أحداث فلسطينية لمن يعتبر: قبل أن «يطفح الكيل»
بقلم: صلاح صلاح *
لم ينهزم الفلسطينيون عام 1948. هزمهم التواطؤ العربي مع المشروع الصهيوني الاستعماري. دافع المناضلون الفلسطينيون عن أرضهم، ومارسوا كل أشكال المقاومة المدنية والعسكرية ضد الانتداب البريطاني وموجات الهجرة الصهيونية، خاضوا في ذلك الوقت ما اعتبر أطول إضراب في التاريخ وأخطر ثورة. الولايات المتحدة الأميركية التي بذلت جهوداً استثنائية لاتخاذ قرار تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة العام 47 هي نفسها كانت تعد مشروع قرار جديد لإلغاء القرار السابق بسبب المقاومة الفلسطينية التي تعطل إمكانية تنفيذه. ثلاثون عاما في مقاومة الدولة العظمى في ذلك الوقت، قدم فيها الشعب الفلسطيني كل التضحيات المطلوبة من شهداء وجرحى ومعتقلين لم تنكسر إرادته ولم يجبن ولم يستسلم. هزمته الأنظمة العربية.
بعد النكبة ظن المتآمرون والمتواطئون أن حالة الاحباط واليأس التي تعيشها بعض الأوساط الفلسطينية، كنتيجة طبيعية لمأساة اغتصاب وطنهم، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية غير الإنسانية في مخيمات البؤس، واعتماد أساليب التضليل، قد يؤدي، كل هذا، إلى تمرير مشاريع تفرض على اللاجئين الفلسطينيين التوطين أو التجنيس حيث هم، أو تهجيرهم إلى بلد آخر يقبل بهم، وبهذا ينتهي مفعول قرار الأمم المتحدة الرقم 194، الذي يكفل لهم حق العودة إلى وطنهم، مما يفتح الطريق أمام الدول العربية للصلح مع اسرائيل وإقامة سلام معها. في التصدي لهذه المشاريع وإفشالها كانت بداية إعادة تأسيس الحركة الوطنية الفلسطينية، وإقامة اللحمة بين الوطني الفلسطيني وبعده القومي العربي.
لم يكن ذلك بلا ثمن، فقد تعرض العديد من المناضلين ضد هذه المشاريع إلى الفصل من جامعاتهم والطرد من وظائفهم، والملاحقة والاعتقال والموت تحت التعذيب. لكنهم في النهاية بقوة إرادتهم، بالاعتصام والاضراب والمظاهرة والبيان وقصاصة الورق انتصروا وأفشلوا كل المحاولات لحرمانهم من أرض الآباء والأجداد واحتفظوا بمفاتيح بيوتهم رمزاً لعودتهم.
هؤلاء الذين يشتمون الفلسطيني بادعائهم "إعطائه حقوقه الإنسانية وتمكينه من العيش بكرامة وشرف سيؤدي إلى نسيانه فلسطين وسيقبل بالتوطين" لم يكن لهم حينها وجود ولا صوت. لا يعرفون معنى الوطن عندما يكون مقياسهم لذلك امتلاك شقة أو الحصول على وظيفة.
الثورة الفلسطينية المسلحة في منتصف الستينات هي استمرار للنضال السياسي في أوائل الخمسينات. تعكس الثورة عدم الثقة بالأمم المتحدة التي لم تلتزم بقراراتها ولم تعمل على تنفيذها، بل العكس فإن أمينها العام داغ همرشولد من الذين روجوا لمشروع، عُرف باسمه، لتوطين اللاجئين وإذابتهم في اقتصاديات البلدان المقيمين فيها. دول العالم ومعها الدول العربية لم تدافع عن حق الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم، فكان خيارهم اللابديل له ان يسلكوا هم طريقهم إلى العودة: بالثورة والكفاح المسلح. يوم قرروا ذلك، في لبنان، كانت مخيماتهم تخضع لأحكام عرفية ظالمة، يُمنع التنقل من مخيم إلى آخر إلا بإذن، تُمنع قراءة الصحيفة أو سماع الأخبار في مكان عام، يمنع السير في شوارع المخيم (الأزقة) لأكثر من ثلاثة أشخاص، يمنع السهر داخل البيوت (خيم وأكواخ مغطاة بألواح زينكو) لما بعد الساعة العاشرة ليلاً، يمكن استدعاء أي شخص واعتقاله بأي وقت ومن دون تهمة محددة وبلا محاكمة... مع ذلك عندما قرر الفلسطينيون الاعداد للكفاح المسلح لم تردعهم كل هذه الاجراءات، ارسلوا مجموعات للتدريب على القتال ضد العدو الاسرائيلي إلى مصر وإلى سوريا، وتسللت مجموعات من المخيمات، عبر الحدود اللبنانية إلى فلسطين المغتصبة، وشكلت هذه نواة انطلاقة العمل الفدائي في لبنان أواخر الستينات التي ترسّمت باتفاق القاهرة 1969.
