من قرى
الجليل، وكانت معظم تلك العائلات من المسيحيين الفلسطينيين الكاثوليك. لذا
اهتمت بهم "الرهبانية
المارونية" و "البعثة البابوية" ولاحقاً استأجرت لهم "الأونروا"
الأرض التي بُنيَ عليها "مخيم ضبية".
خلال الخمسينيات، ولحسابات التوازن الديموغرافي اللبناني، مُنح قسم
من أهالي المخيّم الجنسية اللبنانية. لكّن ذلك لم يمنع أن يدمّر نصف مخيم ضبية
تقريباً، ويهجّر أو يهاجر عدد كبير من سكّانه إلى مناطق أخرى في غرب بيروت أو إلى
كندا والولايات المتحدة الأميركية بعد معارك مع أحزاب "اليمين اللبناني"
يومها.
استتبت الأمور لاحقاً في المخيّم، وتماهى إلى حدّ بعيد مع محيطه، وإن
حافظت هذه "النصف كيلومتر مربّع"، وهي مساحة المخيّم، على خصوصيات
تصوغها حكايا المنازل وتاريخ عائلاتها وذكرياتهم.
يسكن اليوم في المخيّم نحو 2000 شخص اليوم من الجنسيتَين اللبنانيّة
والفلسطينيّة، إضافة إلى وجود أقليّة سوريّة (نحو 40 عائلة)، اتخذته مقراً لها بعد
الحرب التي اندلعت في سوريا عام 2011. ووفقاً للإحصائيات التي حصلت عليها
"المدن"، فإن 225 من اللاجئين داخل المخيّم غير مجنّسين، فيما تمّ تجنيس
80 بالمئة من السكان، أمّا الـ20% المتبقية، فهم أشخاص لبنانيون تزوّجوا من المخيم
وبالتالي تمركزوا فيه منذ أكثر من 30 عاماً.
اقتصادياً، لا شكّ في أن أوضاع اللاجئين في مخيّم ضبية أفضل بكثير من
سائر المخيّمات لأسباب عدّة، أبرزها أن معظمهم يُعتبر لبنانياً وليس فلسطينياً
بموجب منحهم الجنسية قبل أكثر من 30 عاماً. وثانياً لأن الدولة اللبنانية لا تُطبق
عليهم الحصار الذي عادة ما يُفرض على باقي المخيّمات. وثالثاً، لأن أهالي المخيم
ليسوا متحزبين أيّ لا يتبعون لأيّ حزب أو حركة، تجمعهم قضيّة واحدة فقط تعلو على
كل الانتماءات السياسية، وهي القضيّة الفلسطينيّة.
في شوارع المخيّم:أبوابنا مشرّعة
لا تخلو شوارع المخيم الذي هو أشبه بقرية صغيرة من الحركة التي تبدأ
فيه من الساعة الخامسة والنصف صباحاً لغاية الثانية عشرة ليلاً. عند مداخله ترتفع
الشعارات الدينية المسيحية وصور القدّيسين، من مار شربل ومار الياس، والقديستَين
رفقا وريتا، وصولاً إلى السيّدة العذراء التي لها صورة أو تمثال في كلّ بيت
بالمخيم من دون استثناء. فيما تُزيّن المخيم كنيسة صغيرة، مار جاورجيوس، تجمع في
باحتها الخارجية الأهالي كلّ يوم أحد وفي المناسبات.
في جولة لـ"المدن" بأحياء المخيم، تبدو معالم
"النظافة" كما"التآخي" واضحة . فـ"الجار قبل
الدار"، كما يقولون، وهذا ما ينطبق على أبناء مخيم ضبية حرفياً، إذْ منذ لحظة
وصولك إلى بوابته الرئيسيّة، تشتمّ رائحة الخبز الطازج والقهوة الصباحية، لتلتفت
يميناً وشمالاً وتجد الجيران عند بعضهم يتبادلون همومهم الواحدة في بيوتهم التي
تتكوّن من طابق واحد أو طابقَين، فنرى الفلسطيني والسوري واللبناني على مائدة
واحدة في "صبحية" شبه يومية.
