القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الجمعة 29 تشرين الثاني 2024

اتفاقية أوسلو والنفق المظلم

اتفاقية أوسلو والنفق المظلم

د. سنية الحسيني

لم يتفاءل كثير من الفلسطينيين عندما ذاعت أنباء تؤكد نية القيادة الفلسطينية توقيع اتفاق سلم مع إسرائيل. وتعددت وجهات النظر، وتصاعدت حدة اختلافات الرأي ما بين التأييد والاعتراض، إلا أن منظمة التحرير الفلسطينية وقعت في النهاية على اتفاقية أوسلو مع إسرائيل عام 1993. وبموجب ذلك الاتفاق قامت، ولأول مرة منذ عهد طويل، سلطة فلسطينية تمارس دوراً ادارياً في الاراضي الفلسطينية.

وبعد عشرين عاما من توقيع اتفاقية أوسلو، أثبتت التجربة صحة تنبوءات المتشائمين، فالقضية الفلسطينية عالقة في نفق مظلم، تعاني مأزقا قائماً وحالة من الجمود المستعصي، فليس هناك مؤشرات على الارض الفلسطينية تدل على امكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات مقومات متعارف عليها، ولم يعد مستقبل العملية السلمية التفاوضية مع إسرائيل غامضاً، بل أصبحت العملية السلمية مع إسرائيل برمتها عملية مضللة ومستحيلة من وجهة نظر غالبية الفلسطينيين

استطاعت إسرائيل عبر اقناع أو ارغام الفلسطينيين على توقيع اتفاقية أوسلو، التي غيرت واقع القضية الفلسطينية باقتدار كبير، وأنتج توقيع الاتفاقية وتبعاته، نجاح إسرائيل في تحويل واقع الاراضي الفلسطينية المحتلة قانونياً، من أراض محتلة يتعاطف معها المجتمع الدولي برمته، إلى أراض متنازع عليها ُيحسم مصيرها عبر المفاوضات. فصمت العالم أمام الانتهاكات الاسرائيلية للحقوق الفلسطينية طوال الاعوام العشرين الماضية، على أساس أنها قضايا يجب الحسم فيها عبر المفاوضات.

نجحت إسرائيل كذلك ومن خلال توقيع اتفاقة أوسلو في اخماد الانتفاضة الفلسطينية الاولى، التي انطلقت عام 1987، تلك الانتفاضة التي أحرجت إسرائيل سياسياً وأخلاقياً، ورسخت حقيقة كونها دولة احتلال تمارس العنف ضد أبرياء عزل. كما ألحقت أضراراً بالغة بها اقتصادية واجتماعية، ووصفت خسائر إسرائيل آنذاك من جراء المقاطعة الفلسطينية لمنتجاتها، واضراب حوالي مئة ألف عامل فلسطيني وتكاليف قمع الانتفاضة، بالخسارة الهائلة.

وجاء الانجاز الأهم لاسرائيل بفعل توقيع اتفاقية أوسلو، عندما قامت بتصفية الدور النضالي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ذلك الدور الذي تبنته المنظمة لعقود عديدة، فانتهت المقاومة المسلحة ضد إسرائيل من الخارج، وانتهى دور منظمة التحرير الفلسطينية عملياً في مقاومة إسرائيل، وتحملت السلطة الفلسطينية مهام المنظمة فعلياً، مع بقاء السلطة الفلسطينية مكبلة ببنود اتفاقيات مع إسرائيل تحدد لها الاطار العام لسياستها.

إن قضاء إسرائيل على المقاومة الفلسطينية القادمة من خارج الارض المحتلة، هدف طالما سعت إسرائيل مدعومة من قبل حليفتها الامريكية لتحقيقه. بدأ تحقيق ذلك الهدف باخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان عام 1982، بعد أن أقنعتها الولايات المتحدة في البداية بتوقيع اتفاق لوقف اطلاق النار، الذي تطور بعد ذلك الى استدراج إسرائيل للفلسطينيين لخرقه، وما تبعه من اجتياح إسرائيل للبنان وطرد المقاومة الفلسطينية منها، وانتهى بتوقيع اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، لسدل الستار عند آخر فصول المقاومة الفلسطينية القادمة من خارج الوطن المحتل.

