أسئلة المشروع الوطني الفلسطيني
بقلم: هاني المصري
بعد نحو سبعة عقود على النكبة وواحد وخمسين عامًا على
انطلاقة الثورة الفلسطينية، هناك تساؤل محوري مطروح: هل يوجد مشروع وطني فلسطيني؟
كان هذا السؤال وما تفرع منه من عشرات الأسئلة محور ورشة عمل نظّمها «مركز مسارات»
في عمّان على مدار يومين، بمشاركة عشرات المفكرين والسياسيين والأكاديميين
والنشطاء من مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني.
ما جعل هذا السؤال مطروحًا أنّ المشروع الوطني الذي
انطلق تحت شعارَي «التحرير والعودة»، وكانت أداة تجسيده «منظمة التحرير
الفلسطينية»، تمّ تعديله في العام التالي لحرب تشرين/أكتوبر 1973 باعتماد برنامج
«النقاط العشر»، الذي يقضي بإقامة سلطة وطنية على أي شبر يتم تحريره، واعُتبر
برنامجًا مرحليًا، ليصبح بعد ذلك حلًا نهائيًا من خلال اعتماد برنامج «حق تقرير
المصير والعودة والدولة» في العام 1988، وذلك بالترافق مع الموافقة على قرار 242،
والتلويح بالاستعداد للاعتراف بإسرائيل الذي تمّ بعد سنوات قليلة بتوقيع «اتفاق
أوسلو»، حيث اعترفت فيه «منظمة التحرير» بحق إسرائيل في الوجود، وتعهدت بوقف
المقاومة وملاحقة المقاومين من خلال التزامها بالتنسيق الأمني، وبالتبعية
الاقتصادية للاقتصاد الإسرائيلي كما تجسد في «اتفاقية باريس».
إن «أوسلو» لم يحل شيئًا من القضايا الفلسطينية برغم ما
أدى إليه من عودة ربع مليون مواطن إلى فلسطين، وما أوحى إليه من إمكانية وقف مشروع
إقامة «إسرائيل الكبرى» إلى حين تجاوزته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كما اتضح
بعد اغتيال إسحاق رابين. فقد أجلّ هذا الاتفاق الذي يعدّ خطأ فادحاً بت قضايا الحل
النهائي إلى ما بعد خمس سنوات، التي استطالت إلى أكثر من 20 عامًا حتى الآن و
«الحبل على الجرار»، وتم الفصل بين الأراضي المحتلة العام 1967 وبين القدس. كما
أدى عمليًا إلى تخلي القيادة الفلسطينية عن الشعب الفلسطيني في أراضي 48 وفي
الشتات، وفصل بين القضية والأرض والشعب، وقسّم القضية إلى قضايا، والأرض والشعب
إلى أقسام، إضافة إلى أنه لم يتضمن اعترافًا إسرائيليًا بأي حق من الحقوق
الفلسطينية، بما في ذلك حقه في إقامة دولة فلسطينية على حدود 67.
وأبدت القيادة الفلسطينية بتوقيعها على «أوسلو» تلويحًا
باستعدادها للمساومة على قضية اللاجئين وحقهم في العودة إذا حصلت على الدولة، ثم
أصبح التلويح تصريحًا من خلال الموافقة بعد ذلك على «معايير كلينتون» لحل مشكلة
اللاجئين و «مبادرة السلام العربية»، وذلك بالموافقة على حل متفق عليه لقضية اللاجئين،
وعلى المعايير الخمسة التي تتضمن: التعويض، والتوطين، وعودة اللاجئين إلى أراضي
الدولة الفلسطينية، وتهجير اللاجئين إلى دولة ثالثة، وعودة رمزية لعدد صغير منهم
إلى أراضيهم وديارهم التي هُجّروا منها.
كما وافقت القيادة على مبدأ «تبادل الأراضي» الذي مسّ بوحدانية
الأراضي المحتلة العام 1967، وأعطى شرعية للاستيطان، وفتح الطريق لاقتراحات من نوع
ضم «الكتل الاستيطانية» لإسرائيل، بما في ذلك المقامة في القدس الشرقية، على أساس
«ضم الأحياء العربية للدولة الفلسطينية والأحياء اليهودية لإسرائيل».
صحيح أن هذه التنازلات الفلسطينية جاءت في سياق متغيّرات
وأوضاع غير مؤاتية ظهرت بعد «معاهدة السلام» المصرية - الإسرائيلية، وتلاحقت
باحتلال العراق للكويت، وانهيار التضامن العربي والاتحاد السوفياتي ومنظومته
الاشتراكية، وضرب العراق وحصاره ومن ثم احتلاله، وسيطرة القطب الأميركي على العالم،
ونتيجةً لقناعات قيادة ياسر عرفات بأنّ الأمر المحوري هو الحفاظ على العامل
الفلسطيني كلاعب أساسي ضمن أي شروط. ولكن هذه العوامل الكبرى الضاغطة لا تعني أنه
لم يكن أمام القيادة سوى أن تفعل ما فعلت، على أساس «أن ليس بالإمكان أبدع مما
كان»، بل كان بمقدورها أن تبدي مرونة، وحتى أن تساوم على الكثير من الأشياء، ولكن
بما لا يمس الحقوق والرواية التاريخية.
هناك عوامل أخرى ساهمت في حدوث ما حصل، منها صعود حركتَي
«حماس» و «الجهاد الإسلامي» من خارج إطار «منظمة التحرير»، واستمرارهما خارجها
برغم اندلاع الانتفاضتين الأولى والثانية، وسقوط وهم تحقيق تسوية تحقق الحد الأدنى
من الحقوق الوطنية اعتمادًا على المفاوضات والرهان على الإدارة الأميركية، ما أدى
إلى نوع من تعددية الإستراتيجيات والبرامج ومصادر القرار، الأمر الذي صبّ ربحًا
صافيًا للاحتلال، وإلى تنافس على القيادة والتمثيل، وارتهان الأطراف الفلسطينية
إلى المحاور العربية والإقليمية والدولية، انتهى إلى الانقسام السياسي والجغرافي
منذ العام 2007.
ما سبق يفسر لماذا التساؤل: هل يوجد مشروع وطني؟ وإذا
وجد، ما هو؟
إنّ المشروع الوطني ينطلق من التمسك بالرواية والحقوق
التاريخية والقيم الأساسية وما يجمع الفلسطينيين، ويتضمن تطوير التعددية والتنوع
والتنافس في الإطار الوطني، وتحديد الأهداف المرحلية والبعيدة وأشكال العمل
والنضال لتحقيقها. وحول هذه المسائل هناك تباينات فلسطينية كبيرة فاقمها تراجع
المركز القيادي، وغياب المؤسسة الوطنية الجامعة. لذا، فنحن بحاجة ماسّة إلى إعادة
الاعتبار للمشروع الوطني وتوضيحه وتوفير متطلبات نجاحه.
لقد تعرّض المشروع الوطني إلى مراجعات بعضها غير طبيعي،
مثلما أشرنا إليه، وبعضها طبيعي مثلما حصل بعد دخول فصائل الثورة «منظمة التحرير»
عقب هزيمة 67 وإقرار «الميثاق الوطني» بدلًا من «الميثاق القومي» المعتمد منذ
تأسيس المنظمة. كما أنّ ما جاء في «وثيقة الاستقلال» تضمن العديد من النقاط
والصياغات الجديدة الأكثر تطورًا عمّا كان قائمًا في الميثاقين القومي والوطني،
ولكن مسلسل التنازلات تفاقم بعد إطلاق مبادرة السلام الفلسطينية في العام 1988 وما
انتهت إليه بعد ذلك.
الآن بعد حصول ما حصل، وفي ظل المتغيّرات العاصفة في
إسرائيل والمنطقة والإقليم والعالم كله، وفي مواجهة المخاطر والتحديات الكبرى التي
تهدد القضية الفلسطينية بالتصفية، وأمام الفرص التي تلوح في الأفق برغم كل شيء، لا
بد من وقفة للمراجعة الوطنية الكاملة والعميقة والجريئة، وتحديد أين أخطأنا، وأين
أصبنا، وأين نقف الآن، وإلى أين نريد أن نصل، وكيف نحقق ما نريد، وقفة لا تستهدف
نبش الماضي والعيش فيه، وإنما استشراف المستقبل والتقدم إلى الأمام.
وبرغم كل الكوارث والأخطاء والخطايا، إلا أن لدينا ما
يمكن الاعتماد عليه لبداية جديدة. فنحن لدينا شعب يضم أكثر من 12 مليون فلسطيني،
نصفهم في الشتات، ونصفهم استقرّوا في أرض وطنهم برغم التمييز العنصري والمجازر
والتدمير، وهو شعب مصمم - كما ثبت خلال قرن من الزمان كان غنيًا بأكثر من 18 هبة
وثورة وانتفاضة - على إبقاء قضيته حيّة، والحفاظ على هويته الوطنية، والدفاع عن
وجوده وحقوقه، والنضال لتحقيق أهدافه مهما غلت التضحيات وطال الزمن.
المصدر: السفير