يوم الأرض.. حين يتجدد الجرح !
رام الله – الرسالة نت
كثيرة هي الذكريات التي
تمر على شعب فلسطين المنكوب، وكل منها تزيد ألماً على الأخرى مغرقةً بممارسات
احتلالية تكاد تمحو هويته وتئد ثقافة كان يتحلى بها يوماً بين الأمم.
وبين أكوام الصور ومواكب
التشييع وأسيجة المستوطنات تبرز ذكرى يوم الأرض المثقلة بآهات ضياع شقاء السنين،
وتنهدات الدهر الجارح لكل من انتمى إلى فلسطين، حتى إذا حلت هذه الذكرى السابعة
والثلاثون حملت معها صنوفاً جديدة من الحرمان والاستيلاء دون وجه حق على أرضٍ
تصارع أشباه الرجال.
وفي هذه الذكرى تتجدد
الجراح وتنفتح المواجع حين يستذكر الفلسطينيون أساليب خادعة وأخرى ظاهرة كعين
الشمس لاحتلالٍ يريد سلب أرضهم وإحلال المغتصبين مكانهم في وضح النهار.
سرطان المستوطنات
وبين المشاهد الملأى
بآلام فقدان الأرض، تطفو صورة المسنّ عيد ياسين من إحدى قرى جنوب مدينة نابلس،
فتجاعيد وجهه الحزين تحمل معها ظلماً تجرعه على مدار أعوام طويلةً ملّها الحجر،
وتختصر دمعته المنسابة على إحدى وجنتيه كل الكلمات والأسئلة الساذجة حول ما حصل
له.
ففي عام 1967 صادر
الاحتلال 50 دونماً من أرضه لصالح إقامة مستوطنة يتسهار فيما بعد، وبعد أعوام
قليلة ادّعى الاحتلال أن تواجد المزارعين بالقرب من سياج المستوطنة يشكل خطراً على
المغتصبين، فمنعهم من عبور الأراضي الملاصقة للسور الفاصل هذا والتهم عدة دونمات
أخرى لإشباع عطشه الاستعماري، ولم يكتف بهذا القدر من الإغراق في الظلم بالطبع، فسلط
مغتصبيه على أرض هذا المسنّ ليزيدوا إمعاناً في قسوتهم.
ويقول ياسين:" بعد
مصادرة جزء كبير من أرضي أصبح المغتصبون خلال سنوات الانتفاضة يعربدون داخل ما
تبقى منها، المساحة المغتصبة وصلت إلى 100 دونم لم أستطع استرجاعها حتى الآن..
وبقيت بلا أرض!".
"وبقيت بلا أرض"
هي التعبير الذي يشترك الفلسطينيون فيه أينما وجدوا، فمستوطنات الاحتلال تلتهم ثلث
مساحة الضفة المحتلة وتنتشر على طول خريطة الوطن المسلوب لتشكل بؤراً كانت صغيرة
يوماً ما وأصبحت الآن أشبه بالمدن الرئيسية تغرق نابلس والخليل وحيفا وحتى النقب
المحتل بشعارات تدعو إلى طرد الفلسطينيين من أرضهم.
جدار النهب
وتتوالى الحكايات في
يوم الأرض وتخجل الكلمات أمام مصاب الكثيرين من سكان الضفة المحتلة الذين فُجعوا
بفقدان أرضهم بعد تشييد جدار الفصل العنصري، فهذا محمد سرور من قرية نعلين يروي عن
جرح أصاب عائلته ولا يمكن أن يندمل إلا بهدم الجدار القاتل.
في عام 2003 صادر
الاحتلال 300 دونم من أرضه لإقامة الجدار العنصري، ومنعه وأشقائه من الوصول إليها
أو حراثتها وزراعتها، وأصبحت الآن في تعداد الأراضي المصادرة التي قلّ الأمل في
استرجاعها، ولكن الأمر لم يقتصر على هذا.
فيقول سرور:" هذه
الأرض تعود لجدي وورثناها عنه، وكل العائلة تأكل من خيرها حين قلّت فرص العمل
بالنسبة لي ولإخوتي، وبعد إقامة الجدار حاولنا زراعة الأرض المجاورة له والتي تبقت
لنا، ولكن جنود الاحتلال أطلقوا الرصاص علينا وأصبت خلال محاولتي الوصول إليها
لزارعتها، وبعد يومين أعدنا المحاولة حتى جاء أحد الجنود حاملاً معه ورقة تفيد بان
هذه الأرض ممنوع علينا دخولها حفاظاً على أمن الجنود.. فأصبحت هذه الأرض البالغة
50 دونماً محروقة لا نستطيع الاستفادة منها".
وكل أشجار الزيتون وكل
ذرات التراب وكل بقايا الحجارة ذهبت وراء صفٍ مصطنع من الأحجار الضخمة التي تكاد
تمنع كل متنفس عن الفلسطينيين في أرضهم، فالجدار العنصري الذي دخل عامه السابع
كاتماً خير الأرض عنهم أصبح الآن يصادر آلاف الدونمات من أراضيهم.
وليس الجدار هذا إلا
وسيلة نهب جديدة يتبعها الاحتلال قاضياً على المهنة الأولى للفلسطينيين التي ورثوها
عن أجدادهم، فالزراعة أمست في قاموسهم كلمة قديمة لم يعد لها معنى، وأي معنى
للزراعة دون أرض؟ بل أي معنى للحياة دون أرض؟
ولا يوجد متسع في أي
مكان للحديث عما سببه الجدار للفلسطينيين، فحتى أوصال العائلات قطعها حين تمركز
بين البيت وجاره، وحتى المدارس دفنها حين منع الطلبة من الوصول إليها إلا بتصريح
خاص، وحتى المدن عزلها عن بعضها حين فصل بعنصريته الشوارع الرئيسية والطرق الواصلة
إليها، وكل شيء أضحى خلف حجارته ممنوع على الفلسطيني حتى رؤيته.
