«إخوان» مصر و«حماس» وثورة
«المقلاع»
بقلم: خليل العناني
قبل يومين نشرت صحيفة «المصري اليوم» المصرية خبراً
يوحي بأنه تم التخطيط للثورة المصرية والتنسيق لها عن طريق جماعة «الإخوان المسلمين»
وحركة «حماس» الفلسطينية. وزعمت الجريدة أن لديها تسجيلات صوتية تلقتها من «مصادر»
داخل جهاز الأمن الوطني (أمن الدولة سابقاً) تفيد بأن مكالمات هاتفية بين قيادي «إخواني»
وآخر من «حماس» قد جرت وتتحدث عما يشبه خطة مسبقة لاقتحام السجون المصرية أثناء الثورة،
فضلاً عن التخطيط والمشاركة في الاشتباكات التي وقعت أثناء الثورة خاصة خلال ما بات
يُعرف بـ «موقعة الجمل». والأكثر من ذلك أن الجريدة تحدثت عن حصول خيرت الشاطر، نائب
المرشد العام لجماعة «الإخوان»، على هذه التسجيلات من مقر وزارة الداخلية عن طريق رئيس
جهاز الأمن الوطني اللواء خالد ثروت. وبعد ساعات من نشر هذه الأخبار، أعلنت وزارة الداخلية
أنها لا تعلم شيئاً عما نشرته الجريدة ونفت أن تكون قد قامت بتسليم أي تسجيلات للشاطر.
دعك من مدى سذاجة القصة وتهافتها وركاكتها اللغوية،
فتلك مسألة ليست بحاجة إلى تعليق إذا ما عرفنا أن هذا هو السائد الآن داخل كثير من
أروقة الصحف المصرية. بيد أن ما يثير الشفقة والغثيان حقاً هو إصرار الجريدة على الاستمرار
في الترويج لقصتها باعتبارها «سبقاً صحافياً» اتخذت له عنواناً كبيراً لا يخلو من مغزى
سياسي هو «الشاطر غيت». والأمر لا يتعلق هنا بضعف إن لم يكن انعدام المهنية والمصداقية
فيما نشرته الجريدة، فتلك مسألة أخلاقية تتعلق بمن نشر الخبر ومن سمح بنشره، ولا يجدي
معها لوم أو نصح، وإنما الأهم هو تلك الحرب الطاحنة التي تدور رحاها بين بقايا النظام
القديم الذي يحاول تجميع ولملمة أوراقه بعد خروج الكثير من قياداته السابقة من السجون
من جهة، وجماعة «الإخوان المسلمين» التي تتخبط في إدارة شؤون الحكم في مصر من جهة أخرى.
وربما تزول الدهشة إذا ما عرفنا أن رئيس تحرير الجريدة كان واحداً من أكثر الصحافيين
المصريين قرباً من وزير الإعلام الأسبق صفوت الشريف الذي خرج من السجن قبل أسابيع وهو
ذاته نفس الشخص الذي عمل لعقدين مراسلاً لبعض الصحف المصرية من داخل القصر الجمهوري
للرئيس المخلوع. وهو أيضا أحد الصحافيين «الموالين» للعسكر، وهم كُثُر، داخل المؤسسات
الإعلامية المصرية.
بكلمات أخرى، فإن «السبق الصحافي» المزعوم ما هو
إلا مجرد حلقة في الصراع الشرس بين نظام قديم فاسد يأبى الخمود ونظام جديد فاشل يرفض
النصح، وذلك على حساب أرواح شهداء الثورة المصرية ودماء ضحاياها وشبابها الذين خلعوا
الطاغية حسني مبارك في أقل من ثلاثة أسابيع. ويبدو فقر الخيال الصحافي والدرامي واضحاً
في هذه القصة الوهمية. فمن جهة يتحدث الخبر عن تورط عناصر من «حماس» في معارك «ميدان
التحرير» التي جرت أثناء الثورة، وذلك من خلال استخدام «مقلاع» لإلقاء الحجارة والنيران
على المتظاهرين في ميدان التحرير. وهو أمر لا يخلو من طرافة ليس فقط لأن «المقلاع»
هو آلة كبيرة وقديمة كانت تستخدم في حروب ما قبل الحداثة، وإنما أيضا لأن نقله ووضعه
فى ميدان التحرير لم يكن ممكناً من الناحية الفنية والتكتيكية ليس فقط لأنه كان من
السهل اكتشافه ورؤيته بملء العينين ومن ثم اصطياد من يقف وراءه، وإنما أيضا لأنه لم
يكن هناك حاجة له في عصر الرصاص والبنادق والقنابل. ومن جهة أخرى، فإنه على عكس ما
أراده ناشر الخبر ومن سرّبه من محاولة تشويه «الإخوان»، فإنه أفادهم من حيث لا يدري
حيث مسح عنهم الانطباع الشائع بالتلكؤ في دعم الثورة المصرية منذ بداياتها الأولىوإذا
ما وسعنا دائرة التحليل فلربما تتضح صورة الصراع أكثر.
فمن جهة لا يزال الكثير من أبناء مبارك وأعوانه
متغلغلين في مؤسسات الدولة العامة والخاصة وهم يديرون المعركة الآن نيابة عن الوجوه
القديمة. وهي بالنسبة إلى كثيرين منهم معركة حياة أو موت. فكثير من هؤلاء يتعاطى مع
الثورة والنظام الجديد بمنطق الانتقام والثأر. وهم موجودون بكثرة في وسائل الإعلام
ووزارة الداخلية والمحافظات والقضاء وجميع فروع البيروقراطية المصرية. ومن جهة ثانية،
لا يمكن الفصل بين اشتداد المعركة بين «الإخوان» والنظام القديم وخروج الكثير من الرؤوس
الفاسدة من السجون ومحاولتها الاستثمار في فشل «الإخوان» وغبائهم السياسي والاستفادة
من حالة الإحباط السائدة بين كثير من المصريين بسبب سوء الأداء الإداري والاقتصادي.
ومن جهة ثالثة، فإن ثمة تناغماً لا تخطئه العين بين القصة الوهمية التي نشرتها «المصري
اليوم» وتصريحات محامي الرئيس المخلوع عن تورط «الإخوان» في قتل المتظاهرين. وهو أمر
يجري الترويج له منذ فترة كجزء من سيناريو واضح للابتزاز السياسي يصب في محاولات التعجيل
بالإفراج عن مبارك وأبنائه. ومن جهة رابعة، فإن إقحام «حماس» في الثورة المصرية تفوح
منه رائحة الصراع داخل بعض الأجهزة السيادية ومحاولتها استخدام هذه الورقة من أجل الضغط
على «حماس» في قضايا أخرى. فليست هذه هي المرة الأولى التي يجري فيها تشويه «حماس»
أو إقحامها في تفاصيل الشأن السياسي المصري. فقبل أسابيع نشرت إحدى المجلات المغمورة
أخباراً عن تورط «حماس» في قتل الجنود المصريين في رفح خلال شهر آب (أغسطس) الماضي،
وذلك من دون تقديم أي أدلة على ذلك ولم يُعاقب المسؤول عن نشر هذه الأخبار الكاذبة.
ما فعلته جريدة «المصري اليوم» ليس فقط سقطة مهنية
وأخلاقية يجب الاعتذار عنها احتراماً لعقل القارئ ولشهداء الثورة المصرية، وإنما أيضاً
عينة واضحة لحالة التسييس والصراع التي تغرق الإعلام المصري سواء المقروء أوالمرئي.
ومن يتابع الكثير من الصحف والفضائيات المصرية يكتشف أنها لم تعد تقتصر فقط على نشر
الإشاعات والأخبار الكاذبة، وإنما باتت طرفاً أصيلاً في الصراع السياسي الراهن. في
حين تحوّل كثير من مالكيها ورؤساء تحريرها إلى زعماء سياسيين أقوى من رؤساء الأحزاب
السياسية. ولا غرابة في أن كثيرين منهم قد باتت لديه امبراطوريات مالية ومصالح اقتصادية
وسياسية بعضها يشوبه الفساد لذا يحاول حمايتها من خلال أدواته الإعلامية.
قطعاً لا يمكن إغفال مسؤولية «الإخوان» في ما يحدث
الآن وذلك سواء بسبب فشلهم فى إدارة الدولة بعد الوصول الى السلطة، أو بسبب بطئهم فى
تحقيق أهداف الثورة. بيد أنه حتى لو كان «الإخوان» قد نجحوا فإن مشكلة «بارونات» الإعلام
الجديد هي أبعد من «الإخوان». إنها مع الثورة ومع النظام الجديد أياً كان من يمثله.
يقول الفيلسوف الألماني نيتشه «لست منزعجاً لأنك كذبت علي، لكنني منزعج لأنني لن أصدقك
بعد هذه المرة»، وهي مقولة يبدو أن الإعلام المصري قد بات بحاجة إلى وضعها نصب عينيه
كي يحتفظ بمصداقيته أمام نفسه وأمام العالم.
* كاتب وأكاديمي مصري، جامعة
دورهام-بريطانيا.
الحياة، لندن، 1/5/2013