استقالة فياض بين أزمتين
بقلم: فراس أبو هلال
حسمت
استقالة رئيس حكومة تصريف الأعمال الفلسطينية سلام فياض جدلا مستمرا منذ أكثر من
عامين، وأنهت -ولو مؤقتا- خلافا كان يهدأ حينا ويستعر أحيانا أخرى بين حركة فتح
وفياض، ولكنها -بغض النظر عن طبيعة تعامل الرئيس عباس معها- لم تحسم الجدل حول
جذور الأزمة، التي لا تعاني منها السلطة والحكومة الفلسطينية فقط، بل مجمل المشروع
الوطني الفلسطيني.
خلفيات
الأزمة
رغم
أن السبب المباشر المعلن لاستقالة سلام فياض يتعلق بالخلاف بينه وبين الرئيس عباس
على مهمة ودور وزير المالية المستقيل نبيل قسيس، إلا أن الخلافات بين الرجلين،
وبين فتح وفياض ليست جديدة، بل يمكن اعتبارها أزمة مزمنة ترتبط أساسا بتوزيع
الصلاحيات والأدوار بين الرئيس وفياض، وبموقف الأخير من حركة فتح ودورها
وامتيازاتها في السلطة.
لقد
بدأت الخلافات تظهر على السطح بعد إعلان سلام فياض عن مشروعه السياسي القائم على
مبدأ "بناء الدولة من خلال بناء المؤسسات"، والذي عده بعض قيادات فتح
عند إعلانه في أغسطس/آب 2009 تجاوزا من فياض لصلاحياته التي يفترض أن تقتصر على
إدارة مؤسسات السلطة، في حين أن الجانب السياسي هو من مسؤوليات الرئيس عباس
باعتباره رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية أيضا، وهو ما استدعى فياض للتأكيد ردا
على انتقادات فتح أن مشروعه هو في خدمة المشروع السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية
وليس برنامجا سياسيا خاصا به.
ثم
عادت الخلافات لتظهر من جديد وبشكل علني في اجتماعات مجلس ثوري حركة فتح الذي عقد
من 23 حتى 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2010، ودعت قراراته صراحة إلى إجراء تعديل وزاري
موسع لحكومة فياض، بعد أن اتهمته قيادات حركة فتح أثناء الاجتماعات بتهميش الحركة،
وبتحالفه مع شخصيات مستقلة على حساب قيادات حركة فتح التي تشكل عمليا الحاضنة
الحزبية والفصائلية للحكومة، إضافة إلى شكوى قيادات فتح من أن حركتهم تتحمل
الأعباء والتبعات السياسية والشعبية للحكومة دون أن تشارك فيها بشكل فاعل ومؤثر.
كما
أن العلاقة بين حركة فتح وسلام فياض شهدت صراعا مكشوفا تمظهر في الإضرابات
والاحتجاجات التي حركتها أكثر من مرة نقابة الموظفين العموميين التي تسيطر عليها
فتح، وكانت ذروتها في سبتمبر/أيلول الماضي، وكانت موجهة في معظم شعاراتها ضد سلام
فياض، وحملته عمليا المسؤولية عن تردي الأوضاع المالية للفلسطينيين في الضفة، قبل
أن تهدأ هذه الاحتجاجات بسبب خوف فتح من توسعها وتحول السخط الشعبي إلى الرئيس
عباس بدلا من حكومة فياض.
أما
فيما يتعلق بالأزمة الأخيرة، فإذا كانت الأسباب المعلنة تتعلق بالتدهور المالي
للسلطة الفلسطينية، والخلاف على الميزانية واستقالة نبيل قسيس، فإنها تكشف خلافات
أشد عمقا حول صلاحيات رئيس الوزراء، وحدود علاقته مع الرئيس عباس، وكما تشير معظم
التقارير فإن فياض اعتبر تدخل الرئيس في تفصيلات داخلية للحكومة انتقاصا من
صلاحياته وسيطرته على فريقه الوزاري، ولذلك تعامل مع القضية باعتبارها معركة
مصيرية لا مجرد خلاف جزئي.
ومع
تعدد الأسباب والخلفيات، يمكن أن تلخص بمظهرين، الأول يتعلق بالوضع المالي للسلطة
الفلسطينية والسياسية الاقتصادية للحكومة، والثاني يرتبط باختيار رئيس الوزراء
وصلاحياته ودوره، وهو ما يدفع إلى ضرورة البحث في هذين المظهرين بعمق، وعلاقتهما
بأزمة المشروع الفلسطيني برمته وليس الحكومة فحسب.
