القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأحد 24 تشرين الثاني 2024

المخيّم في الرواية الفلسطينية: عن المكان والذاكرة والألم


الأربعاء، 08 حزيران، 2022

حضر المخيّم في الرواية الفلسطينية كمكان قسري أنتجته النكبة، فدخل السّرد وبقي هناك. لكنّ صورته في الرواية تغيّرت عمّا كانت عليه في السبعينيات حين كان أيقونةً للثورة، وإذ به يحضر في بعض الروايات الحديثة كمكان للشتات والأحلام الضائعة. أصبحت له جغرافيا مختلفة تتقاطع مع الوطن في الذاكرة الحية، لكنّها لا بد من أنها تتألم. فهل خيمة عن خيمة تفرق، كما قالت «أم سعد» (1969) في رواية غسان كنفاني؟ وهل صورته في الروايات الحديثة تعكس هواجس جيل مختلف عن الجيل السابق؟ وما هي أبرز الروايات التي تحدثت عنه؟ وكيف كانت صورته في تلك الروايات؟ ثلاثة كتّاب فلسطينيين يتوقّفون عند صورة المخيم في الإصدارات الفلسطينية التي ينتمي كتّابها إلى أجيال مختلفة

◄ محمود شقير: أحد التجلّيات المُرّة للكارثة

يقول لنا الروائي والقاص الفلسطيني محمود شقير (1941) المقيم في رام الله إنّ «المخيم هو أحد التجلّيات المرّة لكارثة 1948، وقد تنوعت صوره في الرواية الفلسطينية. في رواية «ماء السماء» (2008)، رصد يحيى يخلف، بدايات تشكُّل المخيم بعد اضطرار الناس إلى مغادرة وطنهم جرّاء الغزوة الصهيونية، ثم كيف أصبح الوعي على المأساة يدفع الناس باتجاه العمل المنظم الذي يستهدف إبقاء شعلة الأمل حية في النفوس. الأمر ذاته نلمسه في رواية «العشاق» (1973) لرشاد أبو شاور ورصده للحياة اليومية في مخيمات عين السلطان والنويعمة وعقبة جبر، وفي رواية حسن حميد «تعالي نطير أوراق الخريف» التي صدرت في بداية التسعينات، هناك البؤس والمعاناة ثم بداية التحول نحو المقاومة. وفي رواية «مخمل» (1993) لحزامة حبايب، ظلّت بطلة الرواية تكافح من أجل حياة كريمة لها ولأسرتها، ثم كان مصيرها القتل على أيدي شقيقها وابنها لمجرد أنهما اشتبها في سلوكها، وهي لم تكن خاطئة. وفي رواية «سروال بلقيس» (2019) لصبحي فحماوي، كان الهمّ الأساسي للناس كيف يدبرون لقمة العيش، ثم أصبح الوعي السياسي يتبدى في سلوك الجيل الجديد».

