القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الإثنين 25 تشرين الثاني 2024

إشراقات رائعة عن العلامة البيتاوي رحمه الله

إشراقات رائعة عن العلامة البيتاوي رحمه الله

بقلم: تلميذ الشيخ

العلامة الشيخ حامد البيتاوي، رجل عظيم قلَّ مثاله حقاً، وعندما أقول: "قلَّ مثاله"، فإنني أعني ما أقول. نعم، لقد خسرت فلسطين بل الأمة نموذجاً فذاً وجبلاً شامخاً وراحلة مجاهداً وإماماً عالماً ومصلحاً فاهماً وقاضياً عادلاً ورجلاً لم يخف في الله لومة لائم. وإنني هنا من خلال هذا المقال أحب أن أنثر شيئاً من بعض النور الذي أقتبسته من شيخي العزيز، عساه يعرّفنا على شيء من أثره، ويكون وفاء له رحمه الله.

ولعل أبرز ما يمكن أن ألقي الضوء عليه من حياة الشيخ، هو جهادُه الوضّاء، وعدم مخافته أو خشيته أحداً إلا الله، إنني لا أزال أذكر كيف كان أبناء الحركة الإسلامية إذا أرادوا ان يستمعوا لخطبة يفهموا منها المواقف القوية، ويأخذوا منها العزائم الحقة، فليس لهم إلا حضور خطب الشيخ حامد، لتكون لهم عزيمة وهمة وشحذاً، ولا أزال أذكره بكلمته المشهورة أثناء خطبه، إذ يقول: "إنني أقول لكم أيها الإخوة، ولا أخشى في الله لومة لائم" ثم يهدر صوته بالحقائق الناصعة التي قلّ أن يجرؤ أحد على قولها.. ولا زال العارفون يذكرون خطبه في المسجد الأقصى المبارك، وخصوصاً خطبته الأخيرة، عندما قال: "أيها المندسّون والعملاء، جهّزوا أقلامكم، يا ضبّاط الاحتلال وجنوده ومخابراته، افتحوا آذانكم جيداً" ثم يصدح لهم بكلام يرعب قلوبهم الخائفة، ويهدهد هممهم البائسة. ولذلك مُنع من الخطابة ازدواجيا، من سلطات الاحتلال ومن السلطة الفلسطينية.

بل إن الشيخ ما استكان حتى أثناء اعتقاله، حتى قال للقاضي في محكمة العدل العليا الإسرائيلية أثناء محاكمته: بلّغ أولمرت "وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها"، وبلغ حكومتك، إنتو مش امطوّلين، وزوالكم قريب".

بل حدث مرة أمامي أن ضابط السجن الإسرائيلي جاء ليأخذ الشيخ حامد إلى العيادة الطبية حيث كان مريضاً بالسكري، فقال الضابط للشيخ: "شايف كيف إحنا امناح معك ومناخذك عالدكتور" فقال له الشيخ: "لازم اتكون امنيح معي، لإنك حاسب حساب بكرة لما اتصيروا أسرى عنا عشان انعاملكم منيح!"..

وأذكر أن الشيخ كان يرفض أن يصحبه في الطريق إلى العيادة إحدى المجنّدات الإسرائيليات، وفي إحدى المرات قال له أحد الضباط: "كل الضباط الآن مشغولون، ولازم تطلع عالعيادة، وفش غير المجنّدة توصلك للعيادة، وهي مجنّدة حلوة رح تاخذك عالعيادة" فردّ عليه الشيخ رداه المزلزل: "هذي المجنّدة خليها إلك ولكتساف تبعكم!" في إشارة إلى رئيس دولتهم المزعمة الذي كان يحاكم في تلك الأيام بتهمة التحرش بموظفة في مكتبه.

وأزيد إلى كل هذا، ما حدّثني به أحد الإخوة الثقات، من أن الشيخ، وعلى مكانته العلمية وجهاده الرائع، وكثرة ابتلاءاته واعتقالاته وإبعاده إلى مرج الزهور، حدث مرةً أن التقى صدفة بالمهندس القسامي الخامس، الشهيد محمد الحنبلي رحمه الله، أيام كان مطاردا للاحتلال، فانهال الشيخ على يد محمد يريد أن يقبّلها وهو يبكي بشدة ويتوسل إليه أن يرسله في عملية استشهادية!

نعم! لقد كان الشيخ جبلاً شامخاً لا يرهب الموت، ورجلاً يقول ما هو مؤمن به دون وجل، وهذا ما أدى به إلى سجون السلطة في العام 1998م يوم أن سُئل عن موقف الشريعة من اتفاقية "واي ريفر" بين السلطة والاحتلال، فقال بلا تردد: "هذه الاتفاقية خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين". نعم يا أيها الإخوة ويا أيها القادة والعلماء، إن الشيخ حامد لم يكن يعرف أن يهادن أو ينافق أو يتملق، ولهذا أحبه الناس ورفع الله له ذكره بين قلوب المؤمنين. ولا زلنا نذكر يوم أن جاءت الصحافة الإسرائيلية إلى بيته وسألته عن موقفه من الاعتقالات المتواصلة من الطرفين؛ السلطة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، لشباب حماس، فقال كلمة يسجّلها التاريخ: "نحن سنصبر على أذى السلطة، ولكننا نقول بأن وجودكم ووجودهم إلى زوال". وأقسم لهم أنهم "إذا هاجموا غزة مرة أخرى فسيخرجوا مدحورين".

