مــــنـــظمـــة التـــحريـــر الفـــلســـطـــيـــنـــية
2006-2011
إعداد: د. محسن محمد صالح
مقدمة
على الرغم من أن منظمة التحرير هي التي أنشأت السلطة
الفلسطينية سنة 1994، وأعطتها الغطاء والشرعية؛ إلا أن السلطة أخذت بالتضخم، بينما
أخذت منظمة التحرير بالانزواء والتراجع، لتبدو مع الزمن وكأنها أداة من أدوات السلطة.
وعملت قيادة المنظمة (وهي نفسها قيادة السلطة)
فعلياً وضمنياً على تهميش المنظمة وإهمالها، ووضعتها في "غرفة الإنعاش" بعد
أن أفرغتها ومؤسساتها من محتواها، لتكون "ختماً" تتمّ العودة إليه عند الحاجة،
لتوفير غطاء أو لتمرير قرار.
وكان المجلس الوطني الفلسطيني قد عقد عشرين دورة
منذ تأسيس المنظمة سنة 1964 وحتى سنة 1991، بخلاف النظام الأساسي الذي ينصّ على انعقاد
دورة واحدة سنوياً. ولم تنعقد في السنوات العشرين التالية (حتى سنة 2011) سوى دورة
واحدة!! أي أن المجلس فَقَد فعلياً دوره التشريعي والرقابي (خصوصاً منذ اتفاقية أوسلو
سنة 1993)، وجرى عزله وتهميشه عن صناعة القرار الوطني الفلسطيني. ثم إن تلك الدورة
التي عُقدت في نيسان/ أبريل 1996، لم تنعقد إلا تحت الضغوط الأمريكية - الإسرائيلية
لإلغاء بنود الميثاق الوطني المعادية لـ"إسرائيل" والصهيونية. وهي دورة قام
ياسر عرفات بإضافة أكثر من 450 اسماً جديداً لها، بحيث أصبح عدد الأعضاء الذين جرى
اعتمادهم لحضور جلسة إلغاء الميثاق أكثر من 850 عضواً دون علم رئيس المجلس سليم الزعنون،
ودون أخذ موافقته، أو دون إحالة الأسماء الجديدة على لجان المجلس الوطني.
كان من الواضح أن تفعيل منظمة التحرير وإعادة بناء
مؤسساتها مرتبط بملف الإصلاح الفلسطيني الشامل، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وهو
أمرٌ ما كان ليتمّ دون حوار بين فتح وحماس وبقية الفصائل، ودون الوصول إلى توافق وبرنامج
وطني مشترك. وقد تعثر ملف إصلاح المنظمة، على الرغم من أنه كان نقطة جوهرية في اتفاق
القاهرة في آذار/ مارس 2005، بسبب وجود مخاوف لدى أطراف فلسطينية وعربية ودولية من
إمكانية هيمنة حماس على المنظمة، بعد أن فازت في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني
في الضفة والقطاع أوائل سنة 2006.
كان الوضع الداخلي الفلسطيني وما زال أمام رؤيتين
مختلفتين ومسارين متعارضين في التعامل مع أولويات العمل الوطني وثوابته، وطريقة إدارة
الصراع مع الاحتلال، ومساري المقاومة والتسوية، وفي التكيّف مع الشرعيات العربية والدولية.
ولذلك، فمن الظلم تبسيط الاختلاف بين فتح وحماس، وبين حكومتي رام الله وغزة، في كونه
مجرد صراع على السلطة. فلا يمكن تفسير صمود حماس في وجه الحصار، وفي وجه العدوان الإسرائيلي
على القطاع، وإغلاق مؤسساتها، وسجن ممثليها في المجلس التشريعي، ومطاردة أنصارها في
الضفة... بمجرد الرغبة بوضع أفضل في حكم السلطة. كما لا يمكن فهم إصرار فتح على اعتراف
حماس بالاتفاقات التي وقعتها م.ت.ف، وأن تتشكل حكومة يلتزم برنامجها السياسي ببرنامج
المنظمة وشروط الرباعية؛ إلا دفعاً باتجاه برنامج سياسي يتضمن الاعتراف بـ"إسرائيل"،
والتنازل عن معظم فلسطين التاريخية المحتلة سنة 1948، ووقف العمل المقاوم. ولذلك عانى
الحوار الفلسطيني من ثلاث أزمات أساسية:
• أزمة تحديد مسار
العمل الوطني الفلسطيني، بما في ذلك ثوابته وأولوياته، وطرق إدارة الصراع، وبرنامجه
السياسي. إذ إن هناك حالة شدّ بين مسار أيديولوجي إسلامي مقاوم، متطلع للتغيير وفرض
معادلات جديدة لإدارة الصراع، وبين مسار وطني براجماتي، متكيّف مع الواقعية العربية
والإمكانات الآنية.