ينام أهالي المخيم دون خوف من إلقاء القبض عليهم بتهمة معيّنة، ولا
من حوادث السرقة والخطف وخلافه، إذْ ثمة نوع من الحماية الذاتية تُميّزه عن سواه.
"ننام
وأبوابنا مشرّعة، فمَن سيقترب إلى هنا؟"، يسألنا أحد المقاتلين القدامى في
حركة "فتح" ممازحاً، مشيراً إلى أن بابه الخارجي لا يقفله لأنّه
"منزوع"، وبالتالي يتركه مشرّعاً ليلاً ونهاراً، للأحبّة والجيران داخل
المخيّم الذي لم يشهد أي حوادث سرقة سابقة.
"ما بعرف
إذا بضهر من هون لوين بروح، هون عيلتي وأهلي وناسي... وريحة بلدي للي ما
بعرفو"، تقول أمّ فادي، كما يُناديها أهالي المخيم لـ"المدن"،
وتؤكد أن "أهالي المخيم يتعايشون مع بعضهم ومع محيطهم منذ سنوات عدّة من دون
مشاكل أو نعرات طائفية أو مناطقية. "كلنا واحد، ألسنا جميعنا عرب؟ عندما
اندلعت الحرب في سوريا، قدِمَ إلينا عدد من اللاجئين السوريين، أمثالنا يعني، ضيوف
على الأراضي اللبنانية، استقبلناهم بحفاوة ومحبّة، حتّى أنّنا تكاتفنا لجمع
احتياجاتهم من مؤونة وأسرّة وفرش نوم، وطناجر وأدوية وأدوات تنظيف وتعقيم وخلافه، وها
نحن اليوم نجلس على المائدة سوياً، نتبادل حكايات بلادنا ".
من جهته، يقول العمّ حسام، الفرّان، إن "الوضع العام في المخيم
تبدّل كما الحال في لبنان كلّه"، لافتاً إلى "الصعوبات المادية التي
تواجهه كربّ عمل، حيث لم يعد باستطاعته شراء كيلو من اللحم حتّى لدكانه الصغير،
لأن الأهالي غير قادرين على شراء المناقيش أساساً بعدما تجاوزت أسعارها الـ60 ألف
ليرة".
غياب للخدمات الصحيّة والتعليميّة
أمين السرّ ومسؤول اللجنة الشعبية الفلسطينيّة داخل المخيم، وسام
رفيق قسيس، يشتكي من بعض ما يحصل داخل المخيم، بدءاً من "احتلال" بعض
المنظمات للمدرسة الوحيدة الموجودة عندهم، مروراً بقضايا الفساد والمحسوبيات،
وصولاً إلى التلاعب بعقول الأهالي وأرزاقهم. في فم وسام ماء "معكرة"
كتلك التي تصل إليهم، وتسبّب لهم "الحكة" وغيرها من الأمراض الجلدية،
والمعوية أيضاً، والتي لا تصلح لا للشرب ولا لأيّ استعمال منزلي آخر.
يقول"بذلنا جهدنا لإنشاء حضانة في المخيم، إلّا أن الأمر يبدو
أعقد ممّا تصوّرنا ويحتاج إلى ميزانية محدّدة وموافقات ومكان آمن للأطفال، ونحن
نطالب "الأنروا" دائماً بتحديث العيادة المتواجدة هنا، كشراء آلة تخطيط
للقلب مثلاً و"إيكو"، أو إنشاء مختبر، باعتبار لا يوجد مستشفيات قريبة
يُمكن لسكان المخيم الدخول إليها في حال حدوث أيّ ظرف طارئ، وبالتالي عليهم النزول
إلى بيروت ممّا يُكبدهم مصاريف طائلة يعجز غالبيتهم عن دفعها، ما تسبّب بوفاة
حالتين منذ سنة تقريباً، إضافة إلى وفاة طفلة لم تتجاوز السنة منذ 6 أشهر تقريباً،
هذا من دون أن نذكر أنّنا لا نملك سيارة إسعاف حالياً، ولكننا في صدد شراء واحدة
قريباً"، يقول قسيس.
