فلسطين تنتفض ضد أوسـلـو الاقـتـصادي
الأربعاء، 12 أيلول، 2012
بقعة الزيت تنتشر.
في اسابيع معدودة، شهدت ثلاثة بلدان عربية جديدة حركات احتجاج شعبية يجمع بينها رفض سياسات التقشف التي تعتمدها حكوماتها بتوجيه من صندوق النقد الدولي. بعد السودان والاردن ها هي فلسطين تتحرك الآن ضد رفع اسعار المحروقات وضريبة القيمة المضافة على اسعار السلع الغذائية الاساسية في الضفة الغربية. وزاد الامر تأزما بسبب عجز الحكومة الفلسطينية عن دفع الرواتب والأجور عن شهر آب الماضي لموظفي القطاع العام.
لمن يحتاج الى من يذكّره: هكذا بدأت كل الانتفاضات العربية... بالاجتماعي وصولا الى السياسي، بالاحتجاج على الغلاء والفساد الى اسقاط الانظمة.
انطلق الاحتجاج الفلسطيني من اضراب لقطاع النقل شلّ المدن الرئيسية، وتضمن هجمات للمتظاهرين على مبان حكومية وقطع طرقات واحراق دواليب ولم يخل الامر من صدامات بين المتظاهرين وقوى الامن سقط فيها جرحى. يطالب المتظاهرون والمضربون بوقف العمل باتفاقية باريس لنيسان العام ١٩٩٤ بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال التي يتعهد فيها الطرف الاخير بيع المحروقات الى اراضي السلطة بسعر ينقص بنسبة ١٥٪ اقل من السعر الاسرائيلي الرسمي. لم تفِ السلطات الاسرائيلية بتعهداتها: رفعت سعر المحروقات التي تبيعها لـ«الاراضي الفلسطينية» من طرف واحد.
الاضراب مستمر ومعه أعمال الاحتجاج وقد اعلنت اتحادات المعلمين والاطباء ونقابة الموظفين العموميين الانضمام اليه. في غزة تصرّف زعماء «حماس» على اعتبار ان ما يجري يخصّ السلطة والضفة وحدهما، مع ان غزة كان لها «بو عزيزي» خاص بها في شخص الشاب ايهاب ابو ندى الذي أحرق نفسه احتجاجا على البطالة والغلاء والفساد.
ولسائل ان يسأل بقدر من السذاجة: كيف يحصل ان اغنى منطقة في العالم بالنفط ومشتقاته تعاني كل هذه المعاناة الشاملة من ارتفاع اسعار المحروقات على مواطنيها؟
مهما يكن، تقُل التحركات الفلسطينية الكثير عما آلت اليه الامور ليس فقط في ظل تطبيق املاءات المؤسسات المالية الدولية، وانما عن اتفاق اوسلو ذاته في شقّه الاقتصادي الذي نادرا ما يؤتى على ذكره مع انه يرسي الاساس المادي للاستتباع السياسي والسيادي للأراضي الفلسطينية تجاه دولة الاحتلال. فالاتفاق يكرّس اندماج الاراضي الفلسطينية جمركيا واقتصاديا بالاقتصاد الاسرائيلي ويؤسس لقيام مستعمرة غير معلنة ترتبط جوا وبحرا وبرا وعملة واستيرادا وتصديرا واقتصادا بإسرائيل. المخارج الرئيسة للأراضي الفلسطينية الى الجوار والعالم هي المعابر والمرافئ والمطارات الاسرائيلية. والعملة الرسمية في الاراضي الفلسطينية هي الشيكل الاسرائيلي. تستورد الاراضي الفلسطينية معظم مستورداتها عن طريق اسرائيل. وبرغم ان الاتفاقية الاقتصادية تقضي بحرية التجارة، وبالانتقال الحرّ للسلع والبضائع بين اسرائيل واراضي السلطة، الا ان السلطة الفلسطينية تحتاج الى إذن مسبق من السلطات الاسرائيلية لاستيراد السلع التي تستوردها. وبحسب بروتوكول باريس ذاته تنفرد اسرائيل في وضع الرسوم الجمركية على السلع المستوردة من قبل السلطة الفلسطينية وزيادتها من طرف واحد. في المقابل، فإن ٨٥٪ من الصادرات الفلسطينية تصدّر لإسرائيل. ومن اسرائيل تستجرّ الاراضي الفلسطينية الكهرباء ومنها تتموّن بالمحروقات. فتبيع إسرائيل المحروقات للسلطة فتفرض هذه رسومها والضرائب التي تسهم في تغطية النفقات العالية للسلطة وأبرزها لدفع رواتب الموظفين.
