القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

في مئوية بلفور: بريطانيا تواصل خداع العرب الفلسطينيين… فخر بإنشاء دولة ووعد بحل دولتين

في مئوية بلفور: بريطانيا تواصل خداع العرب الفلسطينيين… فخر بإنشاء دولة ووعد بحل دولتين

الإثنين، 06 تشرين الثاني، 2017

في العام الماضي عندما ناقشت الحكومة البريطانية ماذا ستفعل مع مئوية «الوعد المشؤوم» الذي قطعه وزير خارجيتها سير أرثر جيمس بلفور لرئيس الجالية اليهودية سير ليونيل وولتر روتشيلد في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917. وكان القرار أنها ستتذكر المناسبة «تحييها» ولن تحتفل بها. لكن ما حدث احتفال بريطاني وإسرائيلي. ولا أحد يلوم الإسرائيليين فقد كان الوعد وثيقة تأسيس دولتهم.

ولكن محاولتهم منع المعارضة للوعد الذي كان وثيقة نكبة الفلسطينيين استمرار لنفي الرأي المعارض. فقد اتهم السفير الإسرائيلي في لندن مارك ريغيف من يعارضون «وعد بلفور» بالمتطرفين فيما قالت نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي تسيفي هوتفلي بأن إسرائيل لا تحتل الضفة الغربية بل تسيطر على «يهودا والسامرة» أرض اليهود «التاريخية» وأن الفلسطينيين هم الرافضون للدولة، متحدثة بلهجة متغطرسة من أن إسرائيل انتصرت على العرب في كل حرب شنوها عليها خلال السبعين عاما الماضية. ولم تختلف لهجة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي وصل لندن في زيارة لمدة خمسة أيام عن لهجة الآخرين عندما اعتبر أن المطالبة بمقاطعة إسرائيل لن تؤدي إلى دولة فلسطينية. ووسط هذه التصريحات الوقحة صبت تريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية الزيت على النار عندما أخبرت البرلمان بأن بلادها «فخورة» بوعد بلفور مع اعترافها بوجود «حساسيات» لدى البعض. وكما علق روبرت فيسك، الصحافي في صحيفة «إندبندنت» (2/11/2017) فلم تقصد ماي هنا اللاجئين الفلسطينيين ولا العرب لأن بلفور وشلته اعترفوا بعد شهر من صدور القرار أن أماني الشعب الفلسطيني لم تكن في حسبانهم. وكان هذا واضحا من صيغة الوعد الذي لم يذكر العرب – مسلمين أو مسيحيين سكان فلسطين والذين كانوا يشكلون في بداية القرن العشرين غالبية السكان، أما اليهود الذين تعترف حكومة بريطانيا بدعم أمانيهم فلم يكن عددهم يتجاوز الـ 10٪، وكانت غالبية من اليهود المحافظين الذين تمتعوا بقدر من الاستقلالية الدينية في ظل الحكم العثماني. وهذه المجتمعات «غير اليهودية» كانت موضوع اهتمام بوريس جونسون، وزير الخارجية الذي لم يخف إعجابه بسلفه بلفور وكتب مقالا نشرته صحيفة «ديلي تلغراف» (31/10/2017) من على المكتب نفسه الذي دبج فيه بلفور رسالته المكونة من 67 كلمة وغيرت وجه المنطقة ولا تزال محلا للغضب ومصدرا للنزاع. وكما أكد جونسون أن وعود بريطانيا أدت لولادة «أمة عظيمة» تحولت لواحة ديمقراطية في جوار سيء. وتذكر جونسون كيف تطوع في شبابه للعمل في التعاونيات الاشتراكية «كيبوتس» والتي وإن عمل فيها غاسل صحون إلا أنها مكنته من رؤية المعجزة الإسرائيلية. لكن الوعد كما يرى يظل غير منجز لأن ما تضمنته الرسالة من ضرورة حفظ الحقوق الدينية والمدنية لغير اليهود لم يتحقق. وكتب قائلا: «أنا فخور بدور بريطانيا في إنشاء إسرائيل وأن حكومة صاحبة الجلالة ستعلم مرور قرن على إعلان بلفور الخميس بهذه الروحية». وأضاف أنه لا يرى «تناقضا بين أن تكون صديقا لإسرائيل وأن تشعر بقوة بمعاناة أولئك الذين تضرروا ونزحوا بسبب ولادتها»، مشددا على أن النقطة الجوهرية في وعد بلفور وهي حماية الطوائف الأخرى لم تتحقق بشكل كامل. ويعتقد أن الحل يكمن في تقرير لجنة بيل عام 1937 والذي دعا لدولتين فلسطينية ويهودية بالإضافة لقرار 242 الذي صاغه بريطاني آخر وهو لورد كارادون والذي دعا لمقايضة الأرض مقابل السلام. وأيا كانت رؤية جونسون فهو يعرف ان دولة فلسطينية لن تقوم بناء على ما يطرحه وإن اعترف بالحقائق التي خلقتها إسرائيل على الأرض.

