القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

أبو عرب.. نسّاج الروح الفلسطينية!

أبو عرب.. نسّاج الروح الفلسطينية!

علاء الدين أبو زينة

مصادفة، مرّ بي ذكر الفنان "أبو عرب" قبل أيام فقط من رحيله. وضع ابن شقيقتي المقيم في أميركا على "فيسبوك" رابطاً لأغنية أبو عرب "هدي يا بحر هدي"، وكتب مع الرابط أنه سمعها منّي على الغيتار وهو صغير، في الثمانينيات قبل نحو 30 عاماً. لم أفكر حين رأيت إرساليته في أبو عرب بالضبط، وإنما فكرت بالغربة كلها كخبرة صعبة، وبكيف يعيد الحنين إنبات الذكريات من قاع الذاكرة. لم أتذكر، مثل ابن شقيقتي، تلك المناسبة التي سمع فيها الأغنية مني. وهو تذكر -ربّما بسبب ثقل الغيبة، فتفقَّد الناس والأحداث البعيدة علّه يظل قريباً. لكن غمرتني عاطفة الحب مرة أخرى لابن شقيقتي الغائب الذي تذكرني على البعد، وذكَّرني بأنه يحتفظ لي بأشياء ويحفظ عني أشياء بعد كل هذه الغيبة. تمنيت أن يكون قد تابع عزف الغيتار والعود هو أيضاً، وأنه يُنشد أشعار "أبو عرب" والآخرين الذين سمعهم صغيراً، ويُسمعهم لصغيره.

الآن، بعد رحيل أبو عرب عن دنيا الأحياء قبل أيام، أفكر في المسألة بطريقة أكثر كثافة. لقد ساهم أبو عرب في نسج جزء من حميمية علاقتي بابن شقيقتي وشكل جزءاً من ذاكرتها، تماماً كما ظل ينسج الهوية الفلسطينية من شتات الروح المهجّرة الممزقة. قد تختلف التفاصيل الصغيرة للعواطف التي حرضتها أغنياته في قلوب مستمعيه الأفراد، لكنها كانت تنتمي حتماً إلى نفس نوع الحنين والشوق إلى نفس الأرض، والخبرة، والأشواق والمسعى. كنّا نتقمصه أحياناً، نحن هواة الموسيقى المولودون في المنفى، ونحاول أن نتمثل إحساسه بافتقاده قريته "الشجرة"، فنتخيل قرانا المستلبة ونناجيها ونحن ننشد أغنياته في الجلسات. وكان يلف الجمع دائماً ذلك النسيج السحري الذي لا يُرى، والذي تتجمع خيطانه المتجانسة الرائعة من شرايين القلوب، فتوحد العاطفة، وتُشرك الجميع في أداء كورالي هائل الغنائية. كان بالوسع تمييز شعور واحد يلف المنشد والمستمعين/ المشاركين والمكان والأثاث: حب أبناء العائلة.

رحيل المغني الفلسطيني -وأحب أن أستخدم الكلمة هنا بمعنى الكلمة الإنجليزية "Bard": الشاعر الملحمي الذي يؤرخ حكاية القبيلة ويحفظ ذاكرتها- يعني أن تفقد فلسطين جزءاً عضوياً من ذاكرتها الحكائية وصوتها المستهدف بالإسكات. كان قدر الأغنية الفلسطينية أن لا تكون مجرد تلوينات لحنية محملة بعواطف مألوفة، وإنما أن تكون جندياً -بالمعنى الحرفي- مشتبكاً في نضال شرس من أجل بقائه هو نفسه، كجزء من هوية مهددة بالإلغاء. ليس ثمة أغنية أخرى مكلفة مثل الأغنية الفلسطينية بحمل كل هذه الثيمات والمهمات المعقدة. ليس هناك أغنية أخرى مضطرة إلى تخليق الإلفة المستحيلة بين المتعارضات: بين الحب والبندقية، والعرس والاستشهاد، والمجد والسجن، والحبيبة والتراب، والعصفور والسلك الشائك. والدم والشقائق.

إبراهيم محمد صالح، "أبو عرب"، كان النقيض النهائي لمغني "الفنادق" المترف. تفتحت عيناه على وقع الاشتباك والنحيب في ثورة 1936، وخبر اليتم المبكر باستشهاد والده في العام 1948، ثم تشرده الشخصي في مخيمات اللاجئين الحزينة في بلاد الآخرين، ثم وجع استشهاد ابنه أثناء اجتياح العدو القديم نفسه لبنان في العام 1982. من كل ذلك، صاغ أبو عرب نسخته الخاصة من الملحمة الفلسطينية، وظل يرددها لكي لا ينسى الآخرون. لم يغنّ أبو عرب لمجرد بهجة الغناء واحتفاليته؛ أداؤه المعبق بالشجن وحرقته يقولان إنه غنى بالطريقة التي وصفها المغني الآخر، سميح شقير: "أنا لا أغني طرباً، أنا لا أغني. أغني قبل أن أتمزق قهرا. وأغني هارباً من التابوت، وأغني، كي لا أموت."

دائماً يرحل المغنّون العضويون ولا ترحل أناشيدهم. ولذلك، شكل وجود الشعراء/ المغنين الملحميين الفلسطينيين حاجة وجودية من أجل صيانة الذاكرة، وتأكيد أصالة الحكاية من مبتدئها حتى الفصل الأخير. كان هؤلاء، وما يزالون، سحرة أسطوريين يستطيعون لمّ شتات الروح المجرّحة في قطيفة لا تبلى ولا يطويها النسيان. وكان أبو عرب نسّاجاً معلماً للروح الفلسطينية، وجزءاً بنيوياً من نسيج الهوية الفلسطينية الخالدة أيضاً. وقد انفضت أصابعه أخيراً عن أوتار عوده، لكنه ترك ما سيظل يرمم الوشائج بيني وبين ابن شقيقتي خلف الأطلسي، وبين جيله وجيلي وكل من ينتمي إلى نسيج فلسطين، بالحنين والإرث والهوية الأبدية.