القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الإثنين 25 تشرين الثاني 2024

أجمل زهرة لأجمل الأمهات – نبضات واقعية في يوم الأم

أجمل زهرة لأجمل الأمهات – نبضات واقعية في يوم الأم

بقلم: ياسر علي/ لاجئ نت

لا أدري لماذا عاوَدني مشهد وجهين لطفلين فلسطينيين في ذلك اليوم الطويل.. الطويل جداً من التاريخ الفلسطيني، طفلان فلسطينيان.. يجلسان على "بقجة" ثياب في وسط ساحة دار المعلمين في بيروت، في يوم 12آب 1976. "فلاش" يلمع في ذاكرتي في يوم الأم، تلك الأم التي زأرت مثل لبؤة جريحة عندما رأت هذين الوجهين المتّسخين المتبقيين من أولادها، يتقاسمان حبة بندورة ورغيف خبز يأكلانه بعد ذلك النهار الطويل جداً والحارّ جداً والحزين جداً من تاريخنا.

في ذلك اليوم، وأمام فقدها عائلتها، ورواحها ومجيئها كأم إسماعيل، بعد تلك المجزرة وسقوط تل الزعتر، لم يتوقع أحد أن تثور وسط ذلك الموج المتلاطم من بحر الأحزان الفلسطيني. ثارت على واقعنا، وزأرت من غضبها على تفصيل صغير لا يلقي له بالاً أمام مصيبتها الكبيرة، وربما طار هذا الغضب وذاب وسط ليل المأساة، مثل كثير من القصص "التافهة" واللحظات السريعة التي تمرّ في حياة الإنسان.. لكنها لحظةٌ وقصةٌ عاودت أحلام وزارت ذاكرة أصغر هذين الطفلين، حين استرجع ذاكرته في غياب أمه عنه هذه السنة.

كأمنا هاجَر كانت ,كأم إسماعيل، ثبّتت أصغر أطفالها (الخامس: 6سنوات) وأخاه الأوسط (الثالث: 11سنة)، وأوصته عليه، في ساحة دار المعلمين في بيروت، وصارت تروح تتفقد القوافل القادمة بعدهم من تل الزعتر، وتعود لتتأكد أنهما فعلاً خرجا معها من ذلك الحصار. وحين جاء المكلّف بتوزيع الطعام على المنكوبين الموجودين في "الصفا"، كانت عند "المروة" تسأل أفراد إحدى الشاحنات عن طفلها (الرابع: 7سنوات) هل جاء معكم؟ لا! طيب، هل رأيتموه؟ كان مع عائلة الفدائي أبو إبراهيم المنشاوي! أين عائلة أبو إبراهيم؟ لم يخرجوا بعد! ربما في الشاحنة التالية! وريثما تأتي الشاحنة التالية، تعود الأم ركضاً إلى "الصفا" وقد بدا عليها التعب وتفصّد العرق من جبينها، وتبعثر شعرها من تحت منديلها، وسيطر اللهاث على تنفسها، عادت من "سعيها" لتجد الطفلين يأكلان ذلك الطعام الزهيد، فنسيت كل مصائبها وثارت وزأرت على المكلّفين بتوزيع الطعام، من أجل أن تسدّ رمق ما تبقى من أطفالها "مش مكفّينا القهر اللي إحنا فيه؟ حتى تظلموا الأولاد في لقمتهم!".

