د. مازن النجار: نهوض الأمّة يصبّ في مصلحة القضية الفلسطينية
المطلوب رؤية استراتيجية تعيد فلسطين إلى حاضنتها العربية الإسلامية
د. مازن النجار أكاديمي مختص بالإدارة الصناعية ونظم الإنتاج، وكاتب وباحث ومترجم في شؤون السياسة والفكر والاقتصاد والتاريخ والاجتماع، مع اهتمام خاص بقضايا النهضة.
في حواره مع «فلسطين المسلمة» يتناول الثورات العربية وتأثيرها على القضية الفلسطينية:
- هل الثورات العربية في مصلحة القضية الفلسطينية؟
نعم بالتأكيد، فالشعوب التي ثارت لكي تسقط أنظمة الظلم والقمع والتغول على حقوقها وحياتها وأقواتها ومستقبلها ونجحت في ذلك، لا يمكن لها بطبيعة الحال أن تقبل بالظلم الذي تعرّض -ولا يزال يتعرض- له الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل، وفي المنافي وبلاد اللجوء. تمثل الثورات العربية مرحلة جديدة من الحراك الشعبي ونهوض الآمال والطموحات الكبرى في الشرق كله، وتغيّراً جذرياً في توازن القوى بين جماهير الأمّة وبين النخب الفاسدة وقوى الاستكبار العالمي المساندة لها. وهذا كله -في المحصلة- يصبّ في مصلحة قضية فلسطين، القضية المركزية للعرب والمسلمين.
- كيف يمكن للثورات التي انتصرت أن تدعم المقاومة؟ وما حدود هذا الدعم؟
ينبغي أولاً للفلسطينيين تثبيت سقف مطالبهم وتطلعاتهم وعدم التراجع أو التنازل قيد أنملة عن حقوقهم التاريخية والقانونية والشرعية في بلادهم ومستقبل أجيالهم الراهنة والقادمة في الوطن السليب، خاصة «حق العودة»، وأن يكون هذا الحق مفتاح المشروع العربي الإسلامي لتفكيك الكيان الصهيوني ومعه كل شروره وآثامه ومخاطره على العالم العربي والإسلامي والإنسانية؛ من ثم لا بدّ من التزام جميع العرب والمسلمين وأصدقائهم بهذه الحقوق.
أهم مظاهر الدعم المطلوبة هو أن تكف الدول العربية -بمحدودية رؤيتها وضيق أفقها- عن احتكار التعاطي مع قضية فلسطين، باعتبارها عبئاً ينبغي التخلص منه، ومع الشعب الفلسطيني باعتباره مشكلة أمنية مزمنة ينبغي استئصالها أو حظرها أو حصارها. المطلوب أن تنفتح سبل التعاطي والنضال في سبيل هذه القضية أمام كل مواطن عربي بصرف النظر عن إمكاناته أو مساهمته، فذلك يفتح المجال لدخول موارد بشرية وفكرية واجتماعية واقتصادية وعملية لا نهاية لها إلى ساحة المواجهة مع المشروع الاستيطاني الامبريالي الإحلالي الصهيوني، ومع الأساطير التي أسست هذا المشروع والمغالطات التي استدامته، وهو دعم لا حدود له.
- هناك من يقول إن الثورات العربية أهملت القضية الفلسطينية لصالح قضايا محلية ومعيشية أخرى، ما رأيكم؟
في العقود الثلاثة الأخيرة، لم تكن لقضية فلسطين الأولوية اللائقة بها في أي قُطر عربي، أي قبل اندلاع الثورات العربية تحديداً. فلا مجال للقول إن هذه الثورات أهملت قضية فلسطين، أو سببت تراجع قضيتها لصالح قضايا محلية ومعيشية. كذلك، ينبغي هنا -من ناحية- الاعتراف بأن الشعوب العربية بحراكها وثوراتها قد تجاوزت الحالة الفلسطينية الراهنة التي تحتاج بدورها إلى تثوير وتنوير واستنهاض وتجاوز لحالة الركود والانكماش وتدافع الفصائل القائمة، والتي هي بدورها عبء على القضية والشعب، لأجل أن تواكب الحالة الثورية العربية. ومن ناحية أخرى، لا يمكن لهذه الشعوب أن تتقدم باتجاه فلسطين وقضيتها بينما هي معرضة لمؤامرات ومكائد فلول النظام السابق وعملاء الصهيونية والامبريالية، والاضطرابات الأمنية والاقتصادية، وخيانة بعض النخب السياسية للأمة وميراثها الروحي والأخلاقي والمعرفي وحضارتها. فلا بد لها من إزالة ركام الباطل قبل إقامة الحق وتقديم الدعم والنصرة، عملاً بقاعدة «التخلية قبل التحلية». والمؤكد أنه حالما تستتب الأمور لصالح الثورة العربية وجماهيرها، سنرى نهوضاً وتأثيراً لا يستهان به، وسيصل إلى الشأن الفلسطيني.
