إشبيليا في المخيم
بقلم: طه يونس
ـ دائما كنت أنتظره، ودائماً كان لا يعود!
مرة تمنيته إلى جانبي، كانت أمي قد ذهبت إلى السوق وتركتني وحيدة في البيت. صرت أصرخ
كالمجنونة: أريده.. أريده..
ـ تشتاقينه بعدما ابتعد عنك كلّ تلك الأميال؟
ـ في هذا المخيم، أشواقنا ليست باردة. لكن
صدقيني، أحلامنا مطحونة من كثرة ما نركض وراء لقمة العيش.
قالت ذلك والدموع قد انفلتت من عينيها على
حبيبها الذي رحل:
ـ هل هو يفعل ذلك أيضاً؟
ـ- في آخر مرة حادثته، قال إنه قتلني.
فتحت إليانا عينيها مستغربة ما سمعته!
أكملت سماح:
ـ يقول إنه ألبسني كفناً أسود، ودفنني.
لم أفهم بدايةً، لكنه أكمل أنه خنقني بالدخان والحشيش، وملأ جسمه بالكحول ليتخلص من
شبحي الذي يلاحقه ويحاصره!
ـ وهل انتهى الأمر؟
ـ لا يمكن أن تنتهي قصة عمرها 10 سنوات
بهذه السذاجة التي يتكلم بها، لكن يجب علي ألا ألومه، من أنا لألومه؟ أنظر إلى أخيه
المرمي في الفراش، وأمه التي لم تنشف دموعها منذ تركها ورحل، وأبيه الذي يرفض أن يزوجه
إلا لابنة عمه، وأبي الذي يرفض نسب والده، والمخيم الذي لا يتسع لابتسامة وفرحة.. أنظر
إلى ذلك كله، وأعود لأقول من أنا لألومه.. الحب في بلادنا يا صديقتي مختلف عن تلك القصص
التي يمكن أن تصادفينها هناك في إشبيليا. ها هو يسكن في شوارع برلين، لا يملك إقامة،
ولا يعرف طريقاً لمستقبله!
ـ حدثني وليد عن هذا الحزن الذي يسكنك،
لكني لم أكن أعي أنك تحبينه إلى هذا الحد. أعتذر يا سماح، لم أقصد استفزاز مشاعرك.
قاطعتها دقات وليد على الباب، ورائحة القهوة
التي انبعثت في الغرفة. مسحت سماح دموعها بسرعة، لكنها لم تفلح بإخفاء حالتها عن وليد.
جاءها صوته: «إليانا يا سماح جاي تتعرف على المخيم عن قرب، تشوف قصص الناس، تتقل حالة
مخيماتنا للجريدة باعتبارها صحافية. ما في داعي تسمع حكايتك مع ربيع، بكفّي وجع خيتا».
انتفضت سماح من مكانها: «هو أنا مش واحدة
من هالناس؟»، قاطعتهما إليانا بعربية مكسرة: «سماح، سأكتب قصتك إذا بتسمحي».
زارتها ابتسامة خجولة، أعادت ترتيب ملامحها،
فتورّد وجهها القمحي المائل الى السمار. فكّت ربطة شعرها الأسود، فانسدل الى أسفل كتفيها.
ضغطت على زر الراديو المجاور لسريرها، فانبعث صوت موسيقى الثلاثي جبران يرافقها محمود
درويش: «لم تأت.. قلت ولن، إذاً سأعيد ترتيب المساء بما يليق بخيبتي وغيابها». ساد
سكونٌ في الغرفة، وكان وليد يحدّق بفنجان قهوته مفنجر العينين، كأنه يرى فيه دهاليز
حياته، بينما كانت اليانا مرهقة وبدأت بالتثاؤب حتى نامت في أول ليلة لها في المخيم.