ليل طويل ونهار أطول, هذا "الفلاش" الخارج من ذاكرة عميقة عمرها 31 عاماً، يعيد الصغير (الذي أصبح رجلاً) إلى تلك الليلة الطويلة والأيام التي سبقتها, لم يستطع أن يستخرج من ذلك الحصار (حصار تل الزعتر) مشهداً لأمه وهي نائمة، يتذكر أنها كانت "تخترع" الطعام لهم، تطبخ التمر والعدس في طبخات لم تكن موجودة في قاموس الطبخ من قبل (فهما أكثر الأطعمة المتوافرة في ذلك الحصار). تعمل ليلاً في فرن "الثورة" لتحضر فجراً بضعة أرغفة يأكلها أطفالها.. تتفقد الماء في المنزل، لترى إن كان يكفي لحمّامهم وطعامهم وشرابهم.. فالماء الذي كان في تل الزعتر "يخرج منه كل شيء ميت"، كان مصيدة القناصين حيث سقط كثير من الشهداء عند "حنفية" الماء القريبة من خطوط التماس. جرح الأب.. أصابه القنّاص عند حنفية الماء، وخرج في سيارات الصليب الأحمر، ولم تعرف عنه شيئاً، أما الابن الأكبر (17 سنة)، فلم يكن في المخيم ساعة إحكام الحصار عليه، ولم تعرف عند مَن مِن أقاربها قضى فترة الحصار.

تعجّب الطفل من أمر هذه الأم، تحممهم في عز الأزمة، وتخيّط لهم ثيابهم وتهتم بترتيبها، هل يصادف اليوم التالي عيداً ضاع في زحمة الأحداث. هو لم يسمع الأخبار، ولم يعرف بقرار فك الحصار وإخراج الفلسطينيين في اليوم التالي من تحت الرصاص.. جاء الرجال، في تلك الليلة ينادون: محمد (الثاني: 14سنة)، هل أنت جاهز؟ وخرج معهم محمد وهي توصيه "دير بالك يمّا، اسمع كلام أبو جمال، انتبه خيّطت لك في "كمر" البنطلون هويات العائلة وبعض الذهب، فلا تضيع شيئاً". هكذا إذن، في ثياب الأطفال دسّت الأم ما تبقى معها من مال ووزعت الذهب على "كمر" كل بنطلون. لم تكن تحضّرهم ليوم العيد.. ولم يكن هناك "بقرة السيّد"، ولم يكن هناك من أضاحي سوى الشعب الفلسطيني. بعد أن خرج محمد في الجبال مع الرجال متسللاً من المخيم عبر المناطق المسيحية إلى المناطق الإسلامية التي لم يصلها إلا بعد 27 يوماً.. نام الطفل، تاركاً أمه تخيّط الثياب.. وتعجن.. في الصباح، بدأ اليوم الطويل.. ألبستهم الثياب، وحملت "بقجة" أغراض وخبز على رأسها، فيما أمسكت جارتها بأولادها بيديها، وطلبت من الأطفال الثلاثة أن يمسكوا "تنّورتها"، وساروا جميعاً عند الشروق عبر جدران البيوت (التي أصبحت ممرات للمحاصَرين بسبب القناصين) حتى وصلوا إلى أول حاجز للكتائب. فأطلق أفراد الحاجز النار في الهواء، فهرب طفلها (الرابع: 7سنوات) تاركاً "تنورة" جارتها، وعائداً إلى المخيم، والجميع يخفض رأسه من الرصاص، وهي تصرخ بابنها أن يعود.. ولم يعد! وهكذا خرجت هذه الأم بطفلين.. بعد أن كانوا خمسة أطفال قبل الحصار، وما زال بريق مشهد زئيرها يطلّ كلما تذكر الطفل مشاهد ذلك اليوم حيث أخذ العطش من الطفلين كل مأخذ، وحلّ الألم برجليهما، وجلسا يأكلان الرغيف وحبة البندورة.. وبعد نهار كامل عاد (الرابع) من المخيم، وبعد شهر كامل منّ الله عليها بعودة محمد من الأسر (وهذا مشهد سينمائي بطيء مشهد آخر لا ينساه الطفل أيضاً) وجمع لها زوجها وأولادها الخمسة من جديد.. في تفاصيل مثيرة ومؤلمة.

إلى هذه الأم.. في يومها.. أجمل زهرة مني ومن إخوتي الأربعة.. وأجمل القبلات على جبينها الشامخ وخدها الدافئ وقلبها الأخضر.. وكل يوم وأنت بخير يا.. أجمل الأمهات!