الأزمة
المالية
تابعت
وسائل الإعلام خبر إعلان سلام فياض عن حجم المديونية العامة للسلطة الذي يبلغ 3.8
مليارات دولار باعتباره حدثا مهما، وتزايد الاهتمام بالموضوع بعد الربط بينه وبين
استقالة فياض، وذهب بعض المراقبين للقول إن حجم المديونية يشكل مفاجأة، ولكن
المفاجأة الحقيقية هي عدم توقع مثل هذا المبلغ من المديونية، بل عدم توقع وصول
اقتصاد السلطة الفلسطينية إلى حافة الانهيار.
ومن
الضروري الإشارة إلى أن هذا التدهور الاقتصادي ليس مرتبطا بسلام فياض وإدارته كما
تحاول أن تشيع قيادات حركة فتح، بل إن هناك حالة قد تصل إلى الإجماع لدى
المراقبين، على أن إدارة فياض للإيرادات خففت من حجم الإنفاق، وقللت من حالات
الفساد التي كانت مستشرية في مؤسسات السلطة منذ إنشائها، كما أن كثيرا من مفاصل
الخلاف بين حركة فتح وفياض كانت تنطلق من محاولة الأخير تقليص الامتيازات التي
يحصل عليها كبار الموظفين في السلطة، الذي ينتمي أغلبهم لحركة فتح.
ولا
يعني هذا القبول بمنهج سلام فياض فيما يتعلق بالمشروع الوطني الفلسطيني، إذ إن
الموقف من نهجه لا يرتبط بإدارته الاقتصادية بقدر ارتباطه بمشروعه السياسي الذي
نختلف معه جملة وتفصيلا، خصوصا سعيه الدؤوب لتحقيق مشروع السلام الاقتصادي، وتورط
حكومته بالتنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، وانغماسها بتسييس التوظيف
والتعيينات في الوظائف الحكومية.
وبالعودة
للأزمة الاقتصادية، فإن من التبسيط القول إن سياسات فياض هي المسؤولة عنها، إذ إن
الجذور الحقيقية لها تعود إلى طبيعة تشكيل السلطة الفلسطينية، وربط اقتصادها عضويا
بالاقتصاد الإسرائيلي، وتقييد اقتصاد السلطة باشتراطات ومطالبات الاحتلال من خلال
اتفاق باريس، وهو الاتفاق الذي ينظم عمليات الاستيراد والتصدير في مناطق السلطة من
خلال البوابة "الإسرائيلية"، ويفرض سياسة محددة بأسعار المشتقات
البترولية، وبقيمة الضريبة المضافة، ويربطها بمثيلاتها في دولة الاحتلال، رغم فارق
الدخول الهائل بين مواطني السلطة ومواطني دولة الاحتلال.
ولكن
اتفاق باريس -على خطورته وأهمية تأثيره- لا يمثل العقبة الوحيدة أمام نهوض اقتصاد
السلطة الفلسطينية، بل أن أهميته تتضاءل أمام السيطرة السياسية والأمنية
الإسرائيلية على السلطة، بحيث تستطيع دولة الاحتلال معاقبة السلطة وابتزازها
للحصول على مواقف سياسية "غير وطنية" أو لا تحظى بإجماع وطني من خلال
منع الاستيراد والتصدير، وحجز العوائد الضريبية، إضافة إلى إغراق الضفة الغربية
وقطاع غزة بالمنتجات "الإسرائيلية"، وتوقيف عجلة الاقتصاد التجاري
والسياحي والصناعي والزراعي عبر اتباع سياسة تضييق الحركة، وتكثيف الحواجز
الأمنية، ومصادرة الأراضي، وغيرها من الإجراءات التي لا تعد ولا تحصى.
ولذلك
فإن المشكلة الاقتصادية الحقيقية هي مشكلة بنيوية، لا يمكن لأي حكومة بغض النظر عن
اسم رئيسها أن تحلها، بل هي في أحد مظاهرها الجوهرية مشكلة سياسية ووطنية، لأنها
قدمت لـ"إسرائيل" احتلالا مجانيا دون أعباء، ومنحتها القدرة على ابتزاز
الفلسطينيين من خلال بوابة الاقتصاد.
من
يشكل الحكومة الفلسطينية؟
السؤال
هنا بالطبع لا يتعلق باسم الشخص الذي سيكلفه الرئيس عباس بتشكيل الحكومة، فهذا أمر
شكلي لا يصل إلى جذر الأزمة، ولكن السؤال معني بالأساس بتحديد العامل الأكثر
تأثيرا وقوة باختيار اسم وشخصية رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، ومدى التداخل بين
الأبعاد الوطنية والإقليمية والدولية في هذا الاختيار، حيث يظهر تاريخ استحداث
منصب رئيس الحكومة الفلسطينية رغم عدم وجوده في القانون الأساسي للسلطة
الفلسطينية، والإرهاصات التي رافقت تحديد من يشغله منذ استحداثه، أنه منصب خاضع
أساسا للاعتبارات الدولية ثم الإقليمية، في حين تحضر الاعتبارات الوطنية
الفلسطينية في ذيل قائمة الاعتبارات المؤثرة فيه.