ويتابع أنّ «هذا الوعي يتنامى ويزدهر إبّان صعود المقاومة كما في رواية «أم سعد» لغسان كنفاني، حيث الثقة في المستقبل والإصرار على المقاومة، وفي رواية السيرة لإبراهيم نصر الله الموسومة بـ «طفولتي حتى الآن»، يبدو المخيم الذي عاش الكاتب طفولته فيه، مكاناً مؤقتاً تحيا فيه، إضافة إليه نماذج بشرية محبة للحياة. تحفزها على ذلك ذاكرة عابقة بحب مكانها الأول في فلسطين، غير منقطعة في الوقت ذاته عن التفاعل مع التطورات السياسية في مكان اللجوء. وفي روايتي «مديح لنساء العائلة» (2015)، يظهر المخيم في حالة خضوع وظهور روح جديدة مقاومة فيه، وتقع أثناء ذلك بعض السلوكيات غير السوية، تتمثل في وقوع البندقية في يد غير واعية، ثم تتراجع صورة المخيم لدى تراجع المقاومة إلى حد العبث بأجساد النساء والتطاول على كرامتهن كما جاء في رواية «حليب التين» (2010) لسامية عيسى». ويرى شقير أنّ ثمة تنويعات أخرى، ففي رواية «ليالي الأشهر القمرية» (2002) لغريب عسقلاني، يعود بطل الرواية من جرّاء اتفاق أوسلو إلى المخيم الذي عاش فيه طفولته، فكأن كل هذه التضحيات لم تنتج سوى الخسارات، مع ذلك يظل الأمل قائماً في عزائم الجيل الجديد من الشباب. ويتوقف شقير عند رواية «عين المرآة» (1991) التي «توثّق فيها ليانة بدر حياة الناس في المخيم، وترصد همومهم وتطلعاتهم؛ وأحزانهم وأفراحهم، وتضع هذا المخيم عبر التفاصيل الحميمة في بؤرة الاهتمام. وفي رواية «الباطن» (2017) يقترب صافي إسماعيل صافي من أجواء المخيم المجاور للقرية، ليصور حياة الناس الذين يقاومون البؤس والشقاء بالإصرار على حب الحياة. ويكتب الأسير المقدسي حسام زهدي شاهين «زغرودة الفنجان» (2015) محدداً الأمكنة التي يتحرك فيها بطل الرواية، وهي مخيم الدهيشة ومدينتا بيت لحم ويبوس. ويكتب الأسير المحرر صالح أبو لبن «البيت الثالث» (2013) معبراً فيها عن مخيم الدهيشة الذي كان من أهم البؤر الثورية للانتفاضة الأولى. وفي «الحاجة كريستينا» (2016) لعاطف أبو سيف، تلعب المصادفة دوراً في نزع بطلة روايته من مكانها الأصلي في يافا، لتعيش في لندن، ثم في أحد مخيمات غزة، ثم تغادر المخيم في مفارقة لافتة. وفي أحد مستويات روايته «باب الشمس» (1998)، يوثّق إلياس خوري حكايات اللاجئين من أهالي مخيم شاتيلا، لضمان حفظ الذاكرة الفلسطينية وحمايتها من التبديد، والأمر ذاته في أحد مستويات «بنت من شاتيلا» (2019) لأكرم مسلم». ويختم شقير بما قاله الروائي مروان عبد العال لدى تسلمه «جائزة القدس عام 2016»: «هذه الجائزة هي وسام على صدر المخيم، وصدر الفلسطيني البسيط والفقير والطيب والمقاتل (..) المخيم الذي أنجب ناجي العلي وبطله حنظلة، وغسان كنفاني وأبطال رواياته الذين نعرفهم».