دور "الأونروا"
وفقاً لرواية الأهالي، تهتم "الأونروا" بنظافة مخيم ضبية
بشكل خاصّ، ولكن ثمة علامات استفهام كبيرة حولها.
ويكشف الأهالي عن النقمة تجاه المنظمات و"الأونروا"
تحديداً، ولسان حالهم يقول: "لولا جمعية الراهبات الصغيرات لكنا
انتهينا".
الإيجارات ومشاكل السكن
تُعتبر إيجارات المنازل مرتفعة داخل المخيم نوعاً ما، إذْ تتراوح بين
الـ250$ والـ300$ تقريباً وترتفع أكثر وفقاً لموقع المنزل، في حين أن غالبية
البيوت مملوكة من قبل الوقف المارونيّ. أمّا اشتراك "الموتور" فيترواح
بين الـ80$ والـ100$ وفقاً لمصروف كلّ منزل، فيما إمدادات المياه، فحدّث ولا حرج،
باعتبارها معدومة، وبالتالي يضطر الأهالي إلى شراء مياه صالحة للشرب أسبوعياً
بتكلفة تتروح بين الـ500 أو 700 ألف ليرة لبنانيّة.
هذا ويُشير قسيس لـ"المدن" إلى أن المنظمات بالكاد تُقدّم
القليل جداً من المساعدات المالية للفلسطينيين داخل المخيم، مع العلم أن أعدادهم
ليست كبيرة، بل هي خجولة، ومن المُعيب ذكر الرقم الذي تقدّمه في كلّ الأحوال، إذْ
لا يتعدّى الـ50$ في السنة.
استقطاب قواتي لشبان فلسطينيين
يتحدّث قسيس في سياق كلامه، عن محاولات تبذلها بعض الأحزاب السياسيّة
وفي طليعتها "القوات اللبنانية" لاستقطاب بعض الشبان، "ممّا يجعلهم
يتناسون قضيتهم. نحن ضيوف على هذه الأرض، وسيأتي اليوم الذي نعود به إلى وطننا
ونرحل، ونأمل حتّى ذلك الحين أن نبقى على وفاق وعلاقة طيّبة مع القوى الأمنية داخل
المخيم والدولة اللبنانية. ولكن للأسف، الجيل الجديد الذي نشأ وتربّى هنا، لا يعلم
الكثير عن معاناة شعبه، وبالتالي يحاول البعض استمالته لأسباب متنوعة، حتّى أن بعض
الشبان اليوم يحملون بطاقات حزبية، وينتسبون علناً لحزب القوات". يستفزّ ذلك البعض، ليس انطلاقاً من توجه هذا الحزب
السياسيّ ولا بسبب ما حصل في زمن ماضٍ طوينا صفحته، بل إيماناً منا بأن كلّ
فلسطيني على هذه الأرض أو أيّ مكان آخر لا يجب أن يتبع إلا لسفارته أو سلطة بلاده،
وغير ذلك باعتقادنا لا يجوز، حفاظاً على وحدتنا أولاً، واحتراماً للبنان الذي
استقبلنا ثانياً".
في مخيم ضبية لا فصائل، ولا سلطة تعلو على سلطة القانون والدولة
اللبنانية، فالناس تعيش بـ"حالها". يقلقهم مستقبل وجودهم على هذه البقعة
عند انتهاء عقد الإيجار بين "الأونروا" ودير مار يوسف. ومع ذلك يواصلون
يومياتهم. ينظرون إلى البحر الذي ياخذ كبارهم إلى فلسطين التي على مرمى الحكايا،
فيما الاصغر سنّاً تاقلموا و"تلبننوا" إلى حدّ بعيد.
المصدر: المدن