الوعود الكاذبة

وخطيئة بريطانيا تظل قائمة بالنسبة للفلسطينيين والعرب التي قدمت وعودا كثيرة في أثناء الحرب العالمية الأولى ولم تف إلا بوعد لم يكن لها حق في تقديمه، فكما قال الروائي اليهودي المجري أرثر كوستلر فـ «هنا شعب يعد شعبا بلد شعب ثالث». ومع أن مؤلف وعد بلفور لم يكن واضحا فيما عناه «بالوطن» ومع ذلك تعددت الدواعي وراءه، وفيما إذا كانت بريطانيا مدفوعة في أثناء الحرب العالمية الأولى بفكرة أن اليهود هم حكام العالم ولديهم القدرة على إقناع أمريكا الدخول في الحرب أو ربما كانت مدفوعة بدوافع مسيحية دينية أو لمكافأة حاييم وايزمان، اليهودي الروسي الذي طور سلاحا في جامعة مانشستر كان ناجعا في الحرب. وقد تكون محاولة منها التأثير على فرنسا خاصة أن فلسطين حسب اتفاق سايكس – بيكو اقترح وضعها تحت إدارة دولية. إلا أنها مثل بقية الوعود التي وعدتها للفرنسيين وشريف مكة ستتخلى عنها وستجد نفسها بعد ثلاثين عاما أمام واقع خلقته وحاولت حله عام 1939 وهو الحد من الهجرة اليهودية لفلسطين إلا أنها لم تكن قادرة فقد كون اليهود عصاباتهم المسلحة وما جرى في الحرب العالمية الثانية والمذابح التي ارتكبها هتلر سرعت المشروع الصهيوني والهجرات اليهودية التي لم تجد بريطانيا المنهكة بعد الحرب العالمية الثانية إلا الرحيل عام 1947 تاركة وراءها فلسطين تشتعل. ولا بد من الإشارة إلى أن بلفور الذي كان متعاطفا مع اليهود كان نفسه الشخص الذي عمل على إقرار قانون الغرباءعام 1905 الذي حد من هجرة اليهود وغيرهم إلى بريطانيا. ولم تكن لندن وقت صدور القرار واثقة من الطريقة التي ستنجز فيها الوعد الغامض. وكان وايزمان الذي انتظر أمام الغرفة التي اجتمعت فيها وزارة الحرب وهي تناقش قرار بلفور محقا في رد فعله الأولي على ما نقله إليه مايك سايكس، «ولد.. ولد.. يا وايزمان». فقد كتب هذا لاحقا إنه لم يكن «الولد الذي توقعه». إلا أن اعترافا من دولة عظمى كان كافيا للحركة الصهيونية كي تبدأ العمل على تنفيذ خطتها. ومع صدور قرار التقسيم عام 1947 كان لدى اليهود القوة التي جعلت ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل يقول: «لا يهم ما يقوله الغوييم ولكن ما يفعله اليهود». وعلقت مجلة «إيكونوميست» (27/10/2017) قائلة إن كلام بن غوريون حاضر اليوم فإسرائيل لا تهتم بالرأي العالمي ولديها أصدقاء كثر في العالم وكان آخرهم رئيس الوزرا ء الهندي ناريندرا مودي الذي يعتبر أول مسؤول هندي يزور إسرائيل. ولا تنسى الدول العربية والخليجية التي تقيم علاقات سرية معها. ومهما يكن فالعلاقات والقوة التكنولوجية ليست كافية لأن إسرائيل تحن، كما تقول المجلة، إلى بعد أخلاقي. وترى أن محاولات الرئيس الفلسطيني محمود عباس الحصول على اعتراف دولي تذكر بمحاولات وايزمان قبل قرن مشددة على أن الحل يبدأ من داخل الفلسطينيين والإسرائيليين.

