أم نضال فرحات.. المدرسة!
لمى خاطر
في وداعها؛ اصطف القساميون بالمئات على طول
الطريق من المسجد حتى لحدها، وكأنهم فقدوا قائداً وموجّها وصاحب رتبة عسكرية رفيعة..
وهكذا كان موقع أم نضال فرحات في وعي أصحاب البنادق، وعند كلّ فارس عشق الشهادة
وسلك الدرب المفضي إليها!
لم تبقِ لنا أمّ نضال ما نستعين به من أبجديات
عند الحديث عن سيرتها، لأنها كانت في جميع كلماتها تخطّ عبرة وفائدة ودرساً كبيراً
تلخصه بعبارات موجزة، وما كان ذلك ليحدث إلا لأنها صدقت الله فأجرى الحق على
لسانها وجعله موضع تأثير عميق في عقل وفؤاد كل من يستمع لها ويستحضر سيرتها.
أم نضال، كانت مدرسة متكاملة، فهي لم تربّ
رجالا صالحين فقط، إنما أنشأت أبطالا، وهي لم تفقد ثلاثة من بنيها وحسب لتستحق
التعاطف الإنساني، بل دفعت أحدهم للميدان بنفسها وأوصته بأن يثخن في عدوّه قبل أن
يتمكنوا منه، وهي فوق ذلك وقبله جعلت بيتها مأوى للمطاردين، وزهدت في الراحة
واستطابت نفسها مشقة الجهاد.
كيف كانت تبدو صورة أم نضال في أذهاننا؟ كانت
لصيقة بالنقاء غير المحدود، بالتفاني العظيم، بالقدوة والريادة في جميع الميادين،
بالزهد في الحياة، وهي في رحيلها وثّقت ارتباطنا ببريق الآخرة ونزعت من نفوسنا بعض
فتيل الهيام بالدنيا..
أم نضال لها حكاية ممتدة في مفاصل التاريخ
الفلسطيني، وهي التي تتفوق على المبالغات المدحية في توصيف عطاء الأمهات، لأن ما
قدمته كان فوق الوصف، وأكثر مما يمكن لقلب بشري أن يحتمله، ولأن صدق تأثيرها انطبع
كسنة جهادية سرعان ما درجت عليها أمهات أخريات بعدها، كأم الشهيد محمد حلّس وأم
الشهيد محمود العابد، وكلتاهما ودعتا ابنيهما قبل انطلاقهما للجهاد، وانتظرتاهما
شهداء!
هذه الأم الرمز، المرأة المعطاءة، الأنموذج
الفذّ، الشخصية الآسرة، الجالبة بإخلاصها احترام ومحبة وتقدير كل أحرار الدنيا، لن
تخبو من سفر البطولة بعد أن ينقضي عمرها الدنيوي، إنها سارية كبيرة لن تهبط
رايتها، كيف لا وهي التي كانت تقول: إن كل دمائنا تهون في سبيل هذه الراية ولأجل
إبقائها مشرعة.
ربح البيع يا أمّ نضال، وحسبك بصماتك الأبدية
التي خلّفتها، وذاك المكان العليّ البهيّ الذي سيظلّ محطّ أنظار من يبغين التميّز
والفرادة، كما ينبغي أن يكونا. ولقد تجلّت عظمة أم نضال في مهابة مشهد الرحيل، في
تلك المشاعر الوجدانية العميقة التي سجّلها أبناء الأمة كلها على هامش الحدث، وفي
وفاء البنادق التي أشرعت نداءها خلف النعش المسجى في حضرة الضياء، وطرزت عليه
عهداً وثيقاً بدوام الوفاء لوصية امرأة، كانت مدرسة شاملة، لرجال الأمة قبل نسائها.