ولم تكتف إسرائيل بما أنجزته بتوقيع اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين، بل عملت على استغلال تبعاته، فقضت على المقاومة المسلحة في الاراضي الفلسطينية المحتلة، إما باغتيال العديد من المقاومين الفلسطينيين بوحشية، من دون محاسبة أو مساءلة، أو بأسر المتبقي منهم، في ظل صمت دولي جائر. وباتت الاراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية عملياً أراضي منزوعة السلاح، ومضبوطة أمنياً إلى حد كبير لمصلحة إسرائيل، في ظل استمرار إسرائيل في توسيع مستوطناتها في أراضي الضفة الغربية، وزيادة عدد المستوطنيين القاطنين فيها وتسليحهم ودعمهم وحمايتهم.

إن الوضع الامني في أراضي الضفة الغربية المحتلة اليوم ينبئ بالخطر، لكنه خطر من نوع جديد، فهو ليس ذلك الخطر الامني الذي طالما تحججت به إسرائيل وتعهدت بضمانه الولايات المتحدة الامريكية، إنه الخطر الذي تجسده الاعتداءات اليومية المتكررة للمستوطنيين على أرواح وأراضي وبيوت الفلسطينيين العزل، في جميع مناطق الضفة الغربية المحتلة، بما فيها مدينة القدس. فكيف يمكن أن يحمي الفلسطينيون أنفسهم اليوم في ظل عجز متعدد الابعاد. ولعل من الصعب على المقاومة السلمية، التي لم يعد يمتلك الفلسطينيون غيرها في الضفة الغربية المحتلة، أن تدافع عن حياتهم وأرضهم من تطرف وعنف اعتداءات المستوطنين المسلحين والمحمين من قبل جيش الاحتلال الاسرائيلي، أو أن تقف في وجه توسيع الاستيطان الاسرائيلي الذي يأكل الارض الفلسطينية يوما بعد يوم، أو حتى في وجه تدنيس المقدسات. إن العجز الفلسطيني عن ردع ممارسات جيش الاحتلال الاسرائيلي والمستوطنين الموجه ضد العزل الفلسطينيين يفسر تمادي الاحتلال في ممارساته، وهي قضية لم تعد مقبولة.

إن الواقع الفلسطيني اليوم ينبئ بمزيد من التشاؤم، ليس في اطار حياة الفلسطينيين اليومية فقط في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنما باتجاه القضية الفلسطينية ومستقبلها عموماً. فحالة الانقسام الفلسطيني التي خلقت عبر سنواتها الست، واقعا فلسطينياً مشوهاً تعايش فعلياً مع وجود مجتمعين ونظامين فلسطينيين مختلفين، يجعل من الصعب على الفلسطينيين الوقوف في وجه التصعيد الاسرائيلي، سواء كان ذلك في الضفة الغربية عبر التوسع الاستيطاني وسلب مزيد من الارض الفلسطينية، وعربدة المستوطنين وتهديد أمن الفلسطينيين، أو كان ذلك في قطاع غزة عبر الحصار والاجتياح والاغتيال والهجمات العسكرية.

كما أن الواقع العربي العام اليوم يرجح الرؤية المتشائمة، ففي ظل ثورات الربيع العربي، وتصاعد الاحداث فيها، تمضي اسرائيل قدماً في تنفيذ مخططاتها بتصعيد أكبر ضد الفلسطينيين في الاراضي الفلسطينية المحتلة، مستغلة انشغال العالم عن ممارساتها. فتصاعد الاستيطان الاسرائيلي إلى أربعة أضعاف خلال عام 2012 عنه في عام 2011، كما تصاعدت اعتداءات المستوطنين بشكل أصبح يشكل خطراً من الصعب تجاهله، الامر الذي يفرض على الفلسطينيين التحرك بشكل مختلف وعدم التعويل على الموقف العربي. لم يعد الانقسام ووجود قيادتين للشعب الفلسطيني مقبولا، ولم يعد العمل ضمن نطاق اتفاقية أوسلو كذلك مفهوماً، خصوصاً بعد أن أعلن الفلسطينيون دولتهم في الجمعية العامة العام الماضي، وأصبح طرح قضية تحرير فلسطين أمراً مركزياً. وواجب على الشعب الفلسطيني أن يقرر اليوم وقف الانقسام ووقف اعتداءات المستوطنين، والوقوف في وجه الاستيطان، في اطار دولة محتلة تسعى من أجل الاستقلال في ظل قيادة فلسطينية موحدة، والبحث عن بدائل تتعدى حدود المقاومة السلمية. وليتذكر الفلسطينيون النكبة هذا العام بطريقة مختلفة تخرج عن نطاق البكاء على الاطلال، إلى البحث في سبل واستراتيجيات جديدة لاسترجاع الامال.

القدس العربي، لندن، 24/5/2013