كل ما سلف كان جانباً من جهاده رضي الله عنه، أما عن الجوانب المشرقة الأخرى من حياته، فلا أدري، أأحدّثك عن إيمانه العجيب ودعوته الرائعة، وحفاظه على صلاة الفجر في المسجد حتى في أوقات المرض أو الخوف أو الاجتياحات، وكان يجلس بعد صلاة الفجر في المسجد ذاكراً وقارئا للقرآن ثم يقوم بممارسة شيء من الرياضة حتى شروق الشمس، ثم صلاة الضحى، حتى ما تلبث بعدها بدقائق إلا وترى الشيخ حامد لابساً جبّته وعمامته الجليلة ذاهباً نشيطاً أميناً إلى عمله قاضياً عادلاً في أعلى مناصب القضاء ومصلحاً اجتماعياً في قلوب الناس ونائبا برلمانياً ممثلا هموم الناس وتطلعاتهم؟ أم أخبرك عن مواظبته على الوعظ والإرشاد واستثمار الفرص لإعطاء الدروس المؤثرة في المساجد، والتي كان الناس يتطلعون إليها بشغف؟! ولا زالت مساجد نابلس، بل مساجد الضفة كلها، ومنابر المسجد الأقصى، ومحاريب المساجد في أراضي عام 1948 تشهد للشيخ حامد ما جلجل على منابرها وما صدح به وما أثّر فيه وما أنار الطريق وأرشد الحائرين في وقت كانت فيه الدعوة الإسلامية غريبة عن الناس، فأحياها وأوقظ الهمة وبعث الحماس في نفوس العاطشين.

واسمح لي أيضاً أن أمرّ على نشاط الشيخ وهمته، فكم مرة كان يجد الشباب في الحي الذي يسكن فيه يقومون بتنظيف المسجد أو إزالة الأتربة من حوله، حيث كان بناؤه جديداً، فتتفاجأ بالشيخ وقد لبس سرواله وخلع دشداشه وأتى مع الشباب يحمل التراب ويزيل الركام وينقل ويساعد بهمة ونشاط، وهو من هو! بل لقد بلغ من علو همته ونشاطه في أيام السجن، أن الإدارة كانت تعطي ساعة للرياضة للمساجين، فتأذن لمن يريد أن يخرج من الساعة السابعة صباحا وحتى الثامنة لممارسة الرياضة في ساحة السجن، فلم يكن يخرج إلا الشيخ حامد، وربما هو أكبر الموجودين سناً!

وكان رحمه الله مساعداً للفقراء، يبحث عن من يحتاج فيرسل له، أو يومئ للشباب كي يساعدوه، ويسعى لتزويج الشباب والفتيات وعفتهم، فكم مرة سعى في تزويج بعض الشباب غير القادرين، أو بعض الأخوات ممن يرغبن بالزواج، حتى كان رئيساً لجمعية العفاف. وحتى في السجن، حيث أن كل سجين يكاد لا يوجد معه من الملابس إلا ما يسدّ حاجته، فكان الشيخ لا يتردد في مساعدة الشباب الجدد في السجن، ويقاسمهم بعض أغراضه وحاجياته وملابسه رحمه الله.

وكان دوماً يسعى للإصلاح بين الناس، والتخفيف من حدة المشاكل العائلية وبين الجيران ما استطاع. ولقد كان الشيخ متواضعاً بامتياز، فتراه يشارك الناس في كل المناسبات، أفراحاً كانت أو أحزاناً، ولا يقصّر معهم أبداً أبداً إلا وتجده في مقدمة الصفوف.

بل إنني لا أنسى يوم خروجي من سجون الاحتلال، كيف كان الشيخ على علو قامته ورفعة منزلته، ينتظر وصولي مع ثلة من الشباب الصادقين، فما أجمل أن تجد عظيماً كالشيخ حامد ينتظر وصولك من السجن، وكأنه يقول لك يا ابن الحركة الإسلامية: أنت غالٍ علينا وعزيز عندنا وحبيب إلى قلوبنا فلا تحزن لما أصابك.

هكذا كان الشيخ، وهذه هي بعض الإشراقات الرائعة من حياته المفعمة بالعطاء والجهاد، إننا حقاً قد خسرنا رجلاً كان جبلاً لا يهاب، أنى لنا بمثله؟! واللهِ إنني لا أظن أن عندنا أحد يمكن أن يسد مسد الشيخ في كلمة الحق بلا خوف من لومة لائم، وما رأيت أحداً أجرأ منه في كلمة الحق ولا أشد تواضعاً على سعة من العلم وعلو في المكانة.. ولكننا لا نقول إلا ما يرضي ربنا، اللهم أجرنا في مصيبتا واخلف لنا خيراً منها، وحسبنا يا حماس أنك ودود ولود، وأن الخير باق في هذه الأمة إلى يوم الدين.