صباحاً، عاد وليد ليصطحب إليانا، وكانت
قد استيقظت، سرّحت شعرها الأشقر، استعانت ببكلة لتجمع خصلاته المجدولة بشكل عمودي،
ولبست شالاً فستقياً أنيقاً، انعكس لونه على وجهها قليلاً، وبدت متشوقة لما ينتظرها
في أزقة المخيم.
على أدراج البيت المائلة، كانت إليانا تققز
مثل مهرة، فتقطع ثلاث درجات في كلّ خطوة. انتحى وليد شمالاً باتجاه دار أم علاء، نادت
عليه: «يسعد صباحك يا وليد، تفضّل زورنا إنت وضيوفك». دخل إلى دارها، كانت تجلس وتمدّ
العجين أمامها، تراقصه بمهارةٍ بين يديها، تعود وتمدّه ثانية على لوح من الخشب، ترفعه
ببطن يدها وتدفعه باتجاه بيت النار. بدت إليانا مشدودة إلى انتفاخ الرغيف على الحطب،
راقبته من بعيد، فدعتها الجارة لأن تجرب ذلك بنفسها. فعلت، ولكنها فشلت إلى حدّ بعيد
بأن تحافظ على امتداد العجين بين يديها.
تذوقت على حياء خبز أم علاء بعدما جهزته
ووضعته ساخناً أمامها مع كوب من الشاي. ابتسمت، وقالت بالانكليزيّة: «لذيذ». في ذلك
الوقت، كانت أم علاء مهتمة بشيء آخر. همست لوليد بصوت خافت: «تزوجها، البنت حلوة يا
خالتي». خفضت من صوتها قدر المستطاع، مع أن إليانا لن تفهم لغتها، وأشارت بسبابة يدها
اليمنى إليها، وعادت تشير بحركة دائرية حول بنصر يدها!
في اليوم الثاني، اصطحبها وليد إلى مقر
عيادة الأونروا. شاهدت اصطفاف المرضى وانتظارهم الطبيب والدواء. وفي الجزء الشمالي
من المخيم، كانت الجدران بمعظمها تزدان برسومات مختلفة. أخذت تسأل وليد عن معناها،
فعرّفها على حنظلة. سألته عن وجهه، ولم يُجب. شاهدت البنادق على الجدران، وإشارة بإصبعين،
ترمز إلى الحرية والنصر. وكان هناك كلام كثير بالعربية عن مدن فلسطين وقراها، طلبت
من وليد شروحات كثيرة عنه.
مساءً، كانت سهرة وداع إليانا في غرفة سماح.
غداً، ستترك المخيم وتعود الى إشبيليا. قالت لوليد: «علّمتني العربية على الإنترنت،
صبرت وكنت صديقاً حقيقياً. كلامك عن فلسطين شوقني لزيارة عكا وقراها، هل لك أن ترافقني؟».
سالت دمعة ساخنة على وجنة سماح، وليد صمت
طويلاً. ثم ابتسم وقال: «ممنوع علينا أن نشم ترابها إليانا».
أسبوع مرّ على تلك الليلة الخريفية، وعاد
وليد من عمله في محل الإنترنت إلى منزله منهكاً. وجد سماح تبكي كعادتها. ما بك؟ فأجابت:
«هل من أخبار جديدة عن إليانا؟ أفتقدها».
قال: «كلّمتني عبر الإنترنت، وأخبرتني أنها
بدأت بكتابة قصتك مع ربيع. وجّهت سلامها إلى فناجين قهوتنا، وخبز أم علاء، ووجه حنظلة
الذي لم تره».
قالت إليانا: «اشتقت إلى المخيم، وأحببت
قلادة فلسطين التي أهديتني إياها يا وليد. أقسمت أن أبقيها على صدري حتى ألتقيكم ثانية.
فهمت حبك للمخيم الذي تعيش فيه، لكنني لم أفهم عدم قدرتك على السفر إلى عكا، أو حتى
زيارتي هنا في إشبيليا!».
المصدر: السفير