تصحيح

لكن عباس بدا في مقالته بـ «الغارديان» (1/11/2017) متقبلا لواقع وعد بلفور فما حدث في الماضي لا يمكن تغييره ويمكن تصحيحه. ومن هنا دعا بريطانيا التي وضعت ختمها على الوعد البدء بتصحيح أخطائها والعمل على إنهاء الاحتلال والاعتراف بدولة فلسطينية عاصمتها القدس. وأكد عباس على أن وعد بلفور:»ليس مناسبة يحتفل بها، وبالتأكيد لا عندما لا يزال طرف يعاني من الظلم. فإنشاء وطن لشعب أدى لاقتلاع واضطهاد مستمر لشعب آخر وإلى خلل عميق بين المحتل والشعب الذي فرض عليه الاحتلال. ويجب والحالة هذه معالجة الخلل وبريطانيا تتحمل مسؤولية في هذا. ويجب تأجيل الاحتفال عندما يحصل كل واحد في هذه الأرض على الحرية والكرامة والمساواة».

نقطة تحول

كان وعد بلفور نقطة تحول في تاريخ الامبريالية، وصدر في وقت كانت فيه بريطانيا قادرة على التحكم بمقدرات الشعوب ومنح أرض هذا الشعب لآخر. لكن بريطانيا تريزا ماي التي تجد صعوبة في استكمال إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي لا حيلة لها اليوم مثل الأمس ولكنها تتحمل مسؤولية أخلاقية عما جرى للشعب الفلسطيني. ومن هنا يجد من أيدوا الوعد اليوم أنفسهم على منعطف طريق وهم يواجهون تداعيات القرار. وحتى صحيفة «الغارديان» التي كان رئيس تحريرها سي بي سكوت عاملا مهما في صدور القرار وقدم وايزمان لرئيس الوزراء جورج لويد، بل وكتب مقالات عدة في الدفاع عن الحركة الصهيونية ترى أن ما دعمته في الماضي لم يتحقق كما أرادت. ومهما كان كلامها في افتتاحيتها ليوم (2/11/2017) إلا انها ترى في الوعد وثيقة تأسيس لإسرائيل التي أصبحت أمرا واقعا، مشيرة إلى أن العالم في محاولته التكفير عن أهوال المحرقة النازية غض الطرف عن دفع الفلسطينيين ثمن جريمة لم يرتكبوها. وتضيف أن هذا الفهم المتأخر للظلم الذي حل بالفلسطينيين يبرر حصولهم على دولتهم، مضيفة أنها دعمت في 1917 واحتفت بوعد بلفور بل يمكن القول إنها ساعدت في صدوره «ولكن إسرائيل اليمين ليست البلد التي كنا نتطلع إليها أو نريدها. وتديرها حاليا أكثر الحكومات يمينية في تاريخها ويجرها المتطرفون دائما نحو اليمين». وتقول إن الفلسطينيين يعيشون وضعا أكثر سوداوية حيث يعيش ما يقارب 5 ملايين منهم تحت الاحتلال الذي استمر خمسين عاما بالإضافة إلى 1.7 مليون فلسطيني يعيشون في إسرائيل كأقلية تحت الضغط على ألا يغضبوا الأكثرية اليهودية. وبعض أحزابهم السياسية ممنوعة وعادة ما تستخدم حجة الأمن القومي لتبرير قوانين المواطنة العنصرية.