بعد خروج مؤسسات الثورة ومنظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها وقياداتها من لبنان، بالطريقة التي تمت بها، ظن البعض المحلي والاقليمي، مدفوعاً بحساباته السياسية الخاصة به، ان بإمكانه السيطرة على المخيمات والقضاء على ما تبقى من البندقية كجزء من احتواء الورقة الفلسطينية. حاصروا المخيمات، قصفوها بكل أنواع القذائف والصواريخ، حاولوا اقتحامها بالدبابات، استباحوا الفلسطيني حيثما وُجد، في الشارع، في العمل، حتى في بيته خارج المخيم. خطفوا واعتقلوا وقتلوا بالآلاف ودمروا. لكنهم وعلى مدى ثلاث سنوات لم يتمكنوا من دخول أي منها، حتى أصغرها، مخيم شاتيلا. هاجر كثيرون من أبناء المخيمات المستهدفة في مناطق بيروت وصيدا وصور ثم عادوا اليها مباشرة بعد توقف الحرب الظالمة ضدها، وبادروا بإعادة بنائها من دون انتظار إذن من أحد ولا استجداء تمويل من هنا وهناك.
وجدت ظاهرة اسلامية في مخيم نهر البارد، هي امتداد لمثيلاتها في المحيط اللبناني من حلبا إلى طرابلس. قيل ان هذه الظاهرة مدعومة محلياً وعربياً، وأنها في غالبيتها ليست من الفلسطينيين، وعدد قليل جداً من أبناء المخيم. اجتمعت الفصائل الفلسطينية، بمختلف اتجاهاتها في سفارة فلسطين وشكلت وفداً لإقناع قادة هذه الظاهرة مغادرة المخيم.
ارتكبت هذه الظاهرة الإرهابية مجزرة رهيبة أدانتها فيها الفصائل وأبناء المخيم. أُخذت ذريعة لقصف المخيم بكل الاتجاهات. بُذلت مساعٍ، اشترك فيها رجال دين، لمعالجة الوضع بالتي هي أحسن، فلم تنجح. تصاعد الهجوم على المخيم. اجتهد البعض (من التيارات الفلسطينية ورجال الدين) بالطلب من أبناء المخيم مغادرته، حماية لأرواحهم. وبناء لوعد قاطع: الخروج مؤقت، والعودة مؤكدة والاعمار حتمي، شيء من هذا لم يحصل، دمّر المخيم، أحرق البيت الذي بقي منه واقفاً ونهبت محتوياته. البناء يجري ببطء السلحفاة، العودة بالقطارة، تحتاج إلى سنوات حتى تكتمل.
ان مخيماً جديداً أضيف لقائمة المخيمات المحاصرة في الجنوب وبإجراءات أمنية أشد قسوة واستفزازاً وقهراً ـ تحدثت وسائل الاعلام عن بعض منها ـ ضمن توجه يجعل منها نموذجاً لإجراءات شبيهة تطبق على كل المخيمات الفلسطينية في لبنان.
هذا يتناقض مع تصريحات معلنة لرؤساء حكومات ووزراء ضد استمرار التعامل مع المخيمات «كحالة أمنية».