لقد
استحدث المنصب أساسا بناء على رغبة وضغط دوليين، بعد أن قررت القوى الدولية وقف
التعامل مع ياسر عرفات ورفع الغطاء السياسي عنه، متأثرة بالقرار الأميركي الذي بات
يعد عرفات جزءا من المشكلة، ويحمله مسؤولية إشعال واستمرار الانتفاضة الفلسطينية
الثانية حسب الرواية "الإسرائيلية"، وهو ما دفع الولايات المتحدة
وحلفاءها في العالم والإقليم للضغط على عرفات لإحداث منصب رئيس وزراء يصلح التعامل
معه وفق النظرة الغربية، وقد حدد سلفا من سيشغل هذا المنصب وهو محمود عباس، الذي
جاء أخيرا لرئاسة الحكومة بعد أن فقد عرفات كل الأوراق التي تمكنه من الاستمرار
بمخالفة الرغبة الأميركية والدولية بهذا الخصوص.
بالطبع
استطاع عرفات أن يتخلص من محمود عباس في سبتمبر/أيلول 2003، بعد أقل من خمسة أشهر
من تشكيله للحكومة، وبعد سلسلة من المعارك السياسية الضارية بين الرجلين، التي
وصلت إلى ذروتها عندما بدأت جهات فتحاوية يعتقد أنها مؤيدة للرئيس عرفات بتسيير
مظاهرات رفعت شعارات حادة ضد عباس، وهو ما دعا الأخير لتقديم استقالته من منصبه،
ثم ليدفع عرفات حياته بعد حوالي أربعة عشر شهرا من استقالة أبو مازن، ثمنا لرفضه
المتطلبات الأميركية و"الإسرائيلية" فيما يتعلق بالموقف من الانتفاضة
والمقاومة، وامتناعه عن منح دور كبير لعباس خصوصا في مجالي الأمن والتسوية.
أما
سلام فياض، فقد فرضته هو الآخر على عرفات وزيرا للمالية الولايات المتحدة والاتحاد
الأوروبي في العام 2002، وكان تعيينه ضروريا للحصول على المعونات الأميركية
والأوروبية في ذلك الوقت، ثم عين رئيسا لحكومة تصريف الأعمال بعد الحسم العسكري
لحركة حماس في يونيو/حزيران 2007، وقد جاء تعيينه من الرئيس عباس لإدراكه بأهمية
وجوده في هذا المنصب للحصول على المعونات التي كانت قد توقفت جزئيا بعد فوز حماس
في الانتخابات التشريعية وتشكيلها للحكومة الفلسطينية في العام 2006.
إن
استعراض هذه المحطات التاريخية المتعلقة باستحداث منصب رئيس الوزراء في السلطة
الفلسطينية، والطريقة التي تم بها اختيار من شغلوا هذا المنصب، يهدف أساسا للوصول
إلى جذر الأزمة التي كشفتها استقالة فياض، وهي أن المشروع الوطني الفلسطيني قد حشر
في شرنقة أوسلو، وتحول من مشروع تحرري وطني إلى مجرد سلطة منزوعة السيادة تتحكم
القوى الدولية بهياكلها السياسية، ومؤسساتها البيروقراطية، سواء من حيث الشكل
والتركيبة أو من حيث تحديد أصحاب المراكز الرئيسية في هذه المؤسسات.
وختاما،
فإذا كانت أزمة استقالة فياض قد كشفت أمرا -ليس جديدا على أية حال- يتعلق بالتبعية
والارتباط العضوي لاقتصاد السلطة الفلسطينية بإسرائيل وداعميها الغربيين، وبخضوع
السلطة الإجباري للحسابات الخارجية في هيكيلتها وتعيين مسؤوليها ورموزها وعلى
رأسهم رئيس الوزراء، فإن هذه الأزمة يجب أن تشكل فرصة للشعب الفلسطيني للتفكير
جديا بالبحث عن الحلول الجذرية لأزمة المشروع الفلسطيني، وهي حلول لا يمكن أن تنجح
إلا إذا وصلت إلى المراجعة الجدية لمسار أوسلو، والبحث في البدائل الوطنية للخروج
من هذا المسار، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق إلا بإدراك كل الأطراف الفلسطينية أن
مشروع أوسلو قد وصل إلى طريق مسدود، وأن استمراره لا يعني إلا إعفاء
"إسرائيل" من مسؤوليتها، بالحصول على احتلال ثمنه يساوي صفرا.
المصدر: الجزيرة نت