وللمناسبة ذاتها، فإن الحراك الشعبي الحالي يعيد تذكيرنا بأن السلطة الفلسطينية ذاتها «نظام»: نظام عربي لا يختلف كثيرا عن سائر الانظمة العربية المتحدرّة من حركات التحرر العربية. يرتكز على شراكة بين سياسيي حركة فتح بالدرجة الاولى ورجال اعمال الشتات وقادة أجهزة الامن. سوف يقال: ومثله مثل سائر الانظمة الجمهورية العسكرية الاستبدادية، يجمع النظام الفلسطيني الانفراد والسلطوية ـ خصوصا بعد الغاء انتخابات نيابية جاءت بالمعارضة الى السلطة واسهمت في الانقسام الفلسطيني الجغرافي والسياسي ـ الى التوجهات النيوليبرالية يجسّدها ويمارسها رئيس وزرائه سلام فياض. وفوق توجد في الاراضي الفلسطينية تنظيمات معارضة قومية ويسارية لا تتخطى كثيرا دور «معارضة صاحبة الجلالة». ويمارس رأسماليو الشتات، في ظل هذا النظام، ما يكفي من الضغوط لتغليب القطاعات المصرفية والاستيرادية والعقارية على حساب الصناعة والزراعة، ويروجون لمقولة ان التحالف الاقتصادي الاسرائيلي ـ الفلسطيني هو أسلم طريق للسلام بين الشعبين... الخ. ولا بدّ من القول ان الرأسمالية الحمساوية المؤمنة في غزة ليست بأوفر حالا وهي تفبرك حديثي النعمة يراكمون الثروات عن طريق تهريب السلع والبضائع عبر الانفاق العابرة للحدود مع مصر.
لم تخطئ الجماهير العربية المنتفضة مرة الحساب بالنسبة للمسألة الوطنية. لم تتحرّك الجماهير ضد النظام السوري الا بعد جلاء الاحتلال العسكري الاميركي عن العراق. وبعدما تكشّف انهيار سياسات الممانعة والمأزق الرسمي الكامل في قضية تحرير الجولان. وهذه اول مرة تضرب جماهير فلسطينية وتتظاهر ضد السلطة الوطنية بهذا القدر من الاتساع والحدّة. لم يخطئ حسّها الوطني. لم تتحرّك الا في مناخ من الاستنقاع الكامل للمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية ومن وصول «العملية السلمية» الى مأزق جراء اطاحة السلطات الاسرائيلية بالقسم الاوفر من بنود اتفاق اوسلو، ورفضها الانسحاب من المناطق المتفق عليها، وتنفيذها سياسة قضم الاراضي عن طريق الجدار وعن غير طريقه، وزحف الاستيطان والتهويد وسواها. الى هذا يجب ان تضاف ثلاث ظواهر:
÷ انهيار خرافة الوسيط الاميركي النزيه، واكتشاف المفاوضين الفلسطينيين انهم يفاوضون وفدا اميركيا - اسرائيليا مشتركا.
÷ الاستهتار الاسرائيلي والاميركي الكامل بمبادرة السلام العربية، المنسوبة للملك عبد الله بن عبد العزيز. وقد بات الجواب التصعيدي على مبادرة تقول بالسلام الكامل في مقابل عودة جميع الاراضي المحتلة عام ١٩٦٧ هو الدعوة الى الاعتراف بإسرائيل بما هي دولة يهودية.
÷ الاستغلال الاسرائيلي للنزاع الخليجي - الايراني للدفع بسياسة نتنياهو الرامية الى تحويل العداء لإيران الى العداء الرئيسي في المنطقة بدلا من العداء لإسرائيل.
لا شك في انه يدور في خلد قادة فلسطينيين التذرّع بذريعة الاستثناء التي ساورت كل حاكم عربي قبلهم، فكيف اذا كان الاستثناء هو فلسطين؟ والى ذريعة الاستثناء تنضاف الخورجة والتسييس. في مجال التسييس، بدأ الحديث باكرا عن توظيف الحراك الشعبي في الخلافات بين اجنحة حركة فتح. اما الخورجة فيلتقي عليها رئيس السلطة ورئيس الوزارة: الاول يعزو الازمة المعيشية الى حصار تفرضه دول عربية لم يسمّها، والثاني يعزو الازمة الى سبب وحيد هو الاحتلال.
بناء عليه، تطالب السلطة الفلسطينية سلطات الاحتلال بإعادة مناقشة اتفاقية باريس الموقعة في نيسان ١٩٩٤، وهي بمثابة اتفاقية اوسلو الاقتصادية، بغرض تعديلها. رد الفعل الاول للمسؤولين الاسرائيليين هو التشكيك في جدّية الطلب. والتساؤل الاول على هذا الطلب هو: هل يمكن تغيير أوسلو الاقتصاد من دون المساس بأوسلو السياسة والسيادة؟ فالحرمان الذي تعانيه جماهير فلسطين في حقوقها الاقتصادية والاجتماعية ليس اسوأ من الحرمان الذي تعانيه في حقوقها الوطنية. ولعل السلطة في اثارتها مسألة اوسلو الاقتصادي كمن جاء بالدب الى كرمه.
فإذا كان التسييس والخورجة هما كل ما تملكه السلطة للتعاطي مع أزمة بطالة وغلاء معيشة وفساد وسياسات تقشف تطبّق على الاكثرية لحماية الثراء الفاحش للأقلية المتناقصة، يرجح ان التحركات الشعبية سوف تتصاعد، جريا على ما تعلمناه من انه ما من حاكم عربي افاد من اخطاء زميل له. فاذا لم تشكل السلطة الفلسطينية استثناء في هذا المجال، فلن نستغرب ان يسير السياسي والسيادي في ركب الاقتصادي، وان تتعالى قريبا هتافات تقول: «الشعب يريد اسقاط اوسلو».
المصدر: فواز طرابلسي - السفير