وتضيف أن الفوضى في الشرق الأوسط ساعدت على تهميش القضية الفلسطينية دوليا. وترى أن حل الدولتين أصبح مهربا مناسبا أمام تأكيد حل الدولة الواحدة. وتعترف أن إثم بلفور يكمن في منحه حقوقا وطنية لشعب واحد وليس للشعبين اللذين يدعيان ملكية الأرض.

ولا يمكن تكرار هذا فالفلسطينيون بحاجة ليتمكنوا من حكم أنفسهم في دولة معترف بها على أنها دولتهم.

الخطيئة

وتظل مئوية بلفور التي جمعت كلماته في سياقها خطط الحرب والدعاية الحربية والرومانسية الدينية التوراتية والعقلية الاستعمارية، وبالضرورة تعاطفا مع الفكرة الصهيونية، صورة عن الانقسام الحاد الذي كرسته الامبريالية البريطانية في الأرض المقدسة، وهو انقسام بدا واضحا من العدد الضخم للمناسبات والأفلام والمقالات التي كتبت عنه. ففي الوقت الذي رقصت فيه إسرائيل في لندن وعادت للوثيقة التي يحتفظ بها المتحف البريطاني، حاولت بريطانيا أن تدافع عن قرارها، خرج الفلسطينيون وداعموهم بتظاهرات وأقاموا المؤتمرات التي ذكرت العالم بعدالة قضيتهم، فمن «مشروع بلفور» و«اعتذار بلفور» و «100 طريق بلفور» وحملات إعلانية عن كيف كانوا وكيف أصبحوا وهي الحملة التي رفضت مؤسسة نقل لندن عرضها بسبب الحساسية أو مخاوفها. ورغم ما يوجد من شبه بشأن المعركة على بلفور مع نزاعات تتعلق بالتخلص من الاستعمار مثل المطالب بنزع تمثال الاستعماري سيسل رودس من جامعة أوكسفورد وكيب تاون ومعاملة الماو ماو في كينيا ومطالبة فرنسا بالاعتذار عن جرائمها في الجزائر إلا أن الموضوع الإسرائيلي- الفلسطيني أعقد، كما يرى إيان بلاك في كتابه «أعداء وجيران».

فالقضية لا تزال محتدمة على خلاف القضايا التي دخلت «نفاية» التاريخ. وهو ما يجعل من ذكرى بلفور مهما للتذكير بحالة الضحية وموقف المجرم والقاتل. وكما قال المؤرخ الإسرائيلي المعروف أفي شاليم فقد وضعت بريطانيا «حول عنقها حجر الرحى» لأنها أثارت غضب الصهيونية المتعجلة والعرب والمسلمين الغاضين. ولكن لا يمكن فصل «الوعد» عن العقلية الاستعمارية التي صنفت العرب في فلسطين «بالآخر» غير اليهودي وهي رؤية «أبوية عنصرية» حسب حنان عشراوي. ولأن بريطانيا كما كتب جورج أنطونيوس، عام 1938 في كتابه «يقظة العرب» حنثت بما وعد به سير مكماهون للشريف حسين «فالوعد تنقصه الشرعية الحقيقية لأنها التزمت سابقا بدولة عربية في فلسطين ولأنها قدمت وعدا لا تستطيع الوفاء به بدون الموافقة العربية». ولم يوافق العرب بل شعروا كاليوم بأنهم خدعوا، وهذا هو إرث بلفور الحقيقي.

المصدر: القدس العربي