هل يفكر من يعاملون الانسان الفلسطيني بهذه الطريقة الحاقدة القمعية الظالمة ما ستكون النتيجة؟ هل يضعون في حسابهم، ان كثرة الضغط تولّد الانفجار؟ هل ينقل اليهم مخبروهم ان الفلسطينيين في مخيم البارد يعضون أصابعهم ندماً على الخروج من المخيم؟ تصوروا لو لم يغادر أبناء المخيم وقرروا القتال والدفاع عن أنفسهم ومخيمهم كما فعل أبناء المخيمات الأخرى في الأعوام السابقة (85 ـ 87) هل ستكون النتيجة نفسها؟ هل نمي اليكم من مخبريكم أن الجماهير الغاضبة اعترضت وأهانت بعض قياداتها، الذين تحملهم مسؤولية الخروج من المخيم العام 2007؟ ألا يعني لكم شيئا مقولة «الجماهير تصبر وتتحمل وفي لحظة ما، عندما يطفح الكيل تنفجر» ولأبسط الأسباب، وعندها لن تسأل عن رئيس ولا قائد، ولن يقف في وجهها لا جيش ولا أمن ولا بلطجية. أليس هذا ما حصل ويحصل في تونس ومصر وسوريا واليمن والبحرين؟ يقال ان كل الذي يجري في سوريا الآن ما كان ليحصل لو عولج الإشكال البسيط الذي وقع في درعا بحكمة وعقل. ويقال ان العقلية الأمنية هي التي جعلت الأمور تتطور في الثورات العربية من المطالبة بالإصلاح إلى إسقاط النظام، ويقال ان هذه الثورات هي لحظة الانفجار ضد ما تعانيه الجماهير من ظلم وقهر، وما تعانيه من فقر واستغلال الخ... وليس صحيحاً ما يسربه أهل النظام بأنها بفعل تحريض خارجي او مرتزقة الخ. وكل هذا وأكثر قد يحصل، لكن السبب الأساسي داخلي، ومن هنا يجب أن تبدأ المعالجة.
الفلسطينيون ليسوا استثناء في الثورات والانتفاضات، بل هم رواد وقدوة في ذلك، والأمثلة كثيرة، آخذ منها واحداً، فقط انتفاضة الشعب الفلسطيني من العام 87 حتى العام 93. ست سنوات استعمل فيها العدو الاسرائيلي كل أساليب القمع والارهاب التي تفوق أي نظام عربي، ولم ينجح بالقضاء عليها.
بعد «اتفاق الطائف»، قررت الدولة اللبنانية فتح حوار مع الفلسطينيين، في منتصف العام 1991، تم الاتفاق بموجبه ان نبدأ مرحلة جديدة في العلاقات. التزم الفلسطينيون بوعدهم: التوقف عن العمل العسكري عبر الحدود اللبنانية، تسليم السلاح الثقيل والمتوسط هدية للجيش اللبناني، انكفاء المقاتلين من خارج المخيمات إلى داخلها. الدولة اللبنانية لم تف بما وعدت به، الحواجز التي وضعت على مداخل المخيمات وقتها قيل انها مؤقتة، تحولت إلى دائمة تحاصرها وتمنع إدخال مواد الاعمار اليها، وتضع قيوداً على الخروج والدخول، وتمارس الاستفزاز أحياناً ضد سكانها. نكثت الدولة بوعدها إعطاء اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان كامل حقوقهم المدنية والاجتماعية باستثناء الجنسية والوظائف العامة، بل العكس أخذت إجراءات أكثر تعقيداً، كشطب القيود والبلاغات السرية وشرط الحصول على تأشيرة ومنع امتلاك شقة للسكن... إلى أين سيقود كل هذا؟ آجلا أم عاجلاً إلى الانفجار. ولن يصدق أحد أن هذا يحصل بفعل عناصر مدسوسة أو بتحريض من قوى سياسية داخلية أو خارجية. أحداث «نهر البارد» و«عين الحلوة» ستتكرر وقد تشمل كل المخيمات، كيف ستتصرفون عندها؟ هل ستقومون بحرب جديدة على المخيمات؟ هل ستدمرونها من جديد؟ سنخسر نحن وأنتم؟
أثبت الفلسطينيون منذ عام 1991 بأنهم مع القانون ومع سيادة الدولة ومؤسساتها فوق أرضها، واستسلموا لكل الاجراءات والقوانين الظالمة والتي تتعارض مع أبسط حقوق الإنسان. اعترضوا باستحياء والبعض يقول بأسلوب حضاري، من خلال المذكرات وورش العمل والحوار، فلم يجدوا من يسمع ولا من يستجيب. إرفعوا الظلم والقهر عن الفلسطيني، احترموا كرامته وإنسانيته، كفوا عن معاملته بعنجهية وعنصرية، توقفوا عن النظر إليه بفوقية واستعلاء... فهو كبير.
أزيلو الحواجز وارفعوا الحصار عن المخيمات.
نفذوا ما التزمتم به «بإعطاء الفلسطينيين المقيمين في لبنان كامل حقوقهم المدنية والاجتماعية باستثناء الجنسية والوظائف العامة».
*رئيس لجنة اللاجئين ـ المجلس الوطني الفلسطيني
المصدر: السفير