القدس.. جرح أكبر
ولم تكن ذكرى يوم الأرض
إلا مناسبة لذرف الدموع على أرض صودرت ومنازل هُدمت وأزقة استبيحت في مدينة باركها
الله وجُعلت مقدسة بين المدن، فأهلها يتعرضون لحملات "جرف" من أرضهم
ومحاولات إزالة هويتهم بمختلف الطرق.
وبعد حرب المقدسات التي
ما زال الاحتلال يشنها على القدس المحتلة، يركّز فيها كل وسائله للسيطرة عليها بل
إبادة عروبتها، فالجدار يلتهم مساحات واسعة من أراضيها والمستوطنات تملأ أرجاءها..
وزاد على ذلك حملات سحب الهوية المقدسية من أهلها وهدم منازلها، حتى إذا بدأنا
الحديث عن كل ذلك وجدنا أن أصحاب الحق أجدر برسم الكلمات.
فيقول المقدسي موسى
عودة الذي يسكن في بلدة سلوان وتسلم أمراً بهدم منزله:" ليس لنا مكان نذهب
إليه، يريدون أن يسيطروا على مكان المنزل ولكننا لن نخرج من بلدتنا، وها نحن نعيش
في أرضنا مهددين في أي لحظة بالخروج منها".
أما المسنة رفقة الكرد
التي استولى المغتصبون على منزلها في حي الشيخ جراح فتضيف:" استولوا على منزلي
ومنازل جيراني من أجل إخراجنا من القدس، هذه أرضنا ولن نتخلى عنها".
ويزيد على ذلك المواطن
حسين محمد من بلدة بيت حنينا الذي صادر الاحتلال معظم أرضه لصالح جدار الفصل
العنصري:" هذه أرضي، كيف لهم أن يصادروها بكل بساطة؟ هذه بالنسبة لنا تعب
العمر ومصدر الرزق الوحيد فكيف نتركها لهم؟".
ويضيف أبو عماد الذي
تعرض لسحب هويته المقدسية من بلدة أبو ديس المجاورة:" حين أقاموا الجدار
وهودوا القدس تعرضنا لسحب هوياتنا، وهذا لا يقل خطراً عن هدم المنازل أو الاستيلاء
عليها، فنحن أصبحنا خارج دائرة مدينتنا كي يسهل عليهم السيطرة عليها".
ويصمت الحديث أمام جرح
أهل الطفلة عبير العرامين التي سقطت شهيدة على أرض القدس المحتلة برصاص الاحتلال،
فيقول والدها بكلمات مقتضبة:" طفلتي ليست الضحية الأولى لإجرام الاحتلال الذي
يتعمد قتل المقدسيين بل وترحيلهم من أرضهم، فكم من شهيد سقط على أرض القدس؟ وكم من
معتقل ما زالوا خلف قضبانه؟".
حرب التهجير
وليس بآخر نقطة في سجل حرب
الاحتلال على الإنسان الفلسطيني وإنما بآخر ما يمكن الحديث عنه في هذا المقام،
فالفلسطينيون ممن بقوا في أراضيهم المحتلة عام 1948 يصارعون البقاء فيها، وسلطات
الاحتلال تكاد تحسب عليهم أنفاسهم داخل الأرض التي قدموا لأجلها الشهداء والجرحى
والمنازل والمساحات الشاسعة.
وتبدأ الحكاية وتنتهي
عند الخط ذاته، فالاحتلال يحاول جعل الفلسطينيين أقلية في دولته القائمة على
أراضيهم إن لم يستطع تهجيرهم منها، ويسخر لذلك الوسائل كلها من أجل طردهم وتحويل
معيشتهم إلى اللاحياة.
ويبدأ الأمر من إصدار
أوامر هدم منازلهم تحت حجج زائفة أبرزها عدم الترخيص، وتأتي هذه القرارات بعد
عرقلة ترخيص المنازل الفلسطينية وفرض تكاليف باهظة عليها ومن ثم تأجيلها والمماطلة
فيها لسنوات عدة.
وتتمثل الوسائل الأخرى
في حرمان الفلسطينيين داخل دولة الاحتلال من حقوقهم الطبيعية، فترى المناطق
العربية تفتقر لأدنى مقومات الحياة الإنسانية كالمياه والصرف الصحي والكهرباء
والاهتمام بالنظافة العامة، فبلديات الاحتلال تتعمد إغراق التجمعات الفلسطينية
بالفقر والإهمال البيئي في الوقت الذي تقدم فيه للمغتصبين خدمات عالية الجودة
ليعيشوا في مدن مختلفة المظهر عن التجمعات الفلسطينية.
أما العنصرية العمياء
فوسيلة أخرى تتركز فيها جهود الاحتلال من أجل تهجير الفلسطينيين من أراضيهم
المحتلة، فيسلط مغتصبيه عليهم لمضايقتهم والاعتداء عليهم ومن ثم يعتقل الفلسطينيين
ويحقق معهم ويفرض عليهم العقوبات، كما يمنعهم من التحرك بحرية في أرضهم حماية
للمغتصبين وينتقص من حقوقهم التعليمية والسياسية كي يفرض سيطرته عليهم.