- نتيجة التركيز على الشأن المحلي الذي قد يستمر لسنوات طويلة، يمكن لـ(إسرائيل) أن تستثمر ذلك في خلق أمر واقع من استيطان وتهجير، فلا يمكن بعد ذلك تغييره، ما رأيكم؟
الثورات العربية غيرت المشهد الاستراتيجي الإقليمي جذرياً، خاصة فيما يتعلق بقدرة الكيان الصهيوني على التأثير والفعل إقليمياً، وتوشك أن تغيّر بعض توازنات القوى في الإقليم. ويدل على ذلك مقارنة بسيطة لأداء العدو ولردود الفعل العربية -رسمياً وشعبياً- في عدوانه على غزة في كانون الأول/ديسمبر 2008 وكانون الثاني/يناير 2009 وعدوانه الأخير في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، لترى المأزق الذي وصلت إليه رؤية واستراتيجية وأداء الكيان الصهيوني وإخفاقاته في تحقيق ما يسمى بـ«ترميم الردع الاستراتيجي». وفي ضوء ذلك، لنا أن نسأل عن قدرته الآن على ضرب أو إجهاض المشروع النووي الإيراني بدون المشاركة والقيادة الأمريكية.
لكن يبدو راهناً أن وتيرة استيطانه وتهويده ستستمر أو تتسارع استباقًا أو تحسبًا للتغيرات الإقليمية القادمة، لكن قدرته على التهجير الجماعي (الترانسفير) تبدو غير قائمة، وإن استمرت جهوده وإجراءاته للتضييق على أهل البلاد في غزة بالحصار والتدمير، وفي الضفة الغربية بالاستيطان، ومصادرة الأراضي، وتقطيع أوصالها، ومئات الحواجز الأمنية، وسور الفصل العنصري، ونزع الهويات، ومنع لم شمل العائلات، وتهويد القدس الشريف لاجتثاث الفلسطيني من وطنه.
- بعض الثورات اجتاح دولاً كانت تُصنّف بالممانعة، ألا يمكن أن يؤثر ذلك سلباً على مسار ودعم المقاومة؟
ليس هناك ما يمنع النظم الحاكمة بدول الممانعة من الاستمرار في الممانعة؛ وفي الوقت نفسه الاستجابة الصادقة لمطالب الجماهير الثائرة (التي لا تقل وطنية وحمية وممانعة) بالحرية والكرامة والعدل الاجتماعي وتطهير البلاد من الفساد الأمني والاقتصادي والإداري. فتحقيق هذه المطالب يعضد الممانعة، ويعزز مقاومة الامبريالية والصهيونية، ويجعل الأمر كله خياراً شعبياً أصيلاً.
- كيف يمكن لحماس أن تستفيد من الثورات العربية؟
هناك مجالات أو ساحات عديدة للعمل المقاوم -غير الكفاح المسلح- استجدّت في الأفق مع تحرر الشعوب العربية من الخوف والقبضة الأمنية القمعية وتوجهها نحو المشاركة الواسعة في الشأن العام والقضايا المهمة. أهمها تأسيس حركات مقاومة التطبيع، وإعادة تأسيس ومأسسة المقاطعة العربية لـ(إسرائيل) رسمياً وشعبياً، وتشجيع التواصل بينها وبين حركات «المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات» (BDS) عالمياً، وتكوين برنامج سياسي إقليمي ودولي للتصدي للاحتلال الاستيطاني باعتباره آخر مشروع استيطاني أوروبي عنصري ينبغي تصفيته وتفكيكه، على غرار تجربة تفكيك نظام الفصل العنصري (Apartheid) بجنوب أفريقيا. كما ينبغي للمقاومة وحلفائها العرب الالتفات إلى صعوبة أوضاع الشعب الفلسطيني بالدول العربية وحالة الحصار وحظر التجول والانتقال والترحيل الراهنة، وتشجيع الحركات السياسية العربية على طرح المسألة واستصدار التشريعات والسياسات والمراسيم الضرورية لتسوية أوضاع اللاجئين والنازحين إنسانياً واجتماعياً واقتصادياً دون الوصول إلى التوطين.
