القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الجمعة 29 تشرين الثاني 2024

إسرائيل وغزة.. "نصر" بطعم الهزيمة

إسرائيل وغزة.. "نصر" بطعم الهزيمة

عدنان أبو عامر

بات واضحا أن حرب غزة الأخيرة التي استمرت أكثر من خمسين يوما بين المقاومة الفلسطينية بقدراتها المحلية، والجيش الإسرائيلي الأكبر في المنطقة، ستدخل كتب التاريخ العسكري لدى الجانبين، على اعتبار أنها الحرب السابعة التي تخوضها إسرائيل ضد العرب.

لكن الأكثر وضوحا بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وهدأ هدير المدافع وأزيز الطائرات وتوقفت حمم القنابل والصواريخ، حالة التلاوم الداخلي في إسرائيل، والاتهامات المتبادلة حول نتيجة الحرب على غزة، وقد تمحورت معظمها في استخدام مفردات: "الفشل، الإخفاق، التقصير، التراجع".

تعطيل الحياة

فقد أكدت الأوساط الإسرائيلية أنّ إسرائيل فشلت عمليا في تحقيق أي من أهدافها في الحرب، داعية قيادة الدولة لاستخلاص العبر المطلوبة، لأنها لم تفِ بتعهداتها بردع حركة حماس ونزع سلاحها، وبدلا من أن الحرب كان يتوجب أن تقضي على الحركة، فإنها أمدتها بالشرعية وجعلت دول العالم والقوى الإقليمية تتواصل معها وتعترف بمكانتها.

كما يصعب العثور في الداخل الإسرائيلي على إنجاز واحد يبرر "التضحيات الجسام" التي قدمتها الجبهة الداخلية، وهو ما يتطلب ضرورة إجراء تحقيق شامل في مسار الحرب، وتقصي الحقائق في كل ما يتعلق بالأداء العسكري والسياسي، لأن إسرائيل دخلت معركة غزة بتردد، وانجرت وراء التحركات القتالية، وخلقت انطباعا وكأنها تريد الهدوء بكل ثمن.

وقد بدت إسرائيل غير مستعدة لخوض القتال، وهذا التصرف يمس بقدرة الردع الإسرائيلية بشكل خطير، ويلحق بها ضررا طويل الأمد، لا سيما وأنها لم تفلح في الاستفادة من الدعم الدولي الكبير الذي حصلت عليه في بداية العملية.

بل إن بعضا من المسؤولين والخبراء العسكريين في إسرائيل لم يتردد في القول إنه بعد خمسين يوما من الحرب في غزة، فإنّ النتيجة 1/0 لصالح حماس، رغم أنّ الفلسطينيين نزفوا دما أكثر، فإنهم بعد ما يقرب من الشهرين قد يروا تحسنا محتملا في وضعهم، وهو هدف أي استعراض للقوة، وبحساب بسيط للتكاليف مقابل المكاسب بالمقارنة بالموقف الذي كان سائدا في السابع من يوليو/تموز حين بدأت الحرب على غزة، يتضح أن إسرائيل خسرت أكثر.

وهكذا فإن كل ما حصلت عليه إسرائيل من حرب غزة هو استعادة الوضع السابق، بينما كان الثمن الذي دفعته سبعين قتيلا ومئات المصابين، واقتلاع الآلاف من المستوطنين من منازلهم هربا من صواريخ حماس.

ورغم أنه في كل من المجالات تمثل الخسارة 3% مما عاناه الفلسطينيون في غزة، فليس هناك عائد يمكن الشعور به لما تكلفته إسرائيل، وإضافة للضحايا، نجحت حماس بتعطيل الحياة فيها في عدة مجالات: تعليق جزئي للرحلات الجوية لمطار "بن غوريون"، إلغاء العديد من الحفلات الموسيقية والعروض وغيرها من فعاليات عامة، التهديد بتأخير محتمل في افتتاح العام الدراسي.

فيما قال مستوطنون من سكان المستوطنات المحيطة بغزة -وغادروا مستوطناتهم وبيوتهم بسبب "حرب الاستنزاف" التي تطورت في الأيام الأخيرة من الحرب- إنهم لا يفكرون بالعودة لبيوتهم، على اعتبار أن الاتفاق مع حماس خضوع لها، مع أنهم أرادوا الحسم في القتال، لكن ذلك لم يحصل، فحماس طرحت مطالبها بقوة ذارعها، ومن المتوقع أن تحصل عليها.