• أزمة الثقة التي
تعمّقت نتيجة الانقسام السياسي والفلتان الأمني، وسيطرة حماس على قطاع غزة، وقيام السلطة
في الضفة الغربية بالتعاون مع الاحتلال بمطاردة حماس ومحاولة اجتثاثها، وبسبب الحملات
الإعلامية والأمنية المتبادلة بين الطرفين.
• أزمة الضغوط والشروط
الخارجية، إذ استخدمت شروط الرباعية والمعايير الأمريكية والإسرائيلية كسيف مُسلّط
على عملية الحوار، وإن استخدمت صياغات مختلفة ومخففة. فـ"الالتزام بالاتفاقات
التي وقعتها المنظمة"، و"تشكيل حكومة تفكّ الحصار"... كانت صياغات تعبّر
عن المعاني نفسها بشكل أو بآخر. كما لم تتوقف التهديدات الأمريكية بوقف مسار التسوية،
وبقطع المساعدات، والعودة لحصار الضفة... إذا شاركت حماس في حكومة لا تستجيب لشروط
الرباعية. ولم يكن لدى الولايات المتحدة مانع من تحقيق المصالحة الفلسطينية، طالما
أنها ستكون ذات مسار واحد باتجاه فوز فتح في الانتخابات، وإعادة سيطرتها على قطاع غزة،
واحتواء حماس أو تهميشها ونزع شرعيتها الشعبية. أما أي مسار آخر فسيعني بقاء الحصار
والأزمة وتشديدهما.
ولذلك كان ما يزال أمام الفلسطينيين الكثير ليفعلوه
من أجل إصلاح منظمة التحرير وإعادة بناء مؤسساتها، وخصوصاً على صعيد بناء الثقة فيما بينهم، وتحديد برنامجهم الوطني
وأولوياتهم الوطنية بعيداً عن الضغوط الخارجية، والتوافق على التداول السلمي للسلطة.
أولاً: من اتفاق القاهرة إلى الحسم العسكري
2005-2007:
دخل الفلسطينيون في أوائل سنة 2005 في أجواء جديدة
تميل للتهدئة، ولترتيب البيت الفلسطيني، فعقدت الفصائل الفلسطينية في الفترة
15-17/3/2005 مباحثات مكثفة انتهت بـ"اتفاق القاهرة"، الذي أكد على الثوابت
الفلسطينية، وتمّ الاتفاق على إجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية، واستمرار عملية
الإصلاح في أجهزة السلطة، وعلى إعادة تنظيم م.ت.ف وفق أسس يتم التراضي عليها، وبحيث
تضم كافة الفصائل الفلسطينية.
وخلال سنة 2005 كان هناك توافق فلسطيني وشبه إجماع
على أن يكون عدد أعضاء المجلس الوطني في حدود 300 عضو بحيث يكون نصفهم من الضفة والقطاع
والنصف الثاني من الشتات (الخارج). غير أن فوز حماس بأغلبية كبيرة صدم التيار الرئيس
الذي يقود م.ت.ف ويسيطر على المجلس الوطني (تيار فتح). وصرّح الزعنون في افتتاح أعمال
المجلس التشريعي الفلسطيني في 16/2/2006 أن أعضاء المجلس التشريعي الـ 132 سيتمّ إضافتهم
إلى أعضاء المجلس الوطني البالغ 783 عضواً!! وهي خطوة أقل ما يقال فيها أنها عطلت أجواء
انطلاقة حقيقية نحو إصلاح م.ت.ف ومؤسساتها. وهو ما يعني أن الأعضاء المنتخبين سيضيعون
في بحر الأعضاء المُعيّنين!!.
سارع الرئيس الفلسطيني بعد إعلان نتيجة الانتخابات
التشريعية إلى اللجوء لشرعية المنظمة من جديد، مؤكداً على أن ملف المفاوضات يعود إلى
المنظمة، وأنها في الوقت نفسه مرجعية سلطة الحكم الذاتي وحكومتها، بغض النظر عن القوة
السياسية التي تقود الحكومة؛ حيث سعى الرئيس، من ناحية، إلى توكيد عزل حكومة حماس عن
ملف المفاوضات، ومن ناحية أخرى، إلى فرض البرنامج السياسي للمنظمة على الحكومة. ولكنه
من حيث لم يقصد، ربما، ضاعف من أهمية التوجه الفلسطيني المتسع إلى إعادة بناء المنظمة
وإعادة الحيوية لأجهزتها.