- كيف يمكن لقوى المقاومة أن تجعل دعم القضية الفلسطينية والمقاومة بنداً في جدول أعمال البلدان التي انتصرت ثورتها؟
يكون ذلك بطرح رؤية سياسية حضارية استراتيجية واسعة تعيد قضية فلسطين إلى حاضنتها العربية الإسلامية، فتتجاوز الإطار الانتهازي الضيّق المتمثل بالأيديولوجية «السياسية» الفلسطينية المطروحة ابتداء من أواخر الستينيات، وشجعت الأنظمة العربية على الانسحاب من مسؤولياتها تجاه فلسطين وقضيتها ومقدساتها، وأتاحت تمرير المشاريع المرحلية الكارثية. وأن تتكامل هذه الرؤية مع رؤى الثورات العربية حول التحرر من الهيمنة والتبعية الغربية، وبناء منظومة نهضوية تستهدف تكريم الإنسان وإقامة العدل والإحسان.
- هل يجب على حماس بناء استراتيجية مقاومة على إيقاع الثورات العربية، أم أنه يجب الفصل بين استراتيجية المقاومة وانتظار نتائج الثورات؟
لا مناص من أخذ كل ما يحدث في المجال العربي الإسلامي بعين الاعتبار، خاصة عندما يكون ذلك تغيرات جذرية مهمة في دول القرار العربي. وينبغي للمقاومة بشكل عام التحلي بأقصى مرونة ممكنة، والقدرة على التفاؤل التاريخي، وعدم استعجال النتائج أو الإنجازات أو حرق المراحل، وعدم التورط في خلافات التيارات والأحزاب السياسية في أقطار الثورات العربية، لأن هذه الأحزاب قد لا تتفق حول توجهات دستورية وأيديولوجية، لكنها يمكن أن تتفق حول دعم القضية الفلسطينية. أي لا ينبغي للمقاومة الفلسطينية الانخراط في خلافات أحزاب وقوى هذه الأقطار، حتى لا تصبح فلسطين موضعاً للاستقطاب والخلاف.
- هل الواقع العملي يفرض على المقاومة الإسراع في مقاومتها مستثمرة الحماسة الثورية لدى الشعوب، أم أنه بالعكس يجب عليها التهدئة إلى حين استعادة البلدان العربية الثائرة أنفاسها، حتى تستطيع أن تشكل سنداً للمقاومة؟
هذا الأمر يحتمل الاجتهاد، ويتطلب الإبداع، ويقتضي المراجعة المستمرة. فليس هناك حالة مثالية للحظة بدء أو ممارسة المقاومة. فالنضال بحد ذاته ضرورة لأنه يستنهض الشعوب، وينهض بها وينضجها، وينمي قدراتها وإمكاناتها باتجاه التنمية والتطوير والإتقان. وفي ظل ثقافة وممارسة النضال، قامت دولة الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) والخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) من بعده. لذلك، لا وجاهة لانتظار «استعادة البلدان العربية الثائرة أنفاسها»، مع الأخذ بعين الاهتمام أن النضال أو المواجهة لا تعني بالضرورة المواجهة العسكرية التقليدية بين الجيوش؛ بل ربما كان هذا الشكل من المواجهة هو آخر ما تحتاجه القضية والأمّة في الوقت الراهن، فأشكال النضال الأخرى ذات التأثير العميق والمديد لها أولوية سابقة. ينبغي تحقيق خطوات في تعميق ثقافة المقاومة في هذه البلاد لإنجاز أهداف الثورة هناك، وأن تخضع كافة أفكار وخطط ومشروعات المستقبل لاعتبارات تعزيز الاستقلال، وتنمية الإنسان، وصيانة الأمن القومي، وإنجاز التنمية الأصيلة، والاعتماد على الذات، وتعبئة الموارد القومية المتاحة.
المصدر: مجلة فلسطين المسلمة