◄ ثورة حوامدة: باب لتوثيق المأساة

ترى الروائية الفلسطينية المقيمة في تونس ثورة حوامدة (1990) أنّ عبارة ««المخيم المكان والهوية» تطرح الرؤية الشمولية في السرد الروائي الفلسطيني، عن الحالة التي أصبح يشكلها المخيم في الذاكرة والتذكر. بين المكان المفتعل والهوية المستقطعة من بيئتها الأصيلة؛ تتضح إشكاليات عديدة، البداية فيها من اللجوء الإنساني كمظلمة تاريخية تهدد الذاكرة، إلى اللجوء الأدبي نحو التذكر إبداعياً عن هذا الحيز الجغرافي، والمحافظة قدر الإمكان على الأمكنة كما تركها أصحابها لا كما أصبحت عليها. مما سبق، يمكن تحديد الصورة التي حضر فيها المخيم في الأدب الفلسطيني، مرة ضمن النتيجة، أي القطع بين الطين والطين/ الإنسان والمكان. الحديث عن أكداس من البشر على مساحة صغيرة، يحملون هندسة منازلهم وأصولهم وقصصهم ومعاناتهم ولحظاتهم، لنجدها في حديثهم الأبدي قبل أن ترصد أدبياً، ليكون الوصول إلى المكان الفطري ــ فلسطين ـــ أسهل من كل ما مر عليهم في سنوات الإقصاء الاحتلالي. ومرة يكون المخيم حاضراً بصفته البداية. بداية الأشياء التي تكونت وتكوّمت وتراكمت. الجيران الجدد، الطريق الجديد، الصور الجديدة، الأم والأب كما لم يسبق لهما أن يكونا، الأحلام الموؤودة، الغياب كجزء من مشهد متروك خلف الجبال، غياب اليد عن شجرها الذي زرعته. كلها صور يلتقطها الأدب كونه شاهداً إبداعياً، تُسخّر أدواته إمكانية الحديث عن الواقع كما حدث، والأهم رصدها لترهلات الجسد في رفضه لكينونة وقدرية أن يسمى الفلسطيني في هذه المهزلة البشرية «لاجئاً»». وتضيف: «لكن هذا ليس كافياً، ببساطة؛ يمكن احتساب الوقت بدل الضائع للقصص والأعمال الروائية التي كتبت، ووثقت ضمن السرد الفلسطيني، لكنها لم تكن كافية، كانت تُراوح بين الحق والواجب. يمكن اعتبار العديد من الأعمال الروائية شاهد الموت على أحياء المخيمات. الفرق واضح بين الرواية التي تكتب عن المخيم والرواية التي يرويها المخيم. مثال على ذلك «بنت من شاتيلا» للكاتب أكرم مسلم. بناء على قراءتي لهذا العمل، يمكنني تسميتها «رواية المخيم». هذا النوع من الكتابة لا يقف عند اللجوء بصفته حالة، وإنما يصل إلى بيئة اللاجئ النفسية والثقافية، مع الأخذ في الاعتبار أن المخيم حتى اللحظة الراهنة، لا يتعدى، ضمن المنجز السردي الفلسطيني، كونه أحد أبواب توثيق المأساة. لم يصل ليكون موضوعاً يحمل قضاياه ومشارب أفكار ساكنيه. ويمكنني هنا استحضار ما قاله لي صديقي رحيم ابن مخيم الجلزون: في السياسة كما في الأدب، أبدع الجميع في أن يُجمّل هذا المكان الذي اسمه «مخيم». أجروا له عمليات تجميلية ليصبح موطناً، لكنه لم يكن يوماً موطناً. المخيم لا يمحي فكرة التهجير قسراً بقدر ما يذكرنا يومياً ببلادنا المحتلة، ولو اقتنع اللاجئ بالمخيم كموطن له، فقد بوصلة العودة».

◄ حسام معروف: بين بيئة الأصل وبيئة الطارئ

يقول الروائي والشاعر الفلسطيني المقيم في غزة حسام معروف (1981)، إنّ «المخيم الفلسطيني ـــ بصفته البناء الهندسي المؤقت ـــ حمل صفة الرمز للقضية الفلسطينية طيلة أكثر من سبعين عاماً. وهو الذي يملك خصوصية الإنسان والعلاقة الشائكة مع المكان، ومع المفاهيم والحقوق الإنسانية. فالمرء الفلسطيني يعرف ماهية العالم الهشّة، والمزيّفة، بمجرد نظرة ثاقبة إلى حال المخيم. وحينما يتعمق الأدب في تفاصيل المخيم، فإن المهمة شاقة، لأن سوسيولوجيا المخيم مبنية على التهجين في العادات وطبيعة الإنسان. هذا من جانب الوعي الجمعي، أما الوعي الذاتي، فإن الحيرة في بناء الشخصية متواجدة، في أن تكون حاملة لبيئة الأصل، وهو المكان المتجذر في ذات قاطن المخيم، أم بيئة الطارئ، وهو المخيم ككتلة سكانية مكثفة. لذا تناول المخيم كمجتمع حديث التكوين في الرواية، مخاطرة تحتمل الإخفاق من الكاتب. وهناك عشرات المحاولات من روائيين فلسطينيين، لتوصيف المخيم في أعمالهم، وقد برز دور إبراهيم نصر الله، وسحر خليفة، ويحيى يخلف، ورجب أبو سرية، لكنني أتوقف أكثر عند رواية «أم سعد» لغسان كنفاني التي يقدم من خلالها تفاصيل المخيم من خلال الحكي المنقول عن شخصية أم سعد الحقيقية. فالرواية جسدت الطبقة المسحوقة في المخيم، وكذلك بذرة العمل الفدائي المسلح، وهي كناقلة للواقع كانت الأقرب إلى شخصيات المخيّم».

(مجدي فتحي ـــ غزة)