وقام الرئيس عباس بتحويل مسؤولية متابعة السفارات
الفلسطينية في الخارج من وزارة خارجية السلطة إلى م.ت.ف، بعد أن كان قد انتزعها بنفسه
من صلاحيات المنظمة قبل بضعة أشهر.
في نهاية آذار/ مارس 2006 عقد الأمناء العامّون
للتنظيمات الفلسطينية، وبحضور فاروق القدومي، الأمين العام للجنة المركزية في حركة
فتح، ورئيس الدائرة السياسية في المنظمة، اجتماعاً لهم في دمشق، واتفقوا على تشكيل
لجنة عليا لإعادة بناء المنظمة. وقد نشرت تقارير بعد ذلك تؤكد أن اللجنة المُشكَّلة
قد توصلت بالفعل إلى مسودة اتفاق لآلية إعادة بناء المنظمة. وخلال الشهور القليلة التالية،
عقدت اجتماعات أخرى في دمشق، وبحضور القدومي، ركزت على المسألة نفسها. غير أن التأثير
السياسي والمعنوي للقدومي كان قد تراجع بشكل كبير، مع تزايد خلافاته مع عباس، ومع تمكّن
عباس من إحكام سيطرته على المنظمة وعلى حركة فتح. وكان من مظاهر ذلك قرار عباس في
9/11/2006 بتعيين ياسر عبد ربه، أحد المقربين منه، أميناً لسر اللجنة التنفيذية. كما
أصدر عباس قراراً في 18/12/2006 بإغلاق مقر الدائرة السياسية للمنظمة في عمّان، وهو
ما اعتبر ضربة لفاروق القدومي، الذي انحصر عمله في الإشراف على مقر دائرته في تونس.
هذه الخلافات داخل فتح نفسها جعلت من عملية الاتفاق حول إعادة بناء منظمة التحرير أكثر
صعوبة.
ومع حالة صراع الصلاحيات والتعطيل والحصار التي
أخذت تشهدها الساحة الفلسطينية، إثر فوز حماس وتشكيلها للحكومة العاشرة، ظهرت
"وثيقة الأسرى"، التي وقعتها قيادات أسيرة في سجون الاحتلال من مختلف الفصائل
بما في ذلك فتح وحماس والجهاد الإسلامي. وتؤكد الوثيقة على معاني الوحدة الوطنية، والتداول
السلمي للسلطة، والتعاون والتكامل بين مؤسسة الرئاسة والحكومة والمجلس التشريعي والقضاء،
وعلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، وعلى المضي في إصلاح السلطة وم.ت.ف. ووافقت الوثيقة في
البند الثالث على تبني العمل التفاوضي والدبلوماسي إلى جانب العمل المقاوم، وقالت في
البند السابع إن إدارة المفاوضات هي من صلاحيات م.ت.ف، ورئيس السلطة "على قاعدة
التمسك بالأهداف الوطنية الفلسطينية، وتحقيقها، على أن يتم عرض أي اتفاق مصيري على
المجلس الوطني الفلسطيني الجديد للتصديق عليه أو إجراء استفتاء عام حيثما أمكن".
وجدت الوثيقة ترحيباً من الرئيس عباس ومن اللجنة
التنفيذية للمنظمة، لأن هناك نصوصاً يحتمل تفسيرها إعطاء الغطاء للعملية التفاوضية
التي تقودها المنظمة ورئاسة السلطة، كما تركز على إقامة الدولة الفلسطينية على الأرض
المحتلة سنة 1967، دون أن تنفي أو تثبت إن كان ذلك أمراً نهائياً، ودون أن تنفي أو
تثبت الحق في تحرير الأرض المحتلة سنة 1948، كما أنها تُحيل إقرار نتائج العملية التفاوضية
على المجلس الوطني الجديد أو الاستفتاء، مع أن موقف حماس الأساسي أن الثوابت لا يُستَفتَى
ولا يُصوت عليها.
وبعد حوارات مطولة بين الفصائل والفعاليات الفلسطينية،
صدرت الوثيقة بشكلها المعدل في 28/6/2006، مع الاحتفاظ بمعظم نصوصها، وإبقاء نوع من
الغموض المحتمل لتأويلات مختلفة، يمكن أن تستند إليها فتح وحماس وباقي الفصائل. وظلت
البنود المتعلقة بالعملية التفاوضية، مع إضافة في البند الرابع أن التحرك السياسي الفلسطيني
الشامل يجب أن يتم بما يحفظ حقوق الشعب الفلسطيني وثوابته.
وبالرغم مما بدا تنازلاً من حماس فيما يتعلق بإدارة
المنظمة والرئاسة الفلسطينية للعملية التفاوضية، إلا أن مشاورات تشكيل حكومة الوحدة
الوطنية عانت من التعثر مع استمرار الفلتان الأمني، ومع تشديد الحصار الإسرائيلي والدولي،
ومع الحملة الإسرائيلية على حماس وقوى المقاومة إثر عملية أسر جلعاد شاليط. وفي هذه
الأجواء دعا ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز في 29/1/2007 لحوار بين فتح وحماس
في مكة المكرمة. ولقيت الدعوة ترحيباً من الطرفين، حيث انعقدت اجتماعات مكثفة في الفترة
6-8/2/2007، انتهت إلى "اتفاق مكة" بين فتح وحماس، وهو اتفاق أكد على حرمة
الدم الفلسطيني، وعلى تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، وعلى المضي قُدماً في إجراءات
تطوير وإصلاح م.ت.ف؛ كما أكد على مبدأ الشراكة السياسية، وقاعدة التعددية السياسية.
سلم هنية تشكيلة حكومته إلى الرئيس عباس في
15/3/2007، الذي وافق عليها. ثم حازت الحكومة ثقة المجلس التشريعي في 17/3/2007. وألقى
هنية خطاباً أمام المجلس التشريعي اعتبر بمثابة برنامج عمل للحكومة الجديدة وجاء فيه
أن إدارة المفاوضات هي من صلاحيات منظمة التحرير الفلسطينية.
أشاع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية جواً من الارتياح
والتفاؤل والأمل بفكّ الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، والانتهاء من مرحلة الانفلات
الأمني، والتوجه نحو منطق وجوهر اتفاق مكة، والذي يقوم على قاعدة الشراكة السياسية
بين حركتي فتح وحماس (والفصائل والكتل الأخرى)، وكان من الواضح أن ذلك يشمل ثلاثة مجالات:
الحكومة ووزاراتها والهيئات المرتبطة بها، والأجهزة الأمنية، ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ولكن تبيّن سريعاً أن هناك فهماً آخر مناقضاً لمعنى المشاركة، يسود في أوساط الرئاسة
الفلسطينية والإطار المتنفذ في حركة فتح، يعتبر أن المشاركة تقتصر فقط على الحكومة
ووزاراتها، وأن المشاركة لا تشمل أجهزة الأمن ولا منظمة التحرير الفلسطينية، وأن هذين
البندين هما من اختصاص الرئاسة الفلسطينية، وشكل هذا التناقض في الفهم، لمعنى ومضمون
المشاركة السياسية، مدخلاً لإضعاف الحكومة الجديدة. ولذلك لم يحدث أي اجتماع للبحث
في تفعيل يد منظمة التحرير ومؤسساتها.
ومن جهة أخرى، قام الرئيس محمود عباس في أثناء مشاورات
إسماعيل هنية لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية بإصدار مرسوم في 2/3/2007 بتعيين محمد دحلان
"مستشاراً لدى رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية لشؤون الأمن القومي"، إضافة
إلى تعيينه "أميناً لسر مجلس الأمن القومي". وجاء في مرسوم تعيين دحلان
(المادة الثالثة)، أنه يحقّ له أن يشارك في اجتماعات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير
الفلسطينية لكي يعرض ويناقش القضايا التابعة له. وهذه مخالفة تنظيمية أساسية في إطار
منظمة التحرير الفلسطينية، إذ إن حضور اجتماعات اللجنة التنفيذية يقتصر على أعضائها
المنتخبين فقط من قِبَل المجلس الوطني الفلسطيني. وقد أثار هذا التعيين تساؤلات لدى
حماس وغيرها حول جدية الرئاسة الفلسطينية في الإصلاح والشراكة السياسية.
لم يعش اتفاق مكة سوى ثلاثة أشهر، فبالرغم من تشكيل
هنية لحكومة وحدة وطنية، حازت ثقة المجلس التشريعي، إلا أن هذه الفترة حفلت بالفلتان
الأمني، ومحاولات الإفشال الإسرائيلية الأمريكية، ومن تيار معروف في حركة فتح، كان
دحلان أحد أكبر رموزه. وقد أدى ذلك إلى صراع مكشوف بين فتح وحماس، نتج عنه سيطرة حماس
على قطاع غزة في 14/6/2007، وتشكيل لحكومتين في رام الله وغزة. وبذلك أضيف إلى النزاع
السياسي، والنزاع على الصلاحيات، انفصالٌ جغرافي وجدار من الدم، ومزيد من حواجز انعدام
الثقة، وهو ما عقَّد إمكانات التفاهم وإمكانات التعامل بروح حضارية ومؤسسية.
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات