آخر يوم في مخيم
اليرموك
بقلم: ابراهيم
العلي
يالله ما هذا الصوت
الفظيع الذي أتي من تلك الناحية من المخيم ؟ وما سر تحليق تلك الطائرة في سمائه؟ ومالذي
حدث؟
رن الهاتف فشعرت
لأول مرة بالخوف والتردد قبل الرد ولكنني فتحت الخط فجاء الصوت
مرتجفاً: لقد قصف الطيران الحربي "الميغ"مسجد عبد القادر الحسيني!! لقد
استشهد أبو مؤيد ومحمد وسعيد ووووو.... والجرحى بالعشرات والدماء تملئ فسحة المسجد
والمشهد فظيع.
ساد الصمت وصرخت
بلا شعور لماذا المخيم ؟ ولماذا المسجد؟ ومالهدف
من القصف؟ وما ذنب هؤلاء الأطفال والنساء الذين ضمهم بهو المسجد ليموتوا بهذه الطريقة
؟ وما الجريمة التي ارتكبها المتطوعون في أعمال الإغاثة ؟ وهل أصبح طهو الطعام وتوزيعه
على جياع النازحين من كبائر الأعمال؟
كان عاصم قد غادر
المنزل قبل القصف ليأتي لعمته بغاز الطهي من خارج المخيم لكنه ما عاد يومها كما يعود
أبناء اليرموك الذين اعتادوا الرواح والغدو، لقد خاف من الرجوع ظناً منه أن الطيران
ربما سيعاود الكرة لذا بقي خارج المخيم دون العلم أن خروجه من هناك سيكون الأخيرولن
يعود بعد ذلك اليوم وأن رحلة البحث عن الغاز سوف تمتد به طويلاً لتنتهي به في مدينة
هلمستاند السويدية.
لم يتوقف القصف
المدفعي ولم تهدأ ليلتها القذائف، وكان في ضيافتنا عائلة أخرى من الأقارب الذين نزحوا
إلى حينا قبل حين، توزعنا يومها على أعمدة المنزل وعلى الغرف الداخلية وبعيداً عن النوافذ
والزجاج حتى لا يصاب منا أحد، وتسللت إلى أسماعنا
الإشاعات التي بدأ يتناقلها الناس بالمخيم أن على أهالي المخيم الخروج قبل الساعة الثامنة
صباحاً.
خرج الناس وكان
المشهد فظيعاً وودعت زوجتي ابن أخيها محمد البالغ من العمر عاماً واحداً والدموع تملئ
عيونها، وعلى فمها عشرات الأسئلة التي أبرزها هلى سنلتقي يا عمتي من جديد ؟ فقلت لها
متندراً: لا تخافِ سيأتي يوماً ما هذا الطفل شاباً ليبحث عن عمته التي تركت المخيم
قبل عشرين عاماً ولم تعد.
لم نكن نعلم أن هذا الاستشراف سوف يتحول في يوم ما
إلى حقيقة فهاهي السنوات مرت، وكبر محمد ولم يعثر بعمته بعد.
أما هي فما زالت
تقف على شرفة بيتها الجديد وتتجه بنظراتها نحو ذلك المكان القريب من ذاكرتها ووجدانها،
البعيد عنها مكاناً تفصل بينها وبينه الجبال والمسافات الطويلة.
فلكل الأشياء في
مخيم اليرموك حلوها ومرها وقع خاص في قلبها وذاكرتها، لاتنفك عن الحنين إليها كالحي
الذي درجت فيه والمدرسة التي تعلمت فيها والسوق
الذي اقتنت أغراضها الجميلة منه والمسجد الذي
تعبدت الله فيه والمقبرة التي ضمت والدتها المدفونة فيها إلى جوار والدها وشهود النكبة
الأولى، الذين غادروا الدنيا وفي قلوبهم غصة
وبين ثنايا وصاياهم كلمات رجاء تفيد بنقل رفاتهم إلى القرية والمدينة الواقعة على تلك
الأرض المباركة فلسطين التي خرجوا منها قبل 68 عاماً كما خرجت هي من مخيمها قبل أربعة
أعوام بحقيبة ضمت أشياءها الخاصة وما عادت إليه،
غير أنها ما زالت في حالة ترقب وانتظار للمحطة القادمة.
المصدر:
السبيل