ولذلك ظهرت النتائج الأولية "الكارثية" لحرب غزة على الإسرائيليين حين بدأ سكان المستوطنات الجنوبية يتوافدون على مدن الوسط الإسرائيلي ووجوههم يملأها الخوف، ودموعهم تسيل، حين تأكدوا أن المقاومة الفلسطينية باتت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق شروطها، وهذا وضع لا يطاق لدى الإسرائيليين يقولون إنه ما كان يجب الوصول إليه.

حصل ذلك بعد أن صمدت غزة خمسين يوما كاملة أمام الجيش الأكثر تطورا والأكثر قوة في الشرق الأوسط دون أن تستسلم، في حين ترك الآلاف من الإسرائيليين بيوتهم في غلاف غزة، وبحثوا عن ملجأ لغاية عبور الغضب، مما يعني أن المقاومة الفلسطينية بقيت لمدة خمسين يوما تملي عليهم ماذا يفعلون، ومتى سيكون وقف لإطلاق النار، وإسرائيل استجابت.

ضرب العقيدة القتالية

وهكذا بدا أن حماس بنظر الإسرائيليين -فور أن وضعت الحرب أوزارها، وعاد المقاتلون في الجانبين إلى عائلاتهم- تتحول خطوة فخطوة إلى عامل مهم في أية تسوية إقليمية، وإسرائيل ستكون بحاجة للحديث مع قادتها مستقبلا، مما يرجح وصف نتيجة الحرب على غزة بـ"الانهيار"، لأن إسرائيل خاضت مواجهة بين أقوى جيوش المنطقة مع تنظيم يعد بنحو 15 ألف مقاتل، وعدد أقل من القذائف الصاروخية. هذا ليس مجرد سقوط لإسرائيل، بل انهيار.

كل ذلك يعني أن "نتنياهو" ورفاقه في الحكومة سوف يخضعون للمحاسبة، وإجراء حساب مع النفس حول جدول الأعمال، وسلم الأولويات الذي حاولوا فرضه في السنوات الأخيرة، لأنّه من الواضح أن إسرائيل لم تستعد بشكل مناسب لمواجهة الأنفاق وقذائف الهاون، ويتعين عليها أن تبدأ منذ اليوم الاستعداد للمعركة القادمة لـ"جرف صامد" آخر، لأنّ خمسين يوما من القتال في مواجهة حماس تسببت بهزة لعقيدة الحرب الإسرائيلية.

وهذا يتطلب إجراء فحص معمق لعقيدة القتال الإسرائيلية من أجل إنعاشها، وترجمتها لخطوات سياسية وأعمال عسكرية، وإلا سيصعب على رئيس الوزراء أن يشير لصورة واحدة من صور الانتصار تمكنه من مواجهة الانتقادات في حزبه والحكومة.

بل إن المؤرخ العسكري "أوري بار يوسيف" سخر من مزاعم بعض مقربي "نتنياهو" بتحقيق انتصار على حماس، بقوله: إذا كان هذا انتصارا فكيف تكون الهزيمة؟، لأنّ الحرب على غزة مثلت نقطة فارقة ستجبر إسرائيل بعدها على هجر خيار القوة في مواجهة الفلسطينيين، لأن السؤال قائم عن: كيف وصلت إسرائيل لهذا الواقع، بحيث تمكن تنظيم صغير في غزة من الصمود لأكثر من خمسين يوما في وجه القوة الإقليمية الأبرز في الشرق الأوسط، وأين دور سلاح جوها الأعظم ذي القدرات الهائلة، ولماذا لم توفر استخباراتها ذات الشهرة المعلومات الكفيلة بتوجيه ضربات تخضع حماس؟

المفارقة التي تدفع للتأمل فور انتهاء الحرب على غزة، انقسام إسرائيل لمعسكرين في تقييمهم لنتائجها:

- معسكر يعتقد أن العدوان على غزة نجح بشكل باهر، ويتكون هذا المعسكر ممن أدار المعركة، رئيس الحكومة ووزير حربه وقائد جيشه.

- ومعسكر يرى أنها فشلت، وستدفع إسرائيل ثمنه باهظا، يشمل الجناح الصقري في الليكود والطاقم الحكومي، وغالبية المحللين من خارج المؤسسة الرسمية.

نسف الشعارات

لكن أصحاب النظرة الواقعية في إسرائيل على قلتهم يقدمون الصورة التالية: لا خلاف أن حماس تلقت ضربة صعبة، لكنها نجحت بجر إسرائيل لمعركة متواصلة، باهظة الثمن بالدم والمال ومحبطة، لأنها وجدت غالبية أراضيها وسكانها يتعرضون لهجمات صاروخية لا متناهية، وسحقت في الأيام الأخيرة وبشكل خطير قوة الصمود لدى سكان محيط غزة.

ولذلك يمكن اعتبار ما حققته إسرائيل بنظر شريحة واسعة من الخبراء والكتاب والمحللين فيها بأنه "النصر الأقرب إلى الهزيمة" الذي حققته في العدوان على غزة، لأنه شكل صدمة إقليمية، وذلك لأن الحكومة حددت للقيادة العسكرية عدة أهداف سياسية عسكرية في هذه الحرب، 50% منها لم تتحقق، فالجيش لم ينجح مثلا بوقف النار من غزة، وفشل بشكل مطلق أمام هدف غريب لم يكن له منذ البداية أمل في أن يفي به: الحفاظ على التمييز بين قطاع غزة والضفة.

وربما يتبدى ذلك بتمرير الحكومة لاتفاق وقف إطلاق النار مع حماس بدون مباحثات أو تصويت من قبل وزرائها، بل اقتصر الأمر على مكالمة هاتفية مقتضبة لهم، أسفرت عن مصادقتهم على الاتفاق، وبعدها أغلق "نتنياهو" هاتفه، وهرب، رغم أنه قبل خمس سنوات فقط، بعد الحرب الأولى على غزة 2008-2009، كانت حملته الانتخابية قائمة على أن "المهمة لم تستكمل، ويجب القضاء على حماس، وأنه الوحيد القادر على ذلك".

لكن أداءه طوال الأيام الخمسين للحرب كشف حجم الفجوة بين التصريحات والتعهدات التي ينثرها وبين الواقع، وكل ما أراده في النهاية هو التوصل لوقف إطلاق النار بأي ثمن، وعندما لاحت له الفرصة استغلها، وهرب.

وهذا يعني أن اتفاق وقف النار مع الفلسطينيين جاء متأخرا جدا، ويؤكد أنّ العملية العسكرية ليست إلا فشلا استراتيجيا لإسرائيل التي بدأت حربا بلا أهداف، وأنهتها بإنجازات للفلسطينيين على حساب مستوطني الجنوب، والسؤال: كيف بعد خمسين يوما من الحرب تضطر إسرائيل لقبول واقع رفضته من قبل؟

وهو ما يدفع صناع القرار فيها للبحث عن بدائل سياسية تتلاءم مع معطيات الواقع الإقليمي، لأنّ إسرائيل اليوم تقودها حكومة ضعيفة ومترهلة، وائتلاف يجعلها مصابة بالشلل السياسي، وجاء اتفاق وقف إطلاق النار مع حماس ليبقي الجمهور الإسرائيلي محبطا، مما يبقي حماس تشكل تهديدا على البلدات الإسرائيلية حتى حيفا، وبينما توقع الجمهور نهاية مغايرة للقتال، فقد تلقى خيبة أمل.

أخيرا.. فإن حرب غزة التي خاضتها إسرائيل، وختمتها باتفاق جرى توقيعه في القاهرة، تعتبر بمثابة فشل لإسرائيل، لأن أمنها سيظل مهددا بصواريخ المقاومة، والتهدئة ستسمح لحماس بمزيد من تطوير معداتها وصواريخها العسكرية، وهذا يؤكد أن نتائج الحرب لإسرائيل قاتمة للغاية، لأنها لم تحقق الردع الكافي الذي يمنع حماس من مهاجمتها مجددا، وبدلا من أن تكون الحرب الأخيرة تمهد الطريق للقضاء على التهديد من غزة، فإنها مهدت الطريق للجولة المقبلة في غزة أو سواها من الجبهات المتململة.

وهكذا نسفت حرب غزة القناعات والشعارات التي ظلت ترددها إسرائيل، وباتت تعترف بشكل واضح وجلي باستحالة تحقيق نصر على الفلسطينيين، لأن إسرائيل بدت كإمبراطورية أنهت توسعها، وتواجه الآن آلام التقلص، كباقي الإمبراطوريات السابقة التي لم تكن حذرة من التوسع الزائد.

الجزيرة نت، الدوحة