أمام نقطة تحوّل فلسطينية
بقلم: هاني المصري
جاءت قرارات المجلس المركزيّ لـ «منظمة التحرير» جيّدة، ورحّبت بها الفصائل،
لدرجة أنّ «حماس» التي قاطعت الاجتماع رحّبت بالعديد من قراراته. غير أن هذا الترحيب
بدا غائباً على الصعيد الشعبي. هل لأنّ الناس تخشى من ردّة الفعل الإسرائيليّة والأميركيّة،
وربما الأوروبيّة، على قرارات مثل وقف التنسيق الأمني، وتحميل الاحتلال المسؤولية عن
احتلاله، وإعادة النظر في العلاقة معه، ووقف «اتفاقية باريس» الاقتصادية، وتفعيل المجلس
التشريعي، والتوجّه نحو إجراء الانتخابات؟ ربما، لكن التفسير هذا غير مقنع، لأن الفصائل
والشعب يطالبان بقوة باتخاذ خطوات كتلك.
إذًا ما السبب وراء اللامبالاة الشعبية؟ حتى نجيب على السؤال علينا أن نتذكر
أن الشعب مغيّب عن المشاركة في تقرير مصيره منذ فترة طويلة، وأنّ الهوة بينه وبين القيادة
كبيرة وفي اتساع مستمر. كما أن هناك قرارات كثيرة مشابهة تم اتخاذها في الاجتماعات
السابقة للجنة التنفيذية لـ «منظمة التحرير»، كتلك التي اتخذت في الثالث والعشرين من
تموز الماضي، وتلك التي اتخذها المجلس المركزي في اجتماعه السابق في نيسان الماضي،
ظلت حبرًا على ورق، ولم تجد طريقها للتنفيذ، أو نفّذت بطريقة أفرغتها من مضمونها، لدرجة
أن المواطن لم يلاحظ الفرق بين ما قبل اتخاذها وما بعده.
على سبيل المثال، تحدّت القيادة الفلسطينية إسرائيل والولايات المتحدة بحصولها
على العضوية كدولة «مراقبة» في الأمم المتحدة، ولكنها تصرفت بعد هذا القرار التاريخي
كما كانت تتصرف قبله، باستثناء التوجه إلى مجلس الأمن بمشروع قرار، أبرز ما فيه الهبوط
عن سقف البرنامج الوطني وعما تقرّه الشرعية الدولية، مكتفية بتحديد موعد نهائي لإنهاء
الاحتلال. المضمون الهابط كرّس الكثير من التنازلات التي قدمها المفاوض الفلسطيني خلال
المسيرة الطويلة والعقيمة التي مرت بها المفاوضات، كالإشارة إلى الاستعداد لقبول حل
متفق عليه لقضية اللاجئين، والموافقة على مبدأ «تبادل الأراضي»، وغيرها من القضايا
التي لا يتسع المجال لعرضها في هذه المقالة.
يعود السبب وراء ارتباك السلطة إلى أن الإرادة السياسية لتغيير المسار غير متوفرة،
وأن الاستعدادات السابقة لاتخاذ هذه القرارات لا تشير إلى نية حقيقية لتنفيذها. علماً
أن العواقب المحتملة لها تستدعي توفير البدائل سلفًا، إذ كيف ستكون المواجهة المقبلة؟
وما أشكال النضال المناسبة؟ وما الأهداف المباشرة والمتوسطة والبعيدة؟ ومن سيوفر رواتب
الموظفين، خصوصًا اذا استمر تجميد تحويل الأموال من إسرائيل، وإذا اتّخذت الإدارة الأميركية
قرارًا بوقف مساعداتها؟
وإذا انهارت السلطة نتيجة لذلك، مَن سيحلّ محلها؟ فإذا أرادت القيادة التخلص
من التزامات «أوسلو»، عليها أن تبني البدائل وتضع استراتيجيّات قادرة على الصمود والمجابهة،
وعلى رأسها إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، وإعادة بناء المنظمة
وتفعيلها، وضم مختلف الأطياف إليها، واستعادة ثقة الشعب المفقودة بها حتى تكون الإطار
الجامع والممثل الشرعي الحقيقي، ولتكون البديل عن السلطة في حال انهيارها.
لا شيء مما سبق يحدث، بل رأينا تعاملًا غير جدي من خلال إعراب الرئيس عن استعداده
لإصدار مرسوم بإجراء الانتخابات إذا وافقت «حماس» على ذلك. عن أي انتخابات يتحدث الرئيس؟
عن انتخابات لسلطة الحكم الذاتي أم للدولة؟ وعلى أساس أي قانون انتخابات؟ وهل لديه
أو يمكن أن يحصل على موافقة أميركية وإسرائيلية وأوروبية ودولية على إجرائها، بغض النظر
عن نتائج الانتخابات الإسرائيلية وعن وجود أو عدم وجود عملية سياسية أو مضمون سياسي؟
هل ستكون الانتخابات تمهيدًا لإحياء ما يُسمّى «عملية السلام»، أو بداية نهج
جديد ورأس حربة معركة السيادة والاستقلال؟ أم أنها ستكون السهم الأخير لما يُسمّى بـ
«حل الدولتين»، والاستعداد لخيار الدولة الواحدة على أساس الكفاح ضد المشروع الاستعماري
الاستيطاني الاحتلالي من أجل هزيمته وتفكيكه كشرط لقيام مثل هذه الدولة؟
الانتظار هو سيد الموقف، ورسالة المجلس المركزي، في أحسن الأحوال هي الضغط على
إسرائيل حتى تحوّل أموال العائدات الجمركية التي تجمعها للسلطة، لأنها إذا استمرت في
حجزها ستضع القيادة والرئيس في موقف حرج، وقد تعرّض السلطة إذا استمر هذا الموقف إلى
الانهيار.
إن سياسة الرئيس الوحيدة هي الانتظار وردود الأفعال الانتقائية اللامنهجية وغير
المترابطة، وبرغم أن العديد منها يسير في الاتجاه الصحيح، إلا أنها غير كافية لإحداث
التحوّل التاريخي المطلوب.
الانتظار هذه المرّة سيكون لنتائج الانتخابات الإسرائيلية على أمل سقوط نتنياهو
وائتلافه الحاكم، ليحلّ محله ائتلاف جديد مستعدّ للتفاوض والاعتراف بوجود طرف فلسطيني،
علماً أن نجاح «المعسكر الصهيوني» لن يغيّر الخريطة السياسية، لأنه ملتزم باللاءات
الإسرائيلية لأيّ حل: لا عودة إلى حدود 1967، والقدس هي العاصمة الأبدية، ولا عودة
للاجئين، وبقاء السيطرة الإسرائيلية على الحدود والمعابر والموانئ والمطارات والأغوار
والمناطق الأمنية والاستراتيجية، وامتلاك القوات الإسرائيلية حق التدخل والمطاردة،
وضمان أن تكون الدولة منزوعة السلاح.
ستظهر المعضلة أكثر إذا فاز ما يُسمّى «اليسار» و «الوسط»، لأنّ الوضع الفلسطيني
الضعيف والمنقسم غير مؤهل لتوظيف التناقضات في إسرائيل، بل هو مؤهل للوقوع ضحيتها من
جديد. وربما تؤدي نتائج الانتخابات إلى حكومة وحدة في إسرائيل، لأنّ الأحزاب الصهيونيّة
لن تقبل أن تحكم اعتمادًا على الأصوات العربية، إذ تتزايد التوقعات بأن تحصل القائمة
العربية المشتركة على الترتيب الثالث، بعدد مقاعد يُمكِن أن تسمح لرئيسها بتبوُّء رئاسة
المعارضة، ما يلزم رئيس الحكومة الإسرائيلية المقبلة بالتشاور معه في قضايا مصيرية.
وهذا من شأنه أن يمس بجوهر «يهودية» الدولة التي تحظى بشبه إجماع في إسرائيل، ما يفتح
الباب أمام حكومة وحدة وطنية، وإلى تغيير القانون الذي يسمح لعربي أن يصبح رئيسًا للمعارضة.
هناك بوادر وإرهاصات عديدة ومتناثرة تشير إلى أننا نقترب من نقطة تحوّل، بل
لعلنا وصلنا إليها منذ وقت طويل، فيما القيادة تأبى الاعتراف بذلك، وتسعى للعودة إلى
جنّة المفاوضات الثنائية حتى تقيم الدولة الموعودة.
المرحلة الآن ليست مرحلة فرض الحل الوطني، بل مرحلة صمود وتعزيز عوامل تواجد
الشعب الفلسطيني على أرض وطنه واستعادة وحدته ومؤسساته ومشروعه الوطني. هي مرحلة التراجع
عن التنازلات الكبيرة التي قدّمت، مثل الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، ونبذ الحق الفلسطيني
في المقاومة وبأثر رجعي، والتنسيق الأمني، والتبعية الاقتصادية، والقبول بالالتزام
بالاتفاقيات من جانب واحد، واستمرار الحكم الذاتي... وعندما يتم ذلك وتتغير الأحوال
العربية والإقليمية والدولية، يمكن التقدم على طريق تحقيق الحل